random
أخبار ساخنة

نَفْسٌ غير هادئة

 

     



    

اليوم، أُكمِل العام الثاني بعد الأربعين. ما زالت رحلتي مُستمرّة في الحياة.

 

يتعمّق إدراكي ويزداد نُضجي. وأختبر كل يوم معنى مخبوء للحياة. وأعيّ أن للمعرفة ثمن، وأننا كلما عرفنا واكتسبنا معرفة أو حِكمة أو إدراك؛ فلا بُد أن تُخمَش أرواحنا بعلامات ذلك الإدراك! نلتمس الحِكمة فنحظى بالألم. ونسعى إلى اليقين فيعترينا الشك. ونبتغي السكينة فيدركنا الكدر. إنه الأثر الجانبي لهكذا معرفة.

 

يصبح التأمّل وسط القسوة التي تعصف بحياتنا هذه الأيام جنونًا وحماقة، أو لعلّه وسيلة مضمونة للوقوع في براثن اكتئاب حاد قد ينتهي بالانتحار!

 

تلاحقني أفكارٌ سوداوية كثيفة رُبما نتجت عن الكمّ الهائل من الأخبار التي توضح تخبّط الجميع في عصر أصبح الناس كلها فيه خبراء وأطباء وعلماء مُتخصّصين!

 

فيروس مُفترِس، وقيد جبري، وتجوّل محظور، وسفر مُعلّق، وحدود مُغلقة، وصلاة ممنوعة، وتواصل محفوف بالمخاطر. اقتصاديات تنهار، وبطالة تزداد، وحكومات مُتخبّطة، وقرارات متضاربة. أخبار مُزيّفة ونصائح مُضلِّلة، وإحصائيات مغلوطة. تطعيمات لازمة، ونظريات مؤامرة، وحقيقة ضائعة، وتعليم تائه. عنصرية بغيضة، وقوانين مُفصَّلة، وتنمّر قاسٍ، وتسلّط متوحّش.

 

أحاول الانسحاب من ذلك الصراع المجنون الذي يدور من حولي لألوذ بعُزلة علّني أحافظ على سلامة عقلي. لكن سخام أحداث العالم يحجب عنّي نور روحي التي اختنقت تحت هذا الركام.

 

العالم يحترق من حولي. حروب مُستعرة وأخرى باردة، وقتال مُستمر باسم الشعوب، طوابير خامسة، وثورات مُتأججة، وسلطات قمعية، وديموقراطيات مؤدلجة، وديكتاتوريات صارمة، وشعوب لا تأبه لهم ولا ترغب سوى في الخلاص منهم جميعًا! عراق ينزف ولُبنان يُمثّل به وشام مُحطّم، ويمن مذبوح. انفجارات مُتلاحقة ودمار فتّاك وانتهاكات مهينة وسط تجاهل عالمي وقح. وانتفاضة حيّة في قدُس لا يموت.

 

أهرب إلى عالم الكُتب فأجد فيها ما خُفيّ عنّي في واقعي. تُعرّي الكُتب زيف الحقائق المُضلّلة أحيانًا، بينما تختلق كُتب أخرى أباطيل بلون الحقيقة. توثّق معاناة وفظاعة وبشاعة مخفية بعناية وسط الصمت المُبتسم على محيا البشر المظلومين من حولنا، بعد أن أخرس البعض ألسنة البوح لديهم. تختلط الأمور بين فئات مُتنازِعة على الحق، ولا يبقى صادقًا سوى الظُلم الواقع على البشر الذين لا حول لهم ولا قوة. لا أملك سوى التعاطف معهم، لكن ولكثرة المصائب وتنوّعها وهولها بدأت أشعر بأن تعاطفي السلبي قد بلغ بي حدّ الإحساس بالتقصير تجاه معاناة البشر!

 

تُلاحقني الأسئلة الوجودية في كل يوم. الشر والظلم والخلق والحياة والوجود. أبحث عن تفسيرات جديدة تُلملم ما تبعثر من قناعاتي. تسألني ابنتي عن معنى العدالة فأتلعثم. وأخشى الشرح وأهاب أن أعطيها مثالًا فتجد في واقعنا ألفًا يُناقض ما أخبرها به! أتعلّق بإيماني وأحاول أن أزرع مثله بداخلها كي يعينها في رحلتها في اكتشاف الحقيقة يومًا ما.

 

يزداد انطوائي. يؤلمني التفكّر، يوجعني التَبَصّر. أتوق إلى اللجوء لنزعة جنينية مؤّقتة لحماية جهازي العصبي المُنهك. لا أنشد سوى السكون وإن كان فارغًا أجوفًا مُقفرًا، فقط من أجل التقاط الأنفاس.

 

لكن كيف السبيل إلى ذلك إن كان الجميع يعتبر الصمت جُبنًا لا تريُّث، والسكوت خيانة لا تثبُّت من الحقّ، والسكون ضَعفًا لا إعادة تنظيم للنفس، والضِعف شينًا لا محاولة لإصلاح الخلل، والاختلاف جريمة لا شجاعة في المواجهة.

 

أدركتُ هذا العام أن الإنسان أضعف بكثير مما يظن؛ على الرغم من قوته التي يخالها تحميه من مصائب الدنيا. وأن قوته مهما عظمت تظل مُعلّقة بحالته النفسية الهشّة. وأن سلامته النفسية هي الضمان الوحيد لصموده -عاقلًا- في هذه الحياة.

 

في العام الثاني بعد الأربعين من عُمري أكتشف أن الخطر الحقيقي على الإنسان يكمن داخله وليس خارجه كما ظننت!

 

 



أحمد فؤاد
12 أيّار مايو 2021

 

google-playkhamsatmostaqltradent