هواجس السادس والأربعين!
مع التدوينة السنوية السابعة على التوالي -كالتزام سنوي بكتابة تدوينة في يوم ميلادي- أواجه بياض الصفحة أمامي، ولا يخطر ببالي سوى سنوات عمري التي تُسرِع كلما أردتها أن تتمهّل، وتُبطئ كلما تلهّفت على مرورها! أتفكّر في حالي كإنسان مثل كل إنسان يتحكم به وَهْم مرور الزمن!
يلاحقني هاجس مؤخرًا: أتذكّر والدي عندما كان في مثل عُمري. أقارن بين أفكاره حينها وأفكاري الآن. ملامحه آنذاك وملامحي التي أراقبها الآن. أحيانًا يطاردني شبح اعتقاد بأنني سأرحل عن العالم في نفس العمر الذي ترك فيه هذه الدنيا. قبل بلوغ الستين بعام واحد. ربما يلاحقني هاجس المقارنة بسبب هذا الاعتقاد.
بَدَأَت معاناة أبي الصحية عندما كان في العام السادس والأربعين من عمره، عندما تعارضت الأدوية التي يتناولها مع الممارسات الصحية التي بدأها آنذاك استعدادًا لمواجهة خطر صحي لاح في أُفُقِه. لم تُمهله إصابة مجهولة أن ينقذ نفسه من بداية وضع صحي يتدهور كل يوم.
ومن يستطيع أن يدرأ عن نفسه إصابة مُفاجئة؟! تراودني الفكرة وتدفعني إلى المقاومة. فأحاول أن أتجنّب كل ما قد وقع فيه أبي عن جهالة، أو ربما عن عمد بسبب الوقوع في فخ الكسل المعسول.
لا أعرف ما الذي كان يُفكّر فيه أبي عندما كان في مثل عمري اليوم، فلم يكن بيننا عُمقًا في الحديث إلى الدرجة التي تُمَكّنَه من البوح لي بمكنونات صدره. كان هذا ضربًا من الخيال آنذاك لكثير من الناس. لكنني أتصوّر أن تفكيره لم يكن ليكون بعيدًا عما يدور في عقلي الآن.
عندما أُفكّر في عمري الآن (46). أتأمل شعوري عندما كنت يافعًا حين كنت أرى هذا السن كبيرًا جدًا، بينما الآن أشعر بأنه مُنتصف العمر، أو بأن من في هذا العُمر لا يزال يشعر ببعض الحيوية والشباب. ربما كان أبي يرى ذلك أيضًا في نفسه. ولكن عندما ننظر في الصور التي التُقطت منذ خمسين عام مثلًا، سنجد أن هناك فرق شديد الوضوح في تأثير العُمر والزمن على ملامح البشر مقارنة بعصرنا الحالي. لا جدال في أن الناس هذه الأيام صارت ملامحها أصغر وصحتها أفضل وملابسها أكثر عصرية. وكل هذا يُعطي انطباعًا بصغر السن، عكس ما كان في عصر مضى.
ربما كنت أفكر في هذه الهواجس من فترة طويلة، بل ومن قبل أن أتجاوز الأربعين من عمري. لكنني كنت أنعم بانشغالات عُمر الشباب. صداقات عديدة، وارتباطات عائلية كثيرة، ولقاءات اجتماعية لا تنتهي، وطموح جامح في العمل، ومسؤوليات عائلية ومادية أقل.
عندما تنقشع تدريجيًا الأمور التي تشغلنا في الحياة، حين تقلّ الصداقات، ويتفرّق الرفاق، وتتبدّل نفوس من يرافقوننا في الحياة. تتباطئ وتيرة الحياة وتقل مباهجها.
في كل عام يمر أشعر بأن إحساس الوحدة داخلي يتمدّد ويتعاظم. ولا أدري إن كانت هذه المشكلة مشكلة عُمْر، أم أنها مشكلة طرأت بسبب تغيّر شكل الحياة اللتي نعيشها. عصر وسائل التواصل الاجتماعي.
الجميع فجأة صار لا يكترث بأي شيء. لا بعلاقة شخصية ولا بواجبات اجتماعية. ازدادت الفردانية والأنانية بشكل مُفرط، وصار شعار ”أنا أولًا“ هو الشعار الذي يؤمن به الجميع. كفر الكُل بحقوق وواجبات كانت بديهية، لكنها أمست اليوم تُزدَرَى بتوصيفها أوصافًا مشينة. لا حقوق لأب أو لأم أو لجار أو حتى لابن أو لابنة؛ إن هدّدت هذه الحقوق السلام الداخلي للمرء!
تتناقص الرغبة في الحديث، والميل إلى الكتابة، والسعي إلى التواصل؛ على مستوى الأصدقاء وعلى مستوى العمل وحتى على المستوى الأدبي. صارت الكثير من اللقاءات مجرد تمثيليات مليئة بالمداهنة والتَملّق والمُراءاة. لقاءات تشعرني بالغثيان. أتجنب أغلبها. ويبدو لي الآن أن التواصل الفردي المباشر أكثر راحة وأكثر صدقًا.
يتغيّر العالم من حولي، وأنا لا أتغيّر. أو لَعلَّني أتغيّر وأنا لا أدري.
ربما أصبحت دخيلًا على هذه الدنيا. أو ربما صرت غريبًا عن نفسي!