random
أخبار ساخنة

مُراجعة رواية الغُزاة - كون إيغلدون

 

    



     


نهاية ملحمية تليق بالجزء الأخير من خُماسية عظيمة.

 

   

بداية مُثيرة... كالعادة

   

رُبما خالف جنكيز خان مقولة سورهاتانا "سرقويتي بيجي" زوجة ابنه تولي خان "قد يستطيع أي شخص أن يقوم بتغيير العالم، لكن لا أحد يستطيع تغيير العالم إلى الأبد". فقد كان جنكيز خان يؤمن بأن العُظماء سيُنسَون بمجرد مفارقتهم للحياة. وعلى الرغم من أن سورهاتانا قد غرست هذا المفهوم في عقل ابنها قوبلاي إلا أنه الأخير كان مُدركًا بأن جنكيز خان صنع من اسمه ومن اسم قومه "المغول" -حتى وإن اندثروا تمامًا لاحقًا- أسطورة سيتناقلها العالم أجمع ويقفون مذهولين عن إرثه الذي أنشأه حرفيًا من العدم. وهكذا فهو فعليًا نجح في تغيير التاريخ إلى الأبد!

 

يستكمل الكاتب الإنجليزي المُبدع "كون إيغيلدن " سلسلته الضخمة "السيرة الملحمية للفاتح جنكيز خان وأحفاده"، فيُكمل من حيث انتهى الجزء الرابع "إمبراطورية الفضّة" حيث نجت أوروبا الغربية من اجتياح المغول في حملة القائد الفذّ "تسوبوداي" وهم على حدود فيينا، لتعود جيوش المغول من جميع أماكنها بعد موت أوقتاي خان؛ امتثالًا لتقاليد شعبهم لاختيار الخان الجديد.

 

بدأت هذه الرواية بأحداث مثيرة للغاية تمامًا مثلما بدأ الجزء الرابع؛ ونجح الكاتب في إبقاء القارئ مُترقّبًا لسير الأحداث المفتوحة على جميع الاحتمالات (خاصة لغير المُطّلع على هذه الحِقبة التاريخية) وعلى الرغم من أن الأحداث قد قلّت وتيرتها في منتصف الرواية إلا أن الثُلث الأخير جاء ملحميًا مشوقًا.

 

أسجّل انبهاري بوصف المعارك وتفاصيلها وشرح تكتيكاتها الحربية وأساليب الكرّ والفرّ فيها، ولم يقع الكاتب في فخّ التكرار رغم أن الرواية تعجّ بالعديد من المعارك المُختلفة، فقد نجح في تغيير وصف المعارك وطرق سيرها وإخفاء أو إظهار وقائع مُحددة أثناء كل معركة بناء على أماكنها وتضاريسها وأجوائها.

    

   

فكرة خاطئة

   



    

على الرغم من قسوة المغول في معاركهم، إلا أن أُكرّر أنني لا أستطيع إخفاء إعجابي الشديد بتكتيكاتهم التي هزموا بها أقوى جيوش العالم قاطبة؛ سواء كانت إمبراطورية سونغ في الصين الجنوبية أو تشن في الصين الشمالية أو الجيش الإسلامي في بلاد فارس أو الجيوش الهنغارية أو الجرمانية أو حتى كتائب فرسان المعبد أقوى فرسان في العالم الغربي حين ذاك.

هناك فكرة خاطئة لدينا أن جيوش المغول كانت كبيرة وحشدهم الهائل هو الذي جعلهم يكسبون معاركهم أمام الجيوش الأقل عددًا منهم. الحقيقة المُدهشة أن العكس هو الصحيح؛ جيوش المغول دائمًا كانوا أقل عددًا من الجيوش التي هاجموها. لكن كان العامل الحاسم في فوزهم هي مزيج من تكتيكاتهم السريعة وقوة احتمالهم الرهيبة التي اكتسبوها من قسوة حياتهم ومن حروبهم المستمرة مقابل بقية الجيوش التي دفعت ثمن السلام الذي عاشوا فيه!

 

نتابع في هذا الجزء صراع أحفاد جنكيز خان ورحلات غزوهم غربًا إلى بغداد وتدميرها بقيادة هولاكو في سعيه لمدّ نفوذه إلى الشرق الأدني (الشرق الأوسط - المنطقة العربية)، وشرقًا للسيطرة على إمبراطورية سونغ القوية. لاحقًا ستُوحَّد الصين ولأول مرة في التاريخ منذ قرون عديدة على يد شعب من خارج الصين (على يد المغول).

 

لا أنكر انحيازي لقوبلاي في هذه الرواية عن بقية الخانات، رُبما لأنني قرأت عنه كثيرًا من قبل. وسر انحيازي هو انجذابي إلى الأمل الذي نبت من وسط القسوة والقذارة التي كانت تملأ روح المغول قبل أجسادهم. تغلّبت عاطفتي البشرية للتعلّق بالرحمة التي تلمّستها في هذا القائد الذي جاء بما لم يأتِ به القادة من قبله، بل وحتى من بعده، وهذا نتج من نشأته المُنفتحة على الثقافة الصينية ومن تعاليم أمه المسيحية النسطورية سورهاتانا، فما كان منه إلا أن تقبّل الديانات الأخرى وانتشر في عهده التسامح واستعان بكثير من المسلمين والمسيحيين في حاشيته ووزرائه.


