random
أخبار ساخنة

مراجعة "هل فعلها؟" – ستيفان زفايغ






تُرى أيمكن أن يَنْحَطّ الحيوان فيصير مثل بعض البشر؟!



الغريزة


العقل هو ما أكثر ما يُميّز الإنسان عن الحيوان، بينما الغريزة هي أكثر ما تجمع بينهما. فالغريزة -وهي الصفة المشتركة بين الجنسين- تُحرّك كليهما من أجل هدف واحد هو البقاء على قيد الحياة. لكن مع اختلاف بسيط حاسم. إن سيطرت الغريزة على الإنسان فقد أهم ما يتميّز به. عقله!

يكافح الإنسان شهواته من أجل أن يرتقي بروحه ونفسه، فإذا سيطرت عليه شهواته (غضب-انتقام-حسد-طعام-مال) انهارت منظومة الأخلاق في عقله وينحطّ إلى مرتبة أدنى من الحيوان ذلك لأنه يُبرر لنفسه حقارته مع بني جنسه، خاصة التي لا تفيده سوى بالاستمتاع بإيذاء الآخرين!




القصة الأولى "هل فعلها؟"


لدى الكائنات الحيّة مشاعر فيّاضة. غضب-حزن-ألم-سعادة. هذه المشاعر هي -في رأيي- سرّ تعلق البشر بالحيوانات. نباح كلب – تمسّح قطّة – ملامسة حصان – زقزقة عصفور طليق.



يشعر الإنسان بالابتهاج عندما يشاركه أي مخلوق حيّ المشاعر. وتنتابه التعاسة عندما يلمس حزنه. تتعمّق مشاعره بمرور الأيام المشتركة معه سواء كان ذلك بين البشر وبعضهم، أو بين البشر والحيوانات، بل وربما مع النباتات! نلمس ذلك في علاقة الإنسان بحصانه أو كلبه أو قطته أو جَمَلِه. بل بزهوره ونباتاته التي يرويها. 


مِن هنا يمكننا أن نفهم العلاقة المتجذّرة بين "ليمبلاي" وكلبه "بونتو". التعلّق الشديد الذي أبداه ليمبلاي تجاه كل المحيطين به ومنهم كلبه قد يبدو أمرًا لطيفًا للوهلة الأولى. لكن وكما يقول المثل الشهير "ما زاد عن حَدّه انقلب إلى ضِدّه" فقط أفسد هذا الاهتمام المُفرِط -على الرغم من حُسن النِيَّة- علاقته بكل من حوله تقريبًا، ولكن بأشكال مُختلفة الحِدّة. فالزوجة والجيران شعروا بثقل هذا الاهتمام المُتطرّف. بينما شعر الكلب بمزيج من الغيرة والتعاسة والحسرة والألم من جرّاء إحساس الفقد.




تُرى من هو المُخطئ؟ ليمبلاي أم الكلب؟ 


يأخذنا ستيفان زفايغ بقلم ساحر ليرسم مشاعر مختلفة ومتنوعة. فعلى الرغم من الجو الهادئ المريح الذي بدأت به القصة، إلا أن القارئ يشعر بالتوتر البسيط منذ الجملة الأولى، فيترقّب ما ستؤول إليه النهاية وتزداد درجة الترقب كلما تطورت الأحداث حتى وإن كان القارئ متوقعًا لها. لكنك كقارئ تسترسل مع الوصف البديع للكاتب وتحسّ بمشاعر كل شخصية فتفهم دوافعها ومبرراتها. ليس فقط مشاعر الجيران و الزوجة وليمبلاي، بل وحتى مشاعر الكلب التي رسمها ستيفان بإبداع، نجدها مُبررة وربما يشعر القارئ بالشفقة عليه.



إن افترضنا أن الكلب هو من فعلها حقًا، يُمكننا أن نتأمّل مشاعر بونتو سنجدها طفولية، أو بالأحرى مشاعر بدائية غير متطورة الفكر. فهو يأخذ قراراته غريزيًا مثل الطفل الصغير الذي يؤذي أخيه الرضيع لمجرد أنه حاز على اهتمام والديه. الكلب -كالطفل غير البالغ- لا يفهم فكرة الوحشية، هو يتعامل مع المشكلة بأن يتخلص منها فكما ظهرت من العدم فلا بُد أن تختفي إلى حيث أتت. إنه غير قادر على فهم العواقب المترتبة على أفعاله.



الإنسان العاقل هو من يستطيع التفكير في عاقبة عمله، لكن إن طغى عليه الغضب وتلبّسه الغيظ، استغلق عليه التفكير وساقته الغريزة إلى تجاهل تحذيرات عقله، وراح يحاول بشتّى الطرق تصريف غريزته بأي طريقة كانت. وهنا الاختبار الحقيقي للإنسان؛ من يمكنه أن يجاهد نفسه ومن يرضخ لإغوائها.


عندما تتأمل قصة "هل فعلها؟" لا بُد أن ينتابك تساؤل: كم من بشر بأخلاق الحيوانات يعيشون بيننا؟




القصة الثانية " ليبوريلا"


الإهمال يقتل المشاعر، والمشاعر إن ماتت لفترة من الزمن من الصعب أن تحيى مرة أخرى. حتى وإن بُعثت من جديد فكثيرًا ما تُبعث مشوّهة.

ربما يكون القسم الأول من القصة مُكررًا. جميعنا قرأنا في عشرات القصص والروايات بل وفي الكتب التاريخية والاجتماعية عن أشخاص بنفس ظروف بطلة القصة. الفرد الذي جاء إلى الدنيا بسبب علاقة غير شرعية. فيكون النبذ هو أول المشاعر التي تسكن في روحه مع أولى قطرات الرضاعة!


هذا النبذ هو المُحرّك الرئيس الذي يحكم بها هذا الفرد على البشر من حوله وعلى الحياة بِرُمّتها. تختلف ردود أفعاله حسب الظروف المحيطة والطبيعة الشخصية نفسها. احتمالات متعددة ومتباينة ستكون نتيجة المشاعر المُعقّدة والمُغتالة داخله: حقد – انتقام – تصالح مع النفس مع إيمان أو حب – رفض المجتمع ومحاولة معاقبته – انعزال تام – انتحار. لا شك أنه اختبار قاسٍ على النفس، خاصة وأن المجتمع لا يتعاطف البتّة مع هؤلاء الضحايا المساكين الذي لم يقترفوا جريرة واحدة كي يُعامَلوا بهذه القسوة.


لكن ستيفان زفايغ لم يكن ليقع في فخ التكرار المُبتذل. فبعد أن أخبرنا في أول جملة بكون البطلة ذات التسعة وثلاثين عام -والتي وُلِدَت من علاقة غير شرعية-، يتخطّى بإيجاز شديد -غير مُخِلّ- تفاصيل حياتها، مُكتفيًا بلمحات بسيطة تعطي القارئ مفاتيح فهم الشخصية، ليقوم بعدها بتصوير الكشف عن التحوّل الذي ألمّ بكريستينيا خلال سنوات عمرها. واستحضار طباع شخصيتها وربطها ببعض الطباع التي تُميّز بعض الحيوانات، ليس بهدف التحقير وإنما للتدليل على غياب المشاعر البشرية بعد أن وُئدت تحت سطح سنواتها الأربعين.




لم تكن كريستينيا إنسانة سيئة وإنما فقط انعزلت تمامًا عن المجتمع، حتى وإن كانت تعيش وسطه. هذا الانعزال أفقدها بشكل شبه كامل القدرة على التواصل بل وعلى الفهم الاجتماعي، ولم يبق لها سوى القليل الذي يلزمها كي تظل على قيد الحياة!



لا أحد رآها تضحك قطَ. وهو ما يُفاقم شبهها بالحيوان، فالضحكة... تلك الهِبَة التي تسمح للإنسان بأن يترك العنان لمشاعره لتنطلق بسعادة، لم يمنح الله مثلها لمخلوقاته البكماء، وهي هبة قد يكون الحرمان منها أصعب من الحرمان من اللغة ذاتها.



هذا الاقتباس يُدمي القلب، لأن التفاعل البشري يعتمد بشكل أساسي على إيماءات الوجه وحرارة المشاعر، وعدم التفاعل بالابتسام كفيل بإفشال أي علاقة إنسانية كانت. لكن كريستينيا هنا لم تكن ممتنعة عن الضحك عمدًا، بل أنها لم تفهمه ولم تُمارسه من قبل بسبب نشأتها القاسية وانعزالها نتيجة النبذ التي لاقته منذ طفولتها. 



وفقط عند نقطة التحوّل التي حدثت في حياتها والتي أنارت أكثر الأماكن ظُلمة في روحها، تشعر بالتغيير وتكتشف الأدوات الإنسانية للتعامل، فتبدأ في استخدامها. لكن للأسف الشديد جاء هذا التغيير مُتأخرًا. لأن تلك الأدوات الإنسانية من مشاعر وضحك؛ استخدمتها كريستينيا بلا ممارسة سابقة، فجاءت بلا روح ولا معنى وربما في غير مواضعها في بعض الأوقات، بل وعندما استخدمتها جاء استخدامها ذلك لا من أجل التعبير من مشاعرها الحقيقية وإنما كأدوات لتحقيق أهدافها ليس إلا.



مشكلة كريستينيا التي أثارها ستيفان زفايغ في قصته، هي المشاعر المشتركة بين الإنسان والحيوان الفاقد للاهتمام، والمُتعطشة روحه إلى ذرة حنوّ. إن أول شخص سيمنحه النذر اليسير من الاعتناء أو الاحترام سيكون بالنسبة للمحروم بمثابة سيدًا يملك صك عبودية. أو كما يحلو للبعض بمثابة إله. يختفي كل شيء ولا يبقى في الكون سوى العرفان للسيد الوحيد الذي مَنّ باهتمامه. وكيف لا يُقابَل ذلك بتحقيق أي رغبة للسيّد حتى وإن لم يطلبها بنفسه! يكفي أن تخطر بباله فقط!



جمال هذه القصة وتأثيرها لا يرجع فقط إلى جودة كتابتها وأسلوبها السلس الماتع في السرد الكاشف للمشاعر البشرية، لكن يرجع -في رأيي- إلى قراءتها بعد قصة "هل فعلها؟".


كان قرار الجمع بين القصتين -بل وأن تُقرأ مباشرة بعد "هل فعلها"- أمرًا رائعًا ولا يصدر إلا عن ناشر ذكي وقارئ أريب في المقام الأول. فقصة "ليبوريلا" في الواقع نُشرت قبل قصة "هل فعلها؟" بخمس سنوات تقريبًا. لكننا نشعر وكأن القصتين قد كُتِبا في فترة زمنية واحدة.



سلبية لا بُد من ذِكرها


في قصة "ليبوريلا" أسهب الكاتب في تأكيد ربط صفات بطلة القصة بصفات بعض الحيوانات، مما أدى إلى الشعور ببعض المُغالاة أو المبالغة في هذا الوصف بسبب تكراره. هذا التكرار رأيته يضعف القصة فهو قد لم يأت في بداية القصة فقط أو في موضعين أو ثلاثة، بل جاء تقريبًا كل بضع صفحات. ربما كان القارئ في الماضي يحتاج إلى هذا التأكيد المُستمر. أو ربما صار القارئ المُعاصِر لا يميل إلى الإطالة ويُفضّل عليه التلميح والإيجاز.



من فعلها حقًا؟





نصّ مخفيّ - لاطلاع من قرأ الرواية - اضغط على الأيقونة التالية:



ستيفان زفايغ


كيف يمكن للمرء أن يكتب عن كاتب جعل فيودور دوستويفسكي وليو تولستوي والأدب الروسي كله نبراسًا له؟!




لا يختلف اثنان على روعة أسلوب الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ، ليس فقط لروعة تشبيهاته والأسلوب الوصفي الماتع والسرد السلس في كتاباته. وإنما أيضًا بسبب التقاطاته وتعمّقه داخل النفس البشرية للشخصيات المختلفة. نعم ربما تكون القصة أو الشخصية التي يكتب عنها أمر معتاد أن نراه في حياتنا، ولكن بفضل سحر قلمه يخلق في كتاباته التشويق ويبثّ في نفوسنا العاطفة، فلا تمر كتاباته إلا وقد تركت داخلنا أثرًا لا يُمحى. 

وفي هذا الكتاب لم يحيد ستيفان زفايغ عن روعة أسلوبه. فالتصوير البديع سواء للمشاعر الإنسانية وتصوير الأماكن المحيطة كان في أبهى صوَره.


ولقد تولّدت داخلي قناعة بأن ستيفان زفايغ يكتب بقلم دوستويفسكي ولكن بشكل أكثر سلاسة وأقل إسهابًا وإطنابًا. وكم نحن محظوظون بذلك.

   


الترجمة


كاتب رائع ومُترجم مُدهش. لا بُد أن تكون التجربة فاتنة.




بصراحة... كان من أسباب إقبالي على قراءة هذا الكتاب هو اسم المُترجم "يوسف نبيل". لم أقرأ ليوسف ترجمات كثيرة، لكن ما قرأته يجعلني أهرع إلى قراءة ترجماته.


أسلوب المُترجم سلس واختياره للكلمات دقيقة وفصاحته وبلاغته لا يُمكن إنكارها. يوسف نبيل ترجم العديد من الكتب الأدبية لتولستوي وبولغاكوف وتشيخوف ودوستويفسكي وكافكا.


أول ما قرأت له ترجمته للكتاب الرائع "قبل شروق الشمس" للروسي ميخائيل زوشينكو، وقد أثنيت حينها على الترجمة. لقراءة مراجعة كتاب "قبل شروق الشمس" اضغط هنا 


كل الشكر له على الترجمة الرائعة التي أثرتنا في هذا الكتاب وبقية الكُتب.




اقتباسات



لم نتصور نحن الطاعنين في السن أن صفات محمودة من قبيل اللُطف، وطيبة القلب والصراحة ودِفء المشاعر يُمكن أن تقودنا إلى الشعور بالارتباك من فيضانها المتطفّل.



إن نظرة حيوان في أمسّ الاحتياج قادرة على أن تكون أكثر اختراقًا، وربما أكثر تعبيرًا من نظرة الإنسان، فنحن نعُبّر عن أغلب مشاعرنا وأفكارنا باستعمال الكلمات التي نتواصل عبرها، أما الحيوان العاجز عن النُطق فيُعبّر عن مشاعره بعينيه فحسب.



لكن تَينِْك العينين اللتين رفعتهما هي من على الأرض بِجُبن كانتا عيني حيوان جريج يرى القطيع الذي ينتمي إليه وهو يوشك على أن يندفع من بين الشجيرات أمامه.





التقييم النهائي


الحب والاهتمام لهما مفعول السحر. وهذا ليس مجازًا. لهما تأثير مذهل، ولكن على قدر روعته المُبهرة على قدر خطورته البالغة. 


ربما يُنظّر الكثيرون بوجوب الحذر في إبداء مشاعرنا وثقتنا لمن حولنا. ولكن للأسف أغلب هذه التحذيرات تذهب مهبّ الريح، لأننا ببساطة كائنات عاطفية. يظن البعض أنه حذر في منح حُبه أو اهتمامه أو إظهارهما. لكنه لا يدرك أنه فقط لم يقابل بعد شخصًا ما يجعله غير قادر سوى على غمره بكل ما فيه من عاطفة.


لكن من الصعب على الإنسان أن يكون معتدلًا في عاطفته؛ حُبًا أو اهتمامًا أو كراهية أو غضبًا أو تجنّبًا.

فليكُن وسطًا إذًا. فخير الأمور الوسط. لكن أي وسطٍ تحديدًا؟ إنها توليفتك الخاصة التي تختلف عن توليفات ملايين البشر. وللأسف... لا أحد سواك يُمكنه أن يمنحك سرها!


تقييمي للرواية أربع نجوم ⭐️⭐️⭐️⭐️

 
  
   معيار التقييم:

  • نجمة = لم يعجبني
  • نجمتان = مقبول
  • 3 نجوم = أعجبني
  • 4 نجوم = أعجبني بشدة
  • 5 نجوم = استثنائي

   

أحمد فؤاد
26 نيسان - أبريل 2024

google-playkhamsatmostaqltradent