random
أخبار ساخنة

مُراجعة رواية سادة البراري - كون إيغلدون

    
   








لا يُمكنني تخيّل السلام... لم أعرفه أبدًا - جنكيز خان






  

بهذه العبارة نستطيع أن نفهم المُبرر الرئيس لمُوحّد المغول جنكيز خان في حربه المستمرة التي لم تتوقف. إن الصور التي وصلت لنا عبر التاريخ، تصوّر لنا وحشية شعب المغول، والإمعان في التدمير وقتل الأعداء عن بكرة أبيهم، وتدمير المدن التي يعبرونها خلال غزوهم، جعلني أتساءل بشكل مُلِحّ "لماذا كل هذه القسوة؟" ودفعتني رغبة عارمة في معرفة الإجابة عن هذا التساؤل، وكان أفضل محاولة للبحث هو المقارنة بين آراء أعدائه وآراء مؤيديه، وذلك للوقوف على صورة مُحايدة توضّح لي سببًا يختفي في أوراق التاريخ.







 بحثت طويلًا في الشبكة العنكبوتية عن مصادر عديدة أجنبية وعربية، وأغلبها يستقي مصادره من كتاب "التاريخ السري للمغول" والذي هو مرجع رئيس للرواية أيضًا. تأكدّت من بعض أحداث الرواية أو الكتاب عندما قرأت مقال للدكتور محمد بن عبد الرحمن البشر، بعنوان "التاريخ السري لجنكيز خان"، يحكي عن زيارته لدولة منغوليا عندما كان سفيرًا لخادم الحرمين الشريفين بدولة الصين، وجدت الخطوط الرئيسة لتاريخ المغول وجنكيز خان موجودة في مقاله، والتي بالتأكيد قد سمعها أثناء زيارته أو حياته في تلك الفترة من الناس هناك.

  





رواية سادة البراري وهي الجزء الثاني من ملحمة السيرة الذاتية لجنكيز خان - لقراءة الجزء الأول اضغط هُنا- ، تكمل رحلة توحيده لقبائل شعبه التي عاشت لسنوات طويلة مُتفرّقين غارقين في البداوة، في سهول قاحلة قاسية في أجواءها تصبغ أرواحهم بقسوة مماثلة أو أشد قسوة. ينتقل بعدها ليغزو الصين ويُحاصر بيكين حتى يُخضعها ويجبرها على الاستسلام. الرواية ممتعة للغاية وتم تصوير المعارك الحربية بشكل رائع، تظهر براعة جنكيز خان في التكتيكات الحربية وكيفية التغلّب على الأسوار الشامخة بخوض ما يظن عدوه أنه من المستحيلات. من أجمل المشاهد التي برع الكاتب في وصفها في هذه الرواية، هو مشهد الانتحار الجماعي لأكثر من 60 ألف شابّة من أعلى أسوار ينكنج " بكين". وهذا المشهد -للأسف الشديد- حادثة حقيقية بالمناسبة.



يقول الكاتب دانييل ديفو في روايته الشهيرة " روبنسون كروز" 

  






كانت الطبيعة قد تركت هذه السمة في الدم، بأن كل الرجال سيصبحون طُغاة إذا استطاعوا




   



دفعني حُبي لعلم النفس أن أقارن بين شخصية جنكيز خان وبين شخصيات عبر التاريخ اشتهرت بالقسوة أو بإبادة أعدائها، فوجدتني أذكر هتلر -كمثال فقط – والذي رغم أنه كان يعيش حياة مُضطربة بسبب عنف أبيه ضده، إلا أنه بالنهاية كان انسان مُتحضّرًا يعيش في دولة مُتحضّرة، التزم بقوانين بلده وألفها. وهكذا قست أمثلة في عقلي لمعظم الطُغاة أو الشخصيات المدنيين الذين اشتهروا بتصفية أعدائها. لكنني شعرت بالرعب من هذه المقارنة، لأن أولئك الطغاة كانوا أهل مُدن، مُثقفين مُتعلّمين على قدر كبير من التحضّر، فكيف لهذه القسوة غير المتوقعة أن تصدر منهم بهذه الصورة. إن حياة جنكيز خان كبدوي عاش وسط القبائل حيث قسوة الطبيعة المناخية والجغرافية قد أثّرت بالتأكيد في طبيعته، حيث كان الشجاعة والقوة هما فقط ما يضمن لهم الاستمرار في الحياة، وحيث أن السبيل الوحيد للحصول على طعام -إن نضب في أماكنهم- هو الحصول عليه بالقوة عبر غارات على قبائل مُماثلة، هذه الحياة هي التي تجعل النفوس قاسية. ويشترك في ذلك جميع الرعاة أو أهل القبائل الرحّالة، وتختلف قسوتهم باختلاف درجة توحّش البيئة حولهم. وهذا ليس تبريرًا لأفعالهم، وإنما يعطينا ذلك سببًا كي نفهم ذريعتهم، لأن الفزع الحقيقي يكون عندما تأتينا القسوة ممن لا نتصوّرها لديهم. إننا نستطيع أن نتقبّل الوحشية من قاتل مُحترف، لكننا نشعر بالهلع عندما تأتينا من شخص مُهذّب يبتسم في وجوهنا!

   

  







لقد أبقونا متفرقين ألف جيل يا كيشون. لقد قاموا باستغلالنا حتى لم نعد أكثر من كلاب متوحشة. ذلك هو الماضي. لقد جمعتُ الشمل، وسوف يرتعشون خوفاً. سأمنحهم سبباً لذلك - جنكيز خان





   

  



هكذا نفهم أن الثأر هو السبب الرئيس لعنف جنكيز ضد الصين، وإصراره على توحيد قبائله لتكوين أُمّة ضخمة لمحاربة الصين وجعلهم يدفعون الثمن غاليًا. يرى جنكيز ضرورة قتل جميع الأسرى وحرق المدن التي يمر عليها في طريقه، وذلك لأنه لا يريد أن يترك خنجرًا في ظهره، لا أستطيع أن ألومه في طريقة تفكيره كثيرًا، خاصة أنه هو نفسه كان أكبر مثال على هذه الضرورة عندما تركه من قتل أباه على قيد الحياة ذات يوم. كان يعرف أنه بمجرد إكماله المسيرة إن ترك أحد المدن التي فتحها خلفه سليمة، سيتداركون هزيمتهم ويطاردونه ليصبح بين مطرقتهم وسندان العدو الذي أمامه. وهذا كان جزءًا من تلك الحياة الخشنة التي لا تحمل في جعبتها إلا أقل القليل من الرحمة، فأي ضعف معناه الموت.



لخّص جنكيز خان ذلك في عبارة قصيرة موجزة:

  





لا يُمكنك أن تجرح دبًّا ثم تهرب... سيُلاحقك. - جنكيز خان





   
  

إن حياة مُحاربي القبائل عبر التاريخ وفي جميع أنحاء الأرض تتشابه في خصال حروبهم، وبغض النظر عن القسوة التي تتفاوت بين مكان وآخر، إلا أن هناك سمات مُشتركة تجمع بينهم.



ذكر المؤرّخ ابن خلدون في مُقدّمته الشهيرة التالي:"في أن العرب اذا تغلبوا على أوطان أسرع اليها الخراب " حيث يقول:

    

   







والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم فصار لهم خلقاً وجبلة وكان عندهم ملذوذاً لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة‏.‏ وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له‏.‏ فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتغلب وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومناف له‏.‏ فالحجر مثلاً إنما حاجتهم إليه لنصبه أثافي للقدر فينقلونه من المباني ويخربونها عليه ويعدونه لذلك‏.‏ والخشب أيضاً إنما حاجتهم إليه ليعمدوا به خيامهم ويتخذوا الأوتاد منه لبيوتهم فيخربون السقف عليه لذلك‏.‏ فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الذي هو أصل العمران‏.‏ هذا في حالهم على العموم‏. - ابن خلدون





   

  


أقتبس من الرواية حوار بين جنكيز خان وأخيه عندما كان الأخير يحاول أن يقنعه بضرورة بناء مدينة للمغول، يوضح الحوار طريقة تفكير إناس لا تعني لهم الحضارة سوى الضعف.
  





قال كشيون: نبني عاصمة يا شقيقي، مدينة واحدة للأمة التي صنعناها، يمكنني أن أتخيّل ساحات تدريب رائعة لرجالنا، مكانًا يعيش فيه أولادنا ولا يعرفون أبدًا الخوف الذي عرفناه.
رد جنكيز خان: سيكبرون رقيقين. سيجعلهم ذلك ضعفاء وعديمي الفائدة مثل جيوش تشن أنفسهم. ويومًا ما، سيأتي شخص على صهوة جواده، ويكون قاسيًا ونحيلًا وخطيرًا. عندها، أين سيكون شعبنا؟

  



    

  




    

   

أرى حوار جنكيز يذهب في اتجاه رأي ابن خلدون في أسباب انهيار الحضارات، يقول ابن خلدون:
   






فلتعلم أن الحضارة في العمران أيضًا كذلك؛ لأنه غاية لا مزيد وراءها، وذلك أن الترف والنعمة إذا حصلا لأهل العمران دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة والتخلق بعوائدها، والحضارة كما علمت هي التفنن في الترف واستجادة أحواله، والكَلَف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه من الصنائع المهيَّئة للمطابخ أو الملابس، أو المباني أو الفرش، أو الآنية ولسائر أحوال المنزل، وللتأنق في كل واحدة من هذه صنائع كثيرة لا يحتاج إليها عند البداوة، وعدم التأنق فيها، وإذا بلغ التأنق في هذه الأحوال المنزلية الغاية تبعه طاعة الشهوات، فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها - ابن خلدون





   




بعد قراءتي وبحثي عن محاربي المغول والتتار، أظنني أذهب إلى أن ابن خلدون في الحقيقة لم يكن يقصد مهاجمة العرب أو الانتقاص منهم رغم الظاهر في كلماته، وإنما كان هدفه التوضيح ومحاولة الفهم الصحيح لسمات أهل البداوة بشكل عام، فهو يذكر مثلًا:
  
  
أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة فقلما تجتمع أهواؤهم‏.‏ فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم وذلك بما يشملهم من الدين المذهب للغلظة والأنفة الوازع عن التحاسد والتنافس فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله ويذهب عنهم مذمومات الأخلاق ويأخذهم بمحمودها ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق تم اجتماعهم وحصل لهم التغلب والملك‏.‏ وهم مع ذلك أسرع الناس قبولاً للحق والهدى لسلامة طباعهم من عوج الملكات وبراءتها من ذميم الأخلاق إلا ما كان من خلق التوحش القريب المعاناة المتهيىء لقبول الخير ببقائه على الفطرة الأولى وبعده عما ينطبع في النفوس من قبيح العوائد وسوء الملكات فإن كل مولود يولد على الفطرة كما ورد في الحديث وقد تقدم‏ - ابن خلدون
   


  

نستطيع أن نرى هنا أنه من الضروري وجود رمز ما أو عقيدة يتوحّد عليها الناس ويُبنى عليه الجيش ليتم توحيد مُحاربيه للبدء والاستمرار في فتوحاتهم أو غزواتهم، ونرى أمثلة كثيرة في التاريخ وكأنها تصرخ في وجوهنا بوجود سُنن ثابتة لا تتغيّر، فعند أهل الكتاب كان الدين، وعند غيرهم كانت هناك عقيدة ما يخضعون لها، وعند المغول كانت الثأر هو ما جمعهم قبل أن تعميهم شهوة الانتقام فيستمروا في طريقهم. باختلاف المُعتقد أو المذهب أو حتى الفكر الأيدولوجي لأي شعب، تبقى الرغبة في السيطرة على العالم سمة مُشتركة كعرض جانبي تُسبّبه نشوة القوة.
   
    
    
  


انتهى الجزء الثاني بإخضاع جنكيز خان لمدينة بكين، وهروب إمبراطورها إلى الجنوب، وأتطلّع إلى الجزء الثالث -مراجعة الجزء الثالث- والذي سيكمل رحلته في القضاء على الدولة الخوارزمية وتدمير سمرقند، وأظن أن هذا لجزء سيشهد موته أيضًا.

   


تقييمي للرواية



5/5




ملحوظة تاريخية هامّة: التتار يختلفون عن المغول وليسوا شعبًا واحدّا، والسبب في الإشارة إليهم باسم واحد هو ما ذكره رشيد الدين الهمزاني في كتابه «جوامع التاريخ»، إذ قال إنه في أغلب العصور القديمة، كانت الغلبة للتتار، الذين كانت تخضع لهم معظم القبائل بتلك المنطقة، وبسبب مكانة التتار في ذلك الوقت، أُطلقت تسمية التتار على القبائل الأخرى. لكن بعدما قوي المغول عقب هجرتهم من شمال الصين إلى منطقة منغوليا الوسطى، وأصبحت الغلبة لهم على بقية الأعراق والقبائل في تلك المنطقة، ظهرت تسمية «المغول»، الذين كان ينتمي إليهم القائد جنكيز خان. من حيث الموقع الجغرافي، سكن التتار بالقرب من أواسط آسيا، فيما سكن المغول ناحية الشرق، وقد تم إدماج التتار في الجيش المغولي في القرن الثالث عشر، حيث اعتُبروا جزءاً أساسياً من الإمبراطورية المنغولية في ذلك الوقت.
   

ويعيش التتار الذين يقدر عددهم حالياً بنحو 7 ملايين نسمة، في روسيا – وخاصةً في شبه جزيرة القرم -، وأوزبكستان، وأوكرانيا، وكازاخستان، وتركيا، وطاجيكستان، وقيرغيزستان، وأذربيجان، ورومانيا، وروسيا البيضاء، أما المغول – الذين يعتبرهم بعض العلماء شعباً تركيا -، فقد عاشوا حول نهر اونون ما بين روسيا ومنغوليا الحالية، قبل أن يقتربوا من الصين بعد توحيد جنكيز خان للقبائل التركية. بعد موت جنكيز خان أكمل هولاكو قيادة المغول، بينما التتار كان قائدهم تيمورلنك، وقد انهارت دولة التتار تمامًا.

أحمد فؤاد

26 شباط فبراير

2019

google-playkhamsatmostaqltradent