لا نعرف لحظات كثيرة في التاريخ غيّرت فيها وفاة شخص واحد العالم برُمّته، لكن موت أوجيدي خان كان إحداها. لو عاش، لما كان هناك عصر إليزابيث أو إمبراطورية بريطانية، أو نهضة، أو ثورة صناعية ربما. في مثل هذه الظروف، كانت هذه الرواية ستُكتب أيضًا بالمنغولية أو الصينية. - كون إيغلدن
هكذا لخّص الكاتب كون إيغلدن الحال بجملة استثنائية تحمّل خوفًا مما كان من المتوقع حدوثه، لولا رحمة الله بنا وبالعالم بأسره. آتى المغول بخرابهم لينتشروا في الأرض كالجراد يُدمّر كل ما يحط عليه، حتى أنني أظن أن الناس حينذاك اعتبروهم يأجوج ومأجوج. الغريب أن هذا التحوّل لم يحدث بعد موت مؤسس أمة المغول جنكيز خان، وإنما كان ابنه أوجيدي، وليس ذلك لأهمية أوجيدي الاستثنائية، وإنما لمواقع جيوش المغول التي كان تتمركز في أماكن استراتيجية في هذه اللحظة أفضل بكثر وأكثر أهمية من المواقع التي كانت فيها حين موت جنكيز. إذن أين كان يتمركز جيوش المغول حينها؟ ولماذا تحوّل مجرى التاريخ بموت ذلك الرجل؟ هذا ما سنعرفه معًا في مراجعة الرواية.
إمبراطورية الفضة، الجزء الرابع للسيرة الملحمية لجنكيز خان. تسافر بنا الرواية إلى الفترة التي تلت موت جنكيز خان، وقُبيل تقديم القسم للخان الجديد أوجيدي الابن الثالث لجنكيز خان، ولأن انتظار عودة جيوش المغول في كل أنحاء العالم كانت إجبارية لتقديم فروض الولاء، فتطلب ذلك وقت يُقارب العامين، بنى فيها الخان الجديد عاصمة اسمها كواكورم، لتصبح للمغول عاصمة للمرة الأولى في تاريخهم. لم تخيب الرواية ظنّ القارئ الذي توقع انهيار في مستوى الحبكة والإثارة بعد اختفاء جنكيز -مراجعة الجزء الثالث، إلا أن الكاتب يُفاجئنا بإثارة مُشتعلة بلهيب الترقّب، وذلك بالدخول إلى معمة المؤامرات، ورجس السياسة، وحكمة بعض القادة وحماقة بعضهم الآخر.
الصراعات الداخلية كانت ممتعة للغاية خاصة أنها بين عدة شخصية ولم تنحصر بين شخصين أو ثلاثة فقط، أما الشيء الساحر في هذه الرواية فهو التصوير المُذهل لتصميم المعارك المُدهشة وبراعة التخطيط لها.
الحدث البالغ الأهمية في هذا الجزء وهذه المرحلة التاريخية بشكل عام كان اجتياح المغول للعالم الغربي بدءً من روسيا ومرورًا بصربيا وبودا وبست وحتى مشارف النمسا. وإني أزعم أن هذا النجاح المبهر للمغول لاجتياح العالم الغربي وقبله العالم الشرقي، لم يكن ليحدث إلا بوجود القائد الفذ ذو العبقرية العسكرية المذهلة سوبوتاي ( تسوبودي – كما في الرواية). هذا القائد العسكري الذي أذهلني من نجاحاته المُبهرة والتي لم تتوقف أبدًا إلا بعد موته. سوبوتاي قائد جيش جنكيز خان، وقائد جيش أوجيدي خان، قاد أكثر من عشرين حملة عسكرية، غزا فيها 32 اثنين وثلاثين دولة، وفاز ب 65 خمسة وستين معركة منظمة، ليتمكن من اجتياح أقاليم تفوق ما اجتاحه أي قائد آخر في التاريخ.
نستطيع أن نرى في أحداث الرواية الخطط الخيالية والاستراتيجيات المتطورة التي قام بها، يكفي أنه صاحب الهجوم الشتوي الناجح الوحيد على روسيا. روسيا التي أجبرت جميع من حاول الاعتداء عليها في الشتاء بالتراجع. روسيا التي يقبع جيشها هو الآخر في ثكناته أثناء الشتاء القارس. يأتي تسوبوتاي ليهجم على الأراضي الروسية في وسط الشتاء، كان عنصر المُفاجأة عنيفًا على الروس، ولم يستطيعوا إيقاف الاجتياح أبدًا، قوة الإرادة المُذهلة والاستراتيجية المُبهرة في قرار تسوبوتاي بالهجوم شتاء كان لسبب قلب موازين القوى، فقد هاجم المغول في الشتاء كي يستطيعوا استخدام الأنهار المُتجمّدة كشبكة طرق بين المدن، ليفاجئوا الروس الذين يظنون أن الأنهار تفصلهم عن أعدائهم. يصعب علينا أن نصدق كيفية اجتياحه لاثنتي عشرة مدينة روسية مُحصّنة خلال شهرين فقط. ويكفي أن نعرف أنه قد دمّر الجيش الهنغاري ووفقًا لمصادر مختلفة، ذبحت القوى المغولية 40,000 إلى 65,000 من الجيش الهنغاري، وأنهت وجوده بوصفه كيانًا لجيل أو أكثر. الجدير بالذكر أن كتيبة من فرسان المعبد – أقوى فرسان في العالم الغربي – تواجدت مع الجيش الهنغاري لنجدته، وتم تدميرها أيضًا على يد المغول. لنا أن نتخيل أن جيش المغول الذي كان على أبواب المجر، كان يمتد حتى 500 خمسمائة كيلو متر للخلف!
استمرت حملة تسوبوتاي ضد الغرب من عام 1232 إلى عام 1241، واجه فيها المغول روسًا وبلغارًا ومجريين هنغاريين، واستولى على بودا وبست، وهاجم بولندا وصربيا، وأرسل مستطلعين حتى شمالي إيطاليا استعدادًا لاجتياح قلب أوروبا. وكادت النمسا والقدس أن تُجتاح لولا موت الخان لتعود القوات إلى كواكورم.
في المقابل يجب أن ندرك أنه على الرغم من العقلية الفذّة للقائد تسوبوتاي، ونجاحه المُبهر في حملاته والتغلّب على جميع الفرق التي واجهها، خاصة حملاته في الغرب، إلا أنه يجب أن أوضح سبب نجاح المغول بشكل عام – وتسوبوتاي بشكل خاص – في القضاء على جميع الجيوش التي واجهوها.
السبب الأول هو اهتمام المغول بالدراسة العميقة لجميع التضاريس المحيطة بأي ساحة حرب، وتطويعها لمساعدتهم في مفاجأة أعدائهم، حتى أن المغول كانوا يعرفون بعض التضاريس التي لا يعرفها أصحاب الأرض أنفسهم.
السبب الثاني هو استخفاف أعدائهم بهم، نجد أن الصينيين والعرب ودولة خوارزم والغرب بأكمله، تعاملوا مع المغول على أنهم مجرد رعاع وبدو رحالة لا يملكون أي أفضلية قتالية، ولهذا لم يحترموا عدوهم الذي استغل هذه النقطة جيدّا وأطاح بهم جميعًا.
السبب الثالث... يبدو أن العالم بأسره كان يتنازع مع بعضه البعض، فالصينيين كان حكامهم على خلاف دائم، والدولة الإسلامية كان الخلاف على أشده، أما الغرب فلم يختلف المشهد كثيرًا، فقد كانت المدن الروسية على خلاف أيضًا، وكان هناك صراع قوي بين ملوك إنجلترا والنمسا وبين بابا الكنيسة أيضًا. كان وجه التشابه واضحًا جدًا، حتى أنني اعتقد بأن في الأمر مبالغة بسبب تكرار تخاذل الجيران بمساعدة الطرف الآخر بقوات لمؤازرته، وتركهم لتم تدميرهم على يد عدو مشترك، غير مدركين أنهم سيتم اجتياحهم لاحقًا. إلا أنني للأسف وجدت أن هذا التخاذل كان سمة ذلك العصر بين أغلب الممالك والدول الكبرى حينها، وقد جاء في صالح المغول تمامًا.
إمبراطورية المغول عام 1279م |
إمبراطورية الفضة... استمرت في نسج حكاية أمة المغول في حرفية بالغة، دون الإخلال بأي من الحبكة أو الأحداث التاريخية، لتقدّم للقارئ وجبة تاريخية مبهرة مليئة بالأحداث التاريخية بشكل درامي ممتع. ولكنها على الأجانب الآخر قدّمت جانبًا سلبيّا واحدًا... ألا وهو الإسهام في حيرة القارئ -بعد الانتهاء من قراءة الرواية- في اختيار كتاب جديد ليقرأه. لأنه حتمًا سيصاب بالحيرة.
تقييمي للرواية
5/5
أحمد فؤاد
29 آذار مارس
2019