random
أخبار ساخنة

أأنا من أظنّه أنا؟!

 

   



   
 

في عامي الثالث والأربعين... أكتشف أن ما يُدمّر حياة الإنسان حقًا ليس الألم وإنما الخوف منه.


 

عندما كتبت تدوينتي "نَفْسٌ غير هادئة" -اضغط هُنا- في يوم ميلادي العام الماضي، كنت أحاول أن أُنبّه القليل ممن يقرؤون كلماتي باكتشافي أن الخطر الحقيقي على الإنسان يكمن داخله وليس خارجه كما ظننت. لكنني فوجئت بكلماتي تبلغ مدى لم أتوقّعه. تواصل معي الكثير من القُرّاء بسبب تلك التدوينة تحديدًا، خاصة وأن هناك شخصية شهيرة (توفيّت العام الماضي - رحمها الله تعالى) عَرفتُ أنها قد أوصت بقراءة تدوينتي على مجموعاتها وحساباتها على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة.

 

أدركت في تلك اللحظة أنني لست وحدي -في هذا العالم- الذي يجاهد كي يكون شخصًا مُتزنًا. وأن هناك الكثير ممن يتأرجحون كل يوم في مساحة شاسعة تقع بين خيار إيثار النفس مع تجاهل حقوق الآخرين، وبين خيار جلد الذات ومحق حقوقها من أجل رضا الآخرين!

 

لديّ شغف حقيقي تجاه علم النفس. حتى أنني أظن أن نصف عُمري قد قضيته في التفكير في خبايا نفسي البشرية المُعقّدة. لعلّ شغفي هذا يعود إلى كوني أتحدّث بلا انقطاع -منذ أن وعيت- إلى شخص آخر داخل رأسي يُشاركني اهتماماتي وشغفي وذكرياتي. في الحقيقة؛ أنا في صراع دائم معه! يحاول كُلٌ مِنَّا السيطرة على الآخر. قد يملك أسلحة كثيرة في مواجهتي، لكنني أعترف -بعد مواجهات عديدة بيننا-أن أعظم أسلحته هو قدرته على تضخيم مخاوفي واستغلالها ضدي!

 

الذات... الأنا... الأنا العُليا... الهو... النفس... الهويّة الذاتية. هي مفاهيم مُتعددة مُتراكبة من أجل الوصول إلى الإجابة عن سؤال "من أنا؟"

 

بالتأكيد لديّ تصوّر شخصي عن نفسي، لكن "أأنا مَن أظنَه أنا؟!"

 

أسئلة عديدة تتوالى: هل تقديرنا الشخصي لذواتنا صحيح؟ أم أن أهواءنا تراوغنا؟ هل معاييرنا صحيحة وهل مقاييسنا عادلة؟ أم أن معلوماتنا تحتاج إلى إعادة ضبط ومُعايرة؟ أيمكننا ترويض أنفسنا بأنفسنا؟ وكيف نتأكد أننا قد نجحنا في ذلك؟

 

أعتقد أن مهما بلغت قدرتنا على ترويض أنفسنا أو التصالح معها، إلا أن هناك حاجة مُلحّة للاطلاع على تجارب الآخرين. لأن المتغيرات التي نواجهها في الحياة تجبرنا على التساؤل في كل فترة "هل نحن على صواب؟" هل نحن راضون عن أنفسنا حقًا أم أنها تخدعنا؟" "هل نحن متحاملون على من حولنا؟ أم متنازلون عن حقوقنا؟"

    


   

عندما أتأمّل مَن حَولي، وأستمع إلى قصصهم، أُذهَل من القدرة الهائلة التي تمُارسها علينا أمخاخنا. قدرتها على تعزيز ثقتنا بأنفسنا أو على تدميرها تمامًا! تمكُّنها من إشعال انتفاضتنا على ضِعفَنا، أو من وأد ثورتنا على أنفسنا وتطويع إرادتنا الحُرّة. براعتها في خلق سجون غير حقيقية لنبقى أسرى أوهامنا.

     

تعلّمت من اطلاعي على مشكلات الآخرين أن أتعلّم من أخطائهم التي لم أرتكبها بعد! وأن أتراجع - قبل أن يفوت الأوان- عن حماقات مارستها طويلًا، وأن أعمل على تنقيح قناعاتي وتطويرها بشكل مُستمر حتى آخر يوم في عمري.

 

رُبما لهذا السبب أحببت قراءة الأدب. التعرّف على قصص الآخرين، وعلى الخيارات التي لم أجرؤ على القيام بها في الحياة ومعرفة مآلاتها. صحيح أن بعضها قد يُغذّي خوفي تجاهها، لكنني أُفَضِّل أن أُعِدَّ نفسي لمواجهة أسوأ الأمور بدلًا من تجاهلها والتظاهر بأنها لا تحدث إلا للآخرين. أرى في ذلك تدريبًا للنفس على مرارة الفَقد والألم. إن وَقَع أمرٌ سيء؛ فسيكون لديّ فكرة مُسبقة عمّا أواجهه. وإن لم يحدث؛ فعلى الأقل سأكون مُدرِكًا لمتاعب الآخرين ومُتفهِّمًا للألم الذي قد يمرّون به.

 

 بل ورُبّما لهذا السبب أصبحت قاصًا. أخلق أحداثًا مُختلفة لمئات الاحتمالات، مزيجًا من قصص واجهتها في الحياة وأخرى تخص مَن حَولي. أحاول في قصصي تغيير أمورًا بسيطة لم ينتبه أصحابها إلى قدرتهم على إصلاحها، أو لم يكن لديهم الوعي الكافي أو الوقت المناسب لتغييرها.

   



  

أكتب في قصصي -أو حتى في تدويناتي- ما قد لا يستطيع البعض التعبير عنه. أحاول تقديم المساعدة لنفسي قبل أي شخص آخر بإلقاء الضوء على المشكلات أو تقديم حلولًا لها. يملأني الأمل في أن يجد القارئ فيما أكتبه بُقعَة الضوء التي كان ينشدها في عتمته. لعلّ هناك من هو حبيس في سجن أوهامه يظن أنه الوحيد الذي يُعاني. قد يجد أحدهم -في كتاباتي- تجربة مشابهة تدفعه إلى البحث عن طريقة للتحرّر من ضلالاته، أو أن يجد بين السطور ما قد يُساعده على تحمّل مُعاناته.

 

نتعلّم كلما كبرنا أن نُضجنا يجعلنا أكثر قُدرة على تحمّل مصائب الدنيا. فنظن أنه يُمكننا تجنّب الألم، أو تخفيف حدّته حين وقوعه. لكن تجاربنا في الحياة تخبرنا أننا غير قادرين على تجنّب الألم على طول الخط. وأننا كلما تجنّبناه كُلما ازدننا هشاشة، ذلك لأنه الثمن الذي ندفعه لتعلّم كيفية الاستمرار في الحياة.

 

قد يُخَلِّف الألم ذكرى سيئة، وقد يخلق مرارة لا تزول، لكنه من الصعب أن يُدمّر حياة الإنسان بشكل كامل. ما يُدمّر حياة الإنسان حقًا ليس الألم وإنما الخوف منه.

 

على عكس نهاية عامي الماضي، فإن نفسي تتجه هذا العام -ببطء شديد- نحو الهدوء، بعد أن خفّ داخلي كثير من ضجيج الاضطراب الذي لازمني خلال الرحلة رقم 42 من عمري. - تدوينة "نَفْسٌ غير هادئة" - اضغط هُنا

 

اليوم ينقضي عامي الثالث بعد الأربعين دون صخب. أو لعلّني فقدت القُدرة على تمييزه!

 

 

أحمد فؤاد

12 أيَّار مايو 2022

google-playkhamsatmostaqltradent