من الشخصيات المُفضّلة عندي في هذه الرواية كانت شخصية قائد جيش قوبلاي "أويانغ خاداي" شخصية عسكرية صارمة تجبرك على على احترامها وتقدير موهبتها وثباتها. فبمثل هؤلاء الذي يُمكن الاعتماد عليهم تُربَح الحروب وتُقام الممالك.

 

    

تغيير المغول لخريطة العالم

     



   

حسب الجزء الثالث من رحلة ابن بطوطة "فارس والعراق" نرى كيف غيّر المغول من ديموغرافية بعض مناطق آسيا. مثل استبدال شعوب بعض مناطق آسيا الوسطى المُتحدثين باللغة الآرية وإلفارسية ليحلّ محلهم شعوبًا ناطقة بالتُركية. أيضًا في الجزء الشرقي من العالم الإسلامي قد تسببت المجازر والمذابح على يد المغول إلى تحويل شمال وشرق إيران (الدولة الخوارزمية) إلى صحراء. كما انخفض عدد سُكّان إيران من 2.5 مليون إلى 250 ألف نسمة أي العُشر! بسبب الإبادة الضخمة للبشر والمجاعات وذلك ما بين عامي 1220 إلى 1260.

 

عندما بدأت إمبراطورية المغول في التفكّك، ونتيجة للتغيرات الثقافية الهائلة في إمبراطورية المغول الهائلة، بدأت مراكز القوى تتبدّل وتظهر أنوية بلاد جديدة ستُشكّل خريطة العالم الحالي، فقبائل التُرك سيوقفون المدّ الغربي الآتي من الدولة البيزنطية المُتهالكة، لتنمو فيها بذور القومية التركية التي ستصبح لاحقًا الدولة العُثمانية. أما الجيوش المغولية التركية التي كانت بإيران، فقد اتحدت بعد سنوات من الفوضى تحت مُسمّى الصفويين التي كوّنت بعد ذلك دولة إيران الحديثة.

 

    

  

من نجا من الغزو المغولي؟

 

   

أشهر مدينتين نجتا من الغزو المغولي رغم أنهما كانا على مشارف التدمير هُما القُدس وفيينا وذلك بسبب موت الخان العظيم للمغول، مما أجبرهم على سحب معظم جيوشهم إلى عاصمتهم قراقورم.

 

لم يستطع المغول أبدًا دخول فيتنام رغم محولاتهم لثلاث مرات وكانت النتيجة هزيمة قاسية على يد الفيتناميين.

أيضًا اليابان نجت رغم محاولاتهم العديدة في ذلك، أوقفهم استبسال محاربي الساموراي بالإضافة إلى عدم خبرة المغول مع البحر وأعاصيره التي دمرت أكثر من أسطول لهم.

 

سلطنة ديلهي التي كانت تحكم شمال الهند استطاعت دحر المغول، وكان ذلك على يد السلطان المملوكي غياث الدين بلبن سُلطان دلهي، وقد كتب عنه وعن فضله وعدله؛ عبد الحي بن فخر الدين الحسني الطالبي في كتابه الشهير "نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر – الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام" الجزء الأول – صفحة 13

 

وأخيرًا نجت المنطقة العربية بعدما نجح المماليك في إبعاد المغول من الشام ليضعوا حدًا للمدّ المغولي في المنطقة العربية، كان ذلك عندما انتصر المماليك على المغول في المعركة الشهيرة عين جالوت سنة 1260، مع الإشارة بأن ذلك كان بدعم من القائد المغولي المسلم "بركة خان" والذي تحالف مع المماليك ثأرًا لتدمير ابن عمه هولاكو لبغداد وقتله للخليفة العباسي.

 

   

   

اختلاف أم خطأ تاريخي؟

   

هناك بعض النقاط التي اختلفت فيها أحداث الرواية عن الحقيقة التاريخية، وقد أشار إليها الكاتب في نهاية الرواية كعادته الجديرة بالاحترام. لكن نقطة أتحفّظ عليها. وهي أن "باتو" في الرواية يظل حيًّا بعد تدمير بغداد. ما نعرفه من المؤرخين العرب مثل ابن كثير، أن هولاكو لم يقتحم بغداد إلا بعد موت "باتو" الذي عبّر عن غضبه -بطلب من بركة خان- لخان المغول "مونغ" عندما عرف بنية هولاكو اقتحام بغداد، وما كان من الخان "مونغ" إلا أن أرسل لهولاكو يمنعه من الهجوم. فامتثل هولاكو للأوامر وأجل الهجوم إلى بعد موت "باتو". ولا أعرف إن كان هناك اختلاف بين المؤرخين العرب والمؤرخين في الغرب في هذه النقطة أم لا.

     


   

المرأة مُلهمة في أُمّة المغول

       



        

قد لا ينتبه القراء إلى دور المرأة في حياة المغول، ولم يغفل الكاتب "كون إيغلدون" عن ذلك بل عبّر عنه بكل أمانة. صحيح أن شجاعة المغول وقسوتهم كانت هي سبب نجاحهم، لكن في رأيي أنه لولا دور الأمهات والزوجات هُنا لقُضيّ على هذا الشعب في مهده. لأن تأثيرهنّ كان محوريًا في تاريخ أُمّة المغول.

كان للمرأة دورًا عظيمًا سواء في استنهاض همّة خانات المغول، وحتى في استمرار عظمتهم أثناء حُكمهم. نجد في الرواية شخصيات نسائية عظيمة مثل "هولن" أم "تيموجن – جنكيز خان" التي أنقذت أبناءها من ظروف قاسية للغاية ولم يكن يُكتَب لهم النجاة سوى بصمودها المُذهل، كما قرأنا في الجزء الأول "ذئب السهول"

 أيضًا "بورت" زوجة جنكيز خان وتأثيرها على زوجها وابنائه كما قرأنا في الجزء الثاني "سادة البراري" والجزءالثالث "عظام على الهضاب". و "توروغين -توراكيان خاتون" زوجة أوقتاي خان والتي حكمت خمس سنوات بحنكة وبراعة لتسيطر على شعبها قبل أن تُمهّد الطريق لابنها غويوك ليصبح خانًا على الأمة، وأخيرًا "سورهاتانا" زوجة "تولي خان" والتي كانت ناصحة أمينة لـ"توروغين" كما قرأنا في الجزء الرابع "إمبراطورية الفضة"، بل وفي هذا الجزء نرى تأثير "سورهاتانا" في الأحداث بشكل فعّال.

 

 

اقتباسات

 


    

الموت ليس بالأمر الجيد، كُل ما نستطيع فعله هو أن نتجاهله حتى يأتي الوقت المناسب. الناس يفعلون ذلك بشكل جيد. يعيشون وهم يعلمون أنهم سيموتون، ولكن بغض النظر عن عدد المرات التي يرددون فيها هذه الكلمات، هم لا يصدقونها حقًا، يعتقدون بطريقة ما أن الموت سيتركهم، وأنهم سيعيشون من دون أن يشيخوا.


   

النار هي اختبار الذهب، ومحنة الرجال الأقوياء

     

إنك تملك جيشًا قويًا، لكن قمة القوة ألا تضطر لاستخدامه

     

ما من شيء يمكنه أن يؤرق عقلاً مكرسًا للقتل

   

إن بإمكان أي أحد أن يُغيّر العالم، لكن لا يستطيع أحد أن يُغيّره إلى الأبد. فخلال مئة عام لن يبقى أي شخص ممن نعرفهم على قيد الحياة، وعندها ما الفرق إن كًنّا أمضينا كُل حياتنا نُقاتل أو نستلقي تحت أشعة الشمس ونرتاح؟   



  


لقد كنتُ صاحب الحق، والآن أصبحت أنت صاحب الحق




   

    

التقييم النهائي

   


تقييمي 5 من 5

 

 

رواية "الغُزاة" الجزء الخامس والأخير لسلسلة مُذهلة عاصرنا فيها قيام إمبراطورية المغول على يد تيموجن الوليد، وحتى توحيد الصين على يد خامس الخانات. مررنا بصراعات ومعارك وحروب وقسوة وألم، رأينا دروسًا عن الشجاعة والثبات والكرامة. كُل ذلك وسط أسلوب مشوّق بديع مليء بمشاهد سنيمائية بامتياز. ولا أجد أفضل من خاتمة الكاتب في نهاية سلسلته والتي يقول فيها:

 

بدأت هذه القصة بعائلة واحدة جائعة مُلاحَقة ووحيدة في سهول منغوليا، وانتهت بحُكم المغول لإمبراطورية أكبر من إمبراطوريتّي الإسكندر الأكبر أو يوليوس قيصر، لما يتجاوز ثلاثة أجيال فقط، إنها ببساطة أعظم قصة تحوّل من الفقر إلى الثراء في التاريخ البشري.


   


   

أحمد فؤاد
25 كانون الثاني - يناير 2021
author-img
أحمد فؤاد

تعليقات

تعليقان (2)
إرسال تعليق
  • Shirin Alkhass photo
    Shirin Alkhass26/1/21 11:53 م

    مراجعة مذهلة. تشوقت لقراءة السلسلة بسببها، وأحببت الاقتباسات
    سلم قلمك أستاذ أحمد🌹

    حذف التعليق
    • Ahmad Fouad photo
      Ahmad Fouad27/1/21 9:50 م

      أسعدني ردّكِ الجميل أستاذة شيرين. هذه السلسلة تستحق القراءة لأنها جدًا ماتعة.

      تحياتي🌹

      حذف التعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent