عن أهمية التوازن النفسي، وعن الجانب المُظلم للنجاح!
تبدأ المُشكلة بعد الإنجاز الأول. من الصعب مُلاحظتها نظرًا لنشوة النجاح الذي نغرق فيها. نستمتع بآراء الآخرين، ونهنأ بحلاوة ثمار تعب وقت طويل قضيناه لإكمال إنجازنا. تغمرنا الثقة بالنفس لتُشعل داخلنا حماسة عارمة تمنحنا القدرة على البدء فورًا في خطة تحقيق الإنجاز التالي. تتوالى الإنجازات وتتزايد النجاحات الصغيرة. ترتفع وتيرة مجهوداتنا من أجل الابتكار والإبداع والبحث عن الجديد؛ في محاولة مِنّا لإضافة فصول جديدة إلى قصة نجاح عظيمة نتخيّل أنها لن تتوقف أبدًا.
تحت سكرة اعتراف الآخرين بنجاحاتنا، لا ننتبه إلى تزايد الضغوط الواقعة علينا تدريجيًا بسبب رغبتنا في تقديم جميع أعمالنا في صورة مثالية، وأن تكون دومًا في حالة تامة من الكمال! ضغط نفسي محمود في بداياته؛ لازم للارتقاء بجودة الأعمال، مُرهِق في كل عمل يلي كُل نجاح، مُنهِك حين يتحوّل الكمال إلى هوس، مُدمّر عند الإصرار على نيل إعجاب الجميع دون أي انتقاد!
لا شك أن كل واحد منا يرغب في أن يكون شخصًا ناجحًا بشكل مُستمر، وفي أن نكون مُتميزين في حياتنا العملية والاجتماعية والأسرية. لكن المشكلة هي أننا لا نرى سوى نوع واحد من النجاح. المُبهِر منه فقط، وعلى جميع الأصعدة! يستحوذ علينا هاجس أن نكون استثنائين في كل شيء وفي ذات الوقت؛ موظفين/ رائدي أعمال ناجحين، وآباء مُتميزين، وأصدقاء مُهتمين، وأزواج حنونين. لا نقبل أن نكون مجرد أشخاص طبيعيين، ولا نرضى بأن تكون بعض نجاحاتنا عادية هادئة. يزرع فينا التطلّع إلى الكمال نوعًا من عدم الرضا. فنُقلل من تقدير إنجازاتنا السابقة مهما حازت على إعجابات سابقة، فتغدو باهتة في عيوننا رغم ألقها فيما سبق من السنوات. رُبما هو إغواء الشهرة البرّاقة الذي وصلت به وسائل التواصل الاجتماعي إلى مراحل غير مسبوقة.
انجح لكن بتحفّظ!
رُبما تحدثت سابقًا في مقالي "احترس… لا تنجح" عن المشكلات الناتجة عن النجاح، لكن هذه المرة أتحدّث عن النجاح من زاوية مختلفة. يفتننا النجاح عادة، فتملؤنا الثقة بالنفس إلى حد وضع طموحات مُفرِطة في التفاؤل، يصعب الوصول إليها بشكل دائم على أرض الواقع، لأن التضحيات التي نبذلها من أجل ذلك قد لا ننتبه أنها قد تُدمرنا إن تعدّت الحد المعقول. إنه النجاح المُنهِك، ذلك الذي يستنزف كل طاقتنا، ونفقد معه تدريجيًا إنسانيتنا وصُحبة من يشاركوننا الحياة.
قد يظن البعض أن هذا الشعور شعورٌ مُبالغٌ فيه أو غير واقعي. لكن الطبّ النفسي يخبرنا بأن تلك الظاهرة معروفة وشهيرة سواء في علاقاتنا الشخصية أو حتى في علاقاتنا المهنية، بما يُعرف ”ظاهرة (مُتلازمة) الاحتراق/الإنهاك النفسي Burnout“. مُدرج في التصنيف الإحصائي الدولي للأمراض (ICD) من قِبَل مُنظمة الصحة العالمية.
إن أمعننا النظر من حولنا سنجد أشكالًا مُختلفة لهذه الظاهرة، على سبيل المثال:
الأب أو الأم المُتفانون في رعاية أبنائهم حتى بعد استقلالهم -بل وبعد تكوين أسر- لدرجة تُلغى فيها خصوصيتهم وحرياتهم، ذلك كونهم مُصابون بهاجس عقدة الذنب والتقصير تجاه أولادهم حتى وإن كانