random
أخبار ساخنة

الدواء المُرّ

 


في عامي الرابع بعد الأربعين… أزعم أنني خرجت من عنق الزجاجة!


بعد عامين من الاضطراب والصخب الذي كتبت عنهما في العامين السابقين في تدوينتيّ ”نَفْسٌ غير هادئة“ و ”أأنا من أظنّه أنا؟!“، أنجح هذا العام بالكاد في التعافي من آثار تلك الأخطار التي تحدثت عنها. أو هكذا أتصوّر!


حاولت هذا العام خلق مساحة متوازنة -قدر المُستطاع- تسمح لي بمستوى مقبول من الهدوء الذي افتقدته فترة طويلة. كان قراري الذي اتخذته هو عدم إجبار نفسي على الكتابة. وأن أقاوم رغبتي العارمة في القراءة بلا توقف. أن أخصص وقت فراغ كي لا أفعل فيه شيئًا!


لا يمكنني وصف صعوبة هذا الأمر لشخص مثلي، ولا وصف مدى ضيقي من هذا القرار، لكنه كان كالدواء المُرّ. 


لا بُد أن أعترف أنني كُنت مُستنزفًا في الأعوام الأخيرة السابقة -اقرأ مقالي "ما يسرقه النجاح منا - عن متلازمة الاحتراق النفسي"- وأنني -يا للغرابة- لم أكن أكره هذا الاستنزاف، ذلك من شدة حُبي وتعلّقي بما أفعله. لكن التجربة علمتني أن حبنا وشغفنا من المُمكن أن ينهكنا بل ومن المُرجّح أن يُدمّر حياتنا إن تسبب في كسر توازن الحياة من حولنا. 


الكتابة والقراءة شغفي ولا أشعر بالاكتمال سوى بهما. لكنني وقعت في فخ الإغراء وانجذبت لعالمها بكل طاقتي خاصة في الأعوام الثالثة الفائتة. انطلقت في كتابة المقالات والقصص القصيرة والروايات وروايات لليافعين ومراجعات عن الكتب، ومراجعات عن أجهزة قراءة إلكترونية، والقيام بالنشر الذاتي على منصات مختلفة، والاهتمام بموقع منصة عالم موازٍ ، وأيضًا بقناتها على اليوتوب. انسحبت تدريجيًا من مختلف مجالات الحياة الأخرى اجتماعيًا وأُسريًا. بت أعيش في عالم ليس فيه سوى الحروف المكتوبة والصفحات الفارغة والمسودات المكتملة وغير المكتملة. وعلى مدار بضع سنوات لم يعد لدي وقتًا لقضائه مع الأصدقاء أو مع الأسرة أو حتى للقيام بهوايات أخرى.





لم أنتبه إلى غياب هذا التوازن إلا مُتأخرًا جدًا. بعد أن أعماني الشغف عن ضرورة حاجة النفس والروح إلى الراحة والتجديد والتوازن.


في هذا العام… أجبرت نفسي على تجاهل الكتابة في بعض الأحيان، وتخفيف القراءة، وتقليص التواجد على منصات التواصل الاجتماعي. باختصار حاولت كبح جماح نفسي التوّاقة إلى الانغماس في القراءة والكتابة. وبدأت في القيام ببعض الهوايات الأخرى، بالإضافة إلى محاولتي أن أتلمس تذوّق جمال العالم والحياة بأساليب مختلفة عن القراءة. وأن أجد إجابات مختلفة عن تساؤلاتي من أرض الواقع ومن الأشخاص من حولي لمحاولة موازنة استقاء كل معلوماتي من الكتب بشكل حصري، مما يجعلني أفتقد أفكار الناس التي تشاركني واقع الحياة. كانت غايتي في ذلك أملي في أن تثري محاولاتي تلك مُخيلتي وآرائي.


أقرّ بأنني لم أحب هذا كثيرًا حتى بعد مرور عام من هذا القرار، لكن منذ متى نحب كل ما ينفعنا؟!


مثلًا: لم أحب أنني لم أكتب العدد الذي أكتبه سنويًا من مراجعات الكتب.

لم أحب أنني لم أكتب سوى قصة قصيرة واحدة هذا العام.

لم أحب أنني لم أُكمل روايتي الثانية ولم أكتب فيها حرفًا هذا العام.

لم أحب أنني لم أكمل مشروع الكتاب الثاني لعالم موازٍ للقصة القصيرة.


ربما أشعرني ذلك بالتعاسة بعض الوقت، بيد أنني فكرت أن الأهم ليس الكمّ وإنما المضمون والأثر. وكيف يُمكن للكتابة أن تكون مُتقنة إن كانت النفس مشوّشة ومرتبكة؟

 

عندما أعدت النظر وجدت أن على الرغم من ضيقي إلا أنني انتبهت إلى التأثير  الناتج عن قراري والذي بدأت أشعر به.


على سبيل المثال: شعرت بالهدوء أخيرًا بعد سنوات من القلق المُستمر.

أصبح لدي وقتًا للتفكير في العديد من الأمور والمواضيع.

تمكّنت من إعادة ترتيب أفكاري المتعلقة بمشاريعي الأدبية والثقافية.

أصبح لدي وقت للاستمتاع مع أسرتي من جديد.




كنت أتوق إلى مساحة للراحة، ولم يكن هذا ليحدث إلا بالبحث الفوري عن التوازن. وعندما وجدت تلك المساحة ولمست السكينة فيها وهنأت نفسي ببعض الراحة، تولّدت داخلي الآن مساحات هائلة من الحنين إلى الكتابة. ووجدتني أعود تدريجيًا إلى القراءة بشكل متسارع.


اليوم تنقشع سحابة جثمت بعض الوقت على صدر سمائي، وتتسلل أشعة الشغف مُحمّلة بنسيم مُنعش يمنح الروح رغبة جديدة في الحياة والمشاركة.


في عامي الرابع بعد الأربعين من عُمري أكتشف أن التجربة أهم من المعرفة المُجرّدة. وأن الإنسان المُثقف يغفل -في سذاجة- عن أنه عُرضة للوقوع -غرورًا- في فخ الجهل، وأن معرفته قد تكون سببًا في إخفاقه!



أحمد فؤاد

12 أيَّار مايو 2023

author-img
أحمد فؤاد

تعليقات

4 تعليقات
إرسال تعليق
  • غير معرف16/5/23 12:43 م

    يبدو أننا بعد قضاء وقت طويل جدا في عالم الأحرف و الكلمات و الشخصيات الروائية و العوالم العريبة نحتاج إلى هزة تردنا إلى حياتنا. هزة تشبه الغربلة لتتناثر أجزاءنا من الثقوب و تعود لتتجمع مرة أخرى. بعد ثلاثة أعوام من هجر عوالم التواصل الاجتماعي استعدت جزءا قديما مني و اكتشفت أنتي كنت في شوق لنفسي مرة أخرى. هنيئا لك اكتشافك و ستلاحظ تغيرات جديدة بعد أن تخرج من دوامة ( تألق و نجاح) إلى يابسة( عش حياتك و استمتع)
    ريم بدر

    حذف التعليق
    • Ahmad Fouad photo
      Ahmad Fouad8/10/23 3:23 م

      أغبطكِ على استعادتكِ لجزء من ذاتك. لكن الأمر ليس فقط العيش والاستمتاع على اليابسة، وليست مساحات التواصل الاجتماعي بالغة السوء. جزء من مشكلتي أن الحياة الواقعية ليست كما أتمنى وأفتقد فيها الأشخاص التي تُفكر وتقرأ وتتفهم. كما قلت. التوازن هو أهم شيء. ربما لست على حق. ربما أحتاج إلى الابتعاد عن أي شيء حولي. لكن أنّى لرجل رب أسرة أن ينعزل لفترة من الزمن حتى ولو من أجل أن يستعيد ذاته؟!

      حذف التعليق
    • كاتب حر photo
      كاتب حر18/5/23 12:11 م

      أعجبني كتابتك وبالتأكيد سوف اتابع قراءة هذه المدونة المميزة اتي من تليجرام

      حذف التعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent