عندما تعيش في بُقعة كبيرة يخبرك كل من فيها بأن الحياة خارج أسوارها جحيمًا لا يُطاق، وأن القائمين على هذه البُقعة التي تعيش خلف أسوارها - يُضحون بحياتهم كي يحموك ممن يتربّصون بك؛ كي يخرجوك من الجنة التي تعيش فيها حسدًا وطمعًا وكُرهًا لك. لا بُد أنك ستشعر أنت ومن معك حينها بالامتنان إليهم. إلى أن يأتي اليوم الذي ستسأل فيه نفسك. إن كانت هذه هي الجنة، فما هو الجحيم إذن؟!!!
التاريخ الإنساني... لا التاريخ السياسي
في رحلة مُرهقة نفسيًا وذهنيًا تأخذنا الكاتبة يونغ تشانغ في رحلة عبر تاريخ الصين. بالتحديد في الفترة من 1909 إلى 1978. اختارت يونغ أن تقص علينا حياة ثلاث نساء (جدّتها وأمها وقصتها هيّ) تُمثل هذه القصص تعاقب ثلاثة أجيال، لترسم خطًا اجتماعيًا سياسيًا للمجتمع الصيني في تلك الفترة والتغيرات الدرامية التي مرّ بها.
ربما يشتكي بعض القُراء من الإسهاب الشديد الذي ملأ الكتاب في بعض المواضع. في الحقيقة… لم يصبني الضيق أو الملل في أي جزء من أجزاء الكتاب على الرغم من قضائي حوالي خمس عشرة ساعة من القراءة. كانت التفاصيل الدقيقة التي كتبت عنها يونغ، تجعل القارئ يعيش كواحد من أهل الصين في كل حقبة من الحِقب. تنقل الكاتبة حكايات كل شخصية حسب رؤية تلك الشخصية، وتدع القارئ يحكم بنفسه على بعض الروايات التي لم تعرف الكاتبة رأي الشخصية لانتهاء علاقتها بها أو موتها لاحقًا.
يلمس القارئ أحاسيس كل شخصية محاولاتها في الأزمنة التي عاشت بها. عن نفسي شعرت بآمال الشخصيات وطموحاتها وإيمانها بقضيتها ومحاولاتها الدفاع عن تلك القضية. شعرت بإحباطاتهم وآلامهم وعجزهم وذهولهم وخيبة أملهم. كانت بعض الشخصيات تُمثل روح الإنسان الفِطري ورغبته في نشر الخير. لكن الشر دومًا وأبدًا يتربّص بالخير. وفي أغلب الأوقات يُدمّره ويقضي عليه.
ربما نعرف جميعنا المَثَل الشهير ”الكَثرة تغلب الشجاعة“ لكننا نرى في الواقع أن الخِسة والنذالة والخيانة هي ما تغلب الشجاعة وتوئدها. تُدمر النفوس وتُغيّب الأمل وتُحطّم أشدّ الرجال صلابة. يجتمع مثلث الشر والخوف والقسوة فيُنتج الجنون ويذعن الجميع. والثمن فقط تدفعه الشعوب البائسة.
الطريق إلى الجحيم مفروش بالنوايا الحسنة.
جاءت الثورة الشيوعية أو الاشتراكية بآمال عريضة كونها كانت ضد الإقطاعيين. ثورة نشأت من الفلاح لتنتصر للفلاح والمواطن البسيط المظلوم المُستغَل. وقد نجحت الاشتراكية بشكل مَذهل في بدايتها عندما صدقت فعلاً في فرض العدل في عموم الصين أول الأمر. ليس هذا فقط، بل قامت بنبذ العادات السيئة التي كانت تسيء إلى المرأة وتمحق حقها تمامًا سواء في الأسرة أو في الزواج أو في العمل.
هذا ما جعل الصينيين ينتمون إلى الاشتراكية ويُضحون بالغالي والنفيس من أجل إنجاحها واستمراريتها.
لكن الإنسان هو الإنسان. ولا بد أن يُدمر بعض البشر بحماقة كل ما يُبنى في سبيل الخير.
فبعد انتهاء الحرب الأهلية، فتك الاشتراكيون بأعدائهم بقسوة بالغة. ربما يمكننا تفهّم ذلك على مضض. لكن الأبشع أنهم انتقموا ممن ساعدوهم من المواطنين المواليين لهم أيضًا، الذين وُصموا إلى الأبد -لاحقًا- كأعداء للاشتراكية ومؤيدين للرأسمالية، وذلك على الرغم من تضحياتهم ومساعداتهم التي ساعدت الاشتراكيين في الوصول إلى السُلطة.
المُغالاة… المفتاح الخفي لتحطيم كل ما هو مثالي!
بعد قيام الجمهورية الاشتراكية وتسلّم ماو السُلطة. بدأت المُغالاة في التشكّل. وصار الحزب هو الأولوية مقابل كل شيء، وأي شيء. استُخدم الشعب كسلاح ضد بعضه البعض. وباتت الرقابة الذاتية المُجتمعية لا تخضع لأي معايير مهنية أو حتى أخلاقية، بل باتت خاضعة لأهواء البعض وأداة لتصفية الحسابات.
نرى قرارات عجيبة ذات مبررات أعجب. مثل اقتلاع كل الزهور من الأراضي والجبال والشوارع لأنها رمز للبرجوازية! أو تحديد وقت مخصص يمكن للأزواج أن يعيشوا في بيت واحد في العام حيث أن بقية الأوقات يكونا منفصلين كلٍ في عمله مصنعًا كان أو مزرعة! أو قرارات تسفيه العلم وإلغاء الامتحانات الأكاديمية في إصرار على تجهيل الشعب وتدمير تراثه ومنع تعلم اللغات الأخرى وعدم السماح للمواطنين التحدث مع أي سائح.
يستمر التعنّت والإصرار بجهل على أحلام حمقاء مثل حلم ”القفزة الكُبرى“ التي رغب فيها ماو أن ينقل الصين من الزراعة إلى الصناعة في محاولة أشبه بما حدث للاتحاد السوڤيتي. لكن المحاولة تسببت في كارثة مروعة حيث كانت السبب في مجاعة بشعة راح ضحيتها زهاء ثلاثين مليون شخص. وذلك بعد أن اقتلع أغلب الأشجار كي تكون وقوداً لتصنيع الفولاذ في كل أنحاء الصين.
أعقب ذلك حملة ”الثورة الثقافية“ وهي من أبشع الحملات في ذاك العصر. كان المُعلن أن الهدف هو التخلص من ”أنصار الطريق الرأسمالي“ في الدولة من المواطنين. لكن المصيبة أنه لم يكن هناك أي معيار. وحرّض ماو الطلاب المراهقين أن يكونوا ما عُرف بالجيش الأحمر. وقاموا بأكبر عملية تدمير للتعليم في الصين. قام الطلبة منهم بإذلال المُعلمين وضربهم وتعنيفهم بشكل بشع لأن كل العلوم بخلاف الكتاب الأحمر والماوية والاشتراكية هي علوم تدعو إلى الرأسمالية وتُفسد الشعب. بالإضافة إلى ذلك قاموا بدهم البيوت وتحطيم التُحف و إحراق الكُتب والانتقام من الكُتاب وإجبار البعض منهم رؤية أعماله تُحال إلى رماد. دفع كل هذا الكثير إلى الانتحار. وتسببت هذه الثورة الثقافية إلى أن تفقد الصين أغلب تراثها المكتوب، والكثير من المعالم الثقافية والتاريخية.
كان الهدف الحقيقي هو دفع الشعب إلى الإذعان المُطلق للرئيس ماو. وقد كان له ما صبا إليه للأسف.
ملحوظة: كل ما كتبته لا يشي بالكثير فيما جاء في ملحمة ”بجعات برية“ فالكتاب مليء بالتفاصيل والقصص الجميلة والمروعة على حد سواء. صراع شديد بين الخير والشر. وعلى الرغم من كل البشاعة الموجودة فيه إلا أن هناك دومُا بذور خير تنبت وسط كل هذا الجنون.
على الهامش
كُل ما زاد عن حدّه انقلب إلى ضدّه.
من المفارقات الجديرة بالتأمل، أن الثورة الاشتراكية والتي جاءت لتحرير المستضعفين مثل الفلاح ضد الاقطاعيين. وإعطاء كل شخص الحرية والكرامة اللازمتين. والتي جاءت أيضًا لتحرير المرأة من الوضع المأساوي التي كانت تعيش فيه. تسببت بتدمير أهم ما كان يُميز الشعب الصيني ألا وهو التبجيل الشديد للعائلة.
لَمَّا جاءت الثورة الاشتراكية أعلنت أن الأولوية القصوى لكل مواطن هي للحزب ومصلحة الصين العُظمى بدلًا من العائلة. وبالتالي لم يكن للأب أو الأم أو الزوج أو الابن أولوية بالنسبة إلى المواطن. فقط الصين هي الغاية -بعدها كانت للحزب ثم لاحقًا لماو فقط- مهما تسبب ذلك في التضحية بهم.
وبالتالي ومع الولاء الكامل لماو أو للصين أو للحزب الشيوعي فقط. كان من السهل لاحقًا أن تتبدل الأولويات ويكون الجيل الجديد من الصين أكثر انفتاحًا وتلقيًا لمبادئ الرأسمالية المعتمدة على الفردانية وليست العائلة. جيلًا مُتحررًا من الولاء للعائلة أو للحزب. خاصة وأن الصين بالأساس تُعتبر دولة علمانية (ليس بالشكل الغربي) فهي مبنية على المعتقدات الروحية الكونوفشية (نسبة إلى كونفوشيوس) وهي معتقدات لا يعتبرها الصينيون دينًا في حد ذاتها. صحيح أن حرية المعتقد الديني حق أساسي حسب الدستور الصيني إلا أن المشكلة هي تحكم الصين في طريقة التعبير عنه. اليوم نرى الصينيين في معترك الرأسمالية، مع محاولات الدولة في كبحها ودمج أي نجاحات شخصية لتعود إلى الدولة.
المُعلّم… صرح مُنهار
مؤلم جدًا مشاهد تعنيف المعلمين وقمعهم وتعذيبهم وإهانتهم وإذلالهم ليس على يد السلطة وإنما على يد تلاميذ مراهقين. إنه أمر قاسٍ إن تأملناه لمدة دقيقة واحدة. انهيار المنظومة الأخلاقية. منح سُلطة مُطلقة لشباب مراهقين مترعين بأحاسيس متناقضة مثل الغضب والكُره والحسد وعدم العقلانية، خاصة مع عدم وجود أي معايير للُحكم. أدى إلى كارثة أخلاقية اجتماعية علمية في المجتمع الصيني، خاصة وأن المُعلم في الثقافة الصينية رمزًا مُبجلًا وله احترام وقُدسية في الماضي.
مزاعم بالمُبالغة
لا بُد أنني فكرت مثل البعض بأن هناك مبالغة مما ذُكر في الكتاب، والحقيقة أن هناك صعوبة في تقصي حقيقة التفاصيل كلها، كونها تفاصيل صينية مكتوبة بلغة صينية بالأساس. والمعلومات المتوفرة بالإنجليزية ربما تكون موالية للغرب وتُشيطن الصين. ربما. لكن الحقائق هي الحقائق. المجاعة والثورة الثقافية والاجتماعات التنديدية والقتل المُمنهج والقسوة البالغة وروايات الصينيين الهاربين، كلها تثبت أن كل شيء حقيقي. نعم بالتأكيد قد تكون بعض المبالغات بسبب أن الكتاب تأثر بشعور الكاتبة ووجهة نظرها ورؤيتها لهذا التاريخ. لكن التفاصيل لم تكن سياسية الطابع كلها، وإنما كانت اجتماعية محضة في كثير منها. تفاصيل معيشية من الصعب جدًا أن تُدحض. لم أجد أيضًا كتابًا كذّب ادعاءات الكاتبة مكتوب بالإنجليزية على الأقل كمحاولة للرد.
من المؤلم أننا ندرك أن ما حدث في الصين ما زال يتكرر إلى اليوم بأشكال مختلفة وإن كان بحذر وبشكل أقل قسوة- فقط بسبب ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار الانترنت والبث الحي.
اقتباسات
كان يقال لي دائماً، وكنت أصدق، إنني أعيش في فردوس على الأرض، في الصين الإشتراكية، في حين أن الرأسمالية جحيم. والآن سألت نفسي إذا كانت هذه هي الجنة فكيف يكون الجحيم.
مثل كل الصينيين كنت عاجزة في تلك الأيام عن التفكير العقلاني، كنا مطوعين ومشوهين بالخوف والتلقين، بحيث لا يمكن تصور الخروج عن الطريق الذي رسمه ماو.
بدا أن الصينيين نعوا ماو من الصميم. ولكني كنتُ أتساءل كم من دموعهم كانت صادقة. لقد مارس الناس التمثيل، إلى درجة أنهم أخذوا يخلطون بينه وبين مشاعرهم الحقيقية.
لقد تمكن ماو من تحويل الشعب إلى سلاح الدكتاتورية الأمضى. ولهذا السبب، لم يكن في عهده معادل حقيقي لجهاز الكي. جي. بي، في الصين. لم تكن هناك حاجة إلى ذلك.
السمة الأخرى للماوية، على ما كان يبدو لي، هي سيادة الجهل. بسبب حسابه أن الطبقة المثقفة هدف سهل لسكان، كان معظمهم أميين، وبسبب حقده الدفين على التعليم النظامي والمتعلمين، وبسبب جنون العظمة لديه،الذي أدى إلى ازدرائه أعلام الثقافة الصينية، وسبب احتقاره لوجوه الحضارة الصينية، التي لا يفهمها، مثل العمارة والفن والموسيقى، فقد دمَّر ماو الكثير من تراث البلاد الثقافي. ولم يخلف وراءه بلداً مُتوَحشاً فحسب، بل أرضاً بشعة، فيها القليل مما تبقى من مجدها السابق.
وكانت المدينة تغصّ بالمتسوّلين الذين يعرضون أطفالهم مقابل الغذاء. وكانت أمي، طيلة أيام، ترى خارج مدرستها أمرأة ضامرة، يائسة في مظهرها، هامدة في أسمالها على الأرض المتجمدة. وإلى جنبها تقف فتاة في حوالي العاشرة، وعلى وجهها تعبير الفقر البليد. وكانت تنتأ من خلف ياقتها عصا، عليها لافتة تقول بكتابة ركيكة :«ابنة للبيع بعشرة كيلوغرامات من الرز)) .
وخلال ما يقرب من أربعة عقود، لم تُرفع درجة أمي إلاً مرتين، في عام ١٩٦٢ وفي عام ١٩٨٢، وفي كل مرة صعدت درجة واحدة فقط، وبحلول عام ١٩٩٠ كانت لا تزال في الدرجة ١٥. وبهذه الدرجة لم يكن يحق لها ، في الثمانينات، أن تشتري تذكرة طائرة أو (مقعداً ناعماً)) في القطار : هذان لا يمكن أن يشتريهما إلاَّ مسؤولون من الدرجة ١٤ فما فوق . وهكذا بفضل مواقف أبي في عام ١٩٥٣، كانت أمي بعد حوالي أربعين عاماً، تبعد درجة واحدة عن السفر المريح في بلدها نفسه. ولم يكن في مقدورها أن تقيم في غرفة فندق لها حمامها الخاص، لأن هذه الغرف هي للدرجة ١٣ فما فوق. وعندما تقدمت بطلب لتغيير عدّاد الكهرباء في شقتها، وتركيب عدّاد ذي قدرة أكبر، أخبرتها إدارة العمارة، أن المسؤولين من الدرجة ١٣ فما فوق وحدهم، الذين لهم الحق في عدّاد.
ذات يوم من عام ١٩٦٥ ، قيل لنا، فجأة، أن نخرج ونبدأ بإزالة كل العشب من المروج. فقد أفتى ماو بأن العشب والزهور والاحتفاظ بحيوانات أليفة، هي عادات بورجوازية، ينبغي القضاء عليها.
إن في مقدوري تفهّم الجهل، ولكني لا أستطيع القبول بتمجيده، وأقل من ذلك القبول بحقه في السيادة.
عندما سمعتُ عن السهولة التي نُحي بها النظام بعد موت ماو ، شعرتُ بموجة حزن. كيف يمكن مجموعة صغيرة كهذه، من طغاة من الدرجة الثانية، أن تعبث بمقدرات 900 مليون إنسان، كل هذا الوقت؟
التقييم النهائي
كتاب بجعات برية للكاتبة الصينية يونغ تشانغ، قصص ملحمية مليئة بالتفاصيل الحياتية. رغم أن الكتاب يحمل بين طياته الكثير من المعاناة والقسوة، إلا أنه لا يخلو من لحظات تكشف جانب الخير في الإنسان، وسعيه الدائم للمساعدة والعطاء، وإصراره على تجاوز الصعاب والمحن بقوة وقدرة على التحمل والمواجهة.
للأسف… من النادر أن يعترف الأفراد /القادة/الدولة بأخطائهم التي ارتكبوها حفظًا لكرامتهم. لكن الكبرياء الحقيقي هو أن يقوم الإنسان/القائد/الدولة بمواجهة نفسه والآخرين بإباء مُعترفًا بأخطائه ورغبته الصادقة في تصحيح المسار، وليس الكبرياء أن يدفن الإنسان رأسه في التراب مُتجاهلاً تلك الأخطاء هربًا من المسؤولية.
ولهذا تبقى الحقيقة التي لا تتغير: أن الشعوب -في كل الأوقات- هي دائمًا من تدفع الثمن.
- نجمة = لم يعجبني
- نجمتان = مقبول
- 3 نجوم = أعجبني
- 4 نجوم = أعجبني بشدة
- 5 نجوم = استثنائي