random
أخبار ساخنة

بعد غروب طويل

  




في عامي الخامس بعد الأربعين… الحياة بين أن نقتات الذكريات وبين أن نحاول التأقلم على الجدب!



مع هذه الحروف تُشرق روحي على هذه المساحة البيضاء بعد غروب طويل. رغبة صادقة في الكتابة يُكبّلها التسويف، ولا ينقذها سوى التزامي السنوي بالعادة التي استحدثتها -منذ ست سنوات - بكتابة تدوينة في يوم مولدي بعد أن أكملت الأربعين من عمري.


ربما أكون محظوظًا كون هذه المساحة التي أعود إليها. جامدة لا تعي التغيرات التي تنتابني، ولا تلتفت إلى مشاعري المُتقلّبة. فهي تُصاحبني على ما أنا عليه، ولا تجادلني أو تشتكي من تغيّر أحوالي المُتكرر. فالبشر -وأنا منهم- لا يطيقون هذه التغيرات التي تنتاب نفوس من حولهم. 


  
تجمعنا الأيام بأحباب وزملاء وأصدقاء. تتطوّر العلاقات. تتوثّق الصِلات حتى نظن أنها لن تُقطع مهما طالت بنا الحياة. لكن الحياة تجبرنا على تقبّل حقيقة أن الإنسان جاهل مهما حاول التعلّم. وحقيقة أنه لم يُخلق على هذا الكوكب إنسان لم يظن نفسه -بحماقة- أنه الشخص الوحيد الذي قد تختلف الأمور معه. 


تمر الأيام ونتغيّر شئنا أم أبينا. ربما تتغيّر عاداتنا، أو أفكارنا أو مبادئنا. تتضاءل نقاط التلاقي مع الآخرين تدريجيًا. ويظن كل واحد منا أنه لم يعد يلزمه أن يقدم تنازلات من أجل الآخرين.


بمرور الأيام، ومع انشغال كُلٍ منا بمشاغل الحياة. نبتعد تدريجيًا. ربما نبتعد لأسباب حقيقية وربما لا ننتبه بالأساس لهذا البعد إلا بعد فوات الأوان. 


عندما ينادينا الحنين ونشعر بافتقادنا للآخرين. تغمرنا رغبة صادقة في لقائهم. لكن تختلف غاية رغباتنا تلك في حقيقة الأمر. 


 
هناك من يرغب في اللقاء من أجل أن يهرب من مشاكل الحياة. أي يعتبر اللقاء مُسكّنًا للآلام أو ربما يعتبره مجرد مشروب منعش في وسط حياة لاهثة. هؤلاء وبمجرد أن ينتهي اللقاء يختفون لأيام وأسابيع أو لشهور وربما لسنوات، يختفون كي يظهروا مرة أخرى في أوقات لا يحتاجهم فيها أحد!


نجد الحياة تتأرجح بنا بين اختيارين: إما أن نقتات على الذكريات وإما أن نحاول التأقلم على الجدب. ربما لهذا يرغب بعضنا في اللقاء بأحبائهم القدامى من أجل أن نلملم بعض الذكريات المتناثرة في زوايا عقولنا. لعلها تمنح بعض النضارة لأرواحنا اليابسة.





لكن يحدث كثيرًا أن نلتقي بمن نتوق إلى لقائهم فنجدهم قد تغيّروا. أو ربما نحن من تغيرنا في حقيقة الأمر.


نبحث بإخلاص عن شرارة الوصل التي كانت في يوم من الأيام تبدو وكأنها غير قابلة للإخماد. لكننا بعد لقاء أو اثنين نكتشف أن ما مات لا يُمكن أن تُكتب له الحياة مرة أخرى. لا… ليس هناك طرف مُخطئ -وهذا أمر مُحزن في حد ذاته- ولكن الأمر ببساطة أن ما كان يجمعنا من قبل لم يعد موجودًا. والأكثر تعقيدًا أن هذا الذي كان يجمعنا قد لا نعرف ماهيّته أبدًا. نُسميه تآلف الأرواح، أو الحُب، أو التناغم أو الصداقة. تذبل العلاقة بالأخير وتبقى علاقة ودّ مستمرة بفعل القصور الذاتي لمشاعر إنسانية ذاوية



أما أقسى أنواع الغياب فهو غياب من يقاسموننا الحياة. من نتحدث معهم كل يوم. نراهم رؤى العين لكنهم كالسراب. نسمع أصواتهم ونتحدث معهم، لكننا نظل على هامش حياتهم! نظريًا…لا نستطيع اتهامهم بالتجاهل أو الإهمال. لكن عمليًا… لا أحد منهم يكترث بنا أو بما نرغب حقًا في مشاركته مع أي منهم. لسنا في مركز اهتماماتهم إطلاقًا. فما أقسى أن تنظر في عين إنسان لا يراك!



جميعنا مُنهكون من سرعة الحياة ومن الضغوط الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تعصف بمجتمعاتنا في السنوات الأخيرة. لهذا فأكثر ما نحن في أشدّ الحاجة إليه هو الابتعاد لفترات وجيزة من هذه الضغوط. وهذا لن يكون سوى بتوطيد العلاقات الاجتماعية النقيّة التي لا بُد من أن نسقيها الاهتمام ونحرص ألا تجفّ. لإنها لو جفّت فلن يُقدّر لها أن تحيا مرة أخرى. وحينها سنعيش دومًا في وِحدةٍ حقيقية.



 
إن أعظم ما يمتّن له الإنسان في حياته، وخاصة في أواخرها: المحبّة الصادقة، العلاقات المُجرّدة من المصالح، التواصل المُترع بالاهتمام.



مكالمة هاتفية مع صديق. رحلة مع رفيق الدرب. تخييم مع الأسرة. جلوس مع من نحب بعيدًا عن صخب العالم. كلها مجرد أفكار بسيطة لها عظيم الأثر في النفس.

  

في العام الخامس والأربعين من عمري أكتب هذه الخربشة لنفسي:

 


انشغل… اكتئب… افرح… احزن… سافر… لكن احرص دومًا أن تعود.


المهم ألا تغيب شمسك عن أرواح الآخرين.


   

أحمد فؤاد
12 أيَّار مايو 2024

  


تدوينات بعد الأربعين





google-playkhamsatmostaqltradent