أما زالت للقراءة فائدة في عصر النهضة الرقمي وهيمنة أدوات الذكاء الاصطناعي؟
"ما هذا الجهاز؟"
سألني زميلي في العمل هذا السؤال حين مروره على مكتبي صباح الأسبوع الفائت. نظرت إليه وهو يُقلّب جهاز القراءة "كندل" في يديه. ابتسمت قائلًا: "هذا جهاز قراءة إلكتروني". فهزّ رأسه مُتفهمًا وهو يقول: "غلاف كتاب غير تقليدي".
تأملت غلاف الكتاب الذي يظهر على شاشة القارئ الإلكتروني "مهزلة العقل البشري" قبل أن أجيبه: "صحيح غلاف مُختلف والكتاب مميز". أخذ يُردد العنوان بصوت خافت وكأنه يزنه على لسانه. ثم ترك الجهاز وهو يطلق حُكمه النهائي في سخرية: "مهزلة العقل البشري… يا له من عنوان مبالغ فيه. يبدو أنك "فاضي" - يقصد أن لديّ وقت فراغ هائل، ولا أجد ما أفعله.
لم تفاجئني العبارة، فأنا في الحقيقة قد اعتدت على مثل هذا الهجوم منذ أن بدأت القراءة في الصف الخامس الابتدائي. ولكن لا أنكر أن في كل يوم تزداد دهشتي من إصرار كثير من الناس على هذه الرؤية السطحية للقراءة رغم تقدّمهم بالعُمر.
يظن الكثير أن القراءة بشكل عام فعل قد عفا عليه الزمن، ولم يعد له فائدة تُرجى منه في عصر النهضة الرقمي وهيمنة أدوات الذكاء الاصطناعي.
وكما تُروّج أغلب اختراعات العصر الحديث. فإن أهم المميزات التي توفرها للإنسان هي الوقت. وهذا ما قد فعلته بالفعل. في الماضي كان تقليص الوقت يهدف إلى راحة الإنسان من المجهود البدني من أجل التفرّغ إلى التركيز على المجهود الذهني وتعلّم أشياء جديدة في الحياة. أما اليوم فقد صار الهدف هو تقليص الوقت الذي يستهلكه الإنسان لإتمام أي عمل ذهني (قراءة - كتابة - تعلّم لغة - تمرينات بدينة - تمرينات ذهنية - تعلم أساسيات العمل Business).
صرنا اليوم في عصر الأتمتة أو الاختصارات Shortcut. بات الهدف هو "كيف يمكن الوصول إلى النتيجة في أسرع وقت ممكن". وبالطبع الأمر ليس سيئًا بشكل عام، فمن المفيد حقًا أن يتجنب الإنسان العقبات والأعمال التي تستهلك وقتًا طويلًا. لكن الثمن الذي ندفعه في عملية اختصار الأعمال Shortcut أو الاعتماد المُفرط على أدوات الذكاء الاصطناعي وأدوات البحث مثل جوجل وأدوات الترجمة الفورية. كل هذه الخدمات الرائعة تثبط في الإنسان عملية التعلم نفسها.
إن حاجة العقل إلى بذل مجهود لحفظ المعلومات أو للبحث المُضني؛ تنخفض أو قد تنعدم كلية، كون النتائج الجاهزة متوفرة في أي لحظة وبوفرة على الانترنت أو من خلال التطبيقات. فبضع ضغطات أو مجرد توجيه سؤال للمساعد الذكي لتصبح المعلومة جاهزة بشكل فوري. وبالتالي سيُفضّل العقل أن يبذل مجهوده في عمليات أخرى ما دامت تلك المعلومات متاحة بالفعل.
تنخفض قدرة عقولنا تدريجيًا وتقل مهارتها في الاحتفاظ بالمعلومة وتدريب النفس على الربط بين الأفكار والمعطيات والاستنتاجات. ربما لو تأملنا لحظة حياتنا قبل انتشار الهواتف المحمولة لتذكرنا قدرتنا على حفظ أرقام التليفون الخاصة بمنازلنا وبأصدقائنا وأقاربنا، واليوم ربما لا نحفظ رقم هاتف أبنائنا وأهالينا. نفس الشيء ينطبق على أساسيات البحث في القواميس أو على قدرة العقل على إجراء العمليات الحسابية Mental Math قبل انتشار الآلة الحاسبة.
إن كفاءة التفكير تنخفض إن لم يتعرض الإنسان إلى ما يثير تفكيره ويُحفزّه على التفكّر والتأمّل والاجتهاد.والقراءة هي أكثر ما يحفّز العقل على التفكّر والتأمّل في جميع المجالات.
القراءة تزيد التواصل الاجتماعي وتُعمّق المساحة المشتركة بيننا وبين الآخرين من خلال الاطلاع على أفكار البشر المختلفة ومشاكلهم ومعاناتهم، بل وربما على أمراضهم.
القراءة تُلهم المواطنين الدفاع عن حرياتهم، وفهم حقوقهم المجتمعية والسياسية، وتوضح لهم مسؤولياتهم ومدى خطورة ضعف الوعي بها.
القراءة تخلق الوعي الثقافي والاقتصادي والصحي والسياسي والاجتماعي، بالإضافة إلى إعداد عقول قادرة على الفهم والإدراك واتخاذ القرار. وذلك من خلال مقارنات مسهبة وإيضاحات وافية تخلق من الفرد إنسانًا ناضجًا يُمكنه الحكم على كثير من الأمور من حوله، والتي تخلص في النهاية بتمكينه من مقاومة الظُلم ومحاربة الفساد ونصرة الحق والدفاع عن الكرامة.
ليس معنى هذا أن القراءة هي الطريقة الوحيدة لكل ما سبق من مزايا، وإنما هي من أهم الطرق إلى ذلك. هناك طرق أخرى مثل المحاضرات والمقابلات والأفلام الوثائقية الطويلة. ولا أظن متابعيها ممن يرغبون في التعلّم والتفكّر هم من الفئة التي تهاجم القراءة وتجدها بلا قيمة. وإنما يفعل ذلك المهوسون بتلخيص كل شيء سواء كان كتابًا، أو تعليمًا، أو فِكرًا، أو معلومة. أو ربما مُحبي نماذج الفيديوهات بالغة القِصر مثل ال Shotrsوفيديوهات التيك توك.
القراءة تحميك عن عبث وسائل التواصل الاجتماعي وهوس المواضيع الساخنة Trends والتي تُستخدم لإشعال الفتن وفرض التسطيح المُخِل، وقتل الوقت، لخلق أفرادًا يسهل التحكم فيهم وإغوائهم بكل يُسر لتغذية الآلة الاستهلاكية الجبارة.
تخطّر في بالي كل هذه الأفكار في لمح البصر وأنا أتأمّل زميلي الذي يرمقني بابتسامة ساخرة لم تفارقه، وهو يُنقّل نظره بيني وبين جهاز القراءة على مكتبي.
يترقّب ردّي بينما أفكّر كيف يمكنني أن أشرح له كل هذا صدًّا لسخريته.
أحسم أمري وأبتسم له قائلًا: "عندك حق… أنا فعلًا فاضي“
أحمد فؤاد
السابع عشر من آيار مايو 2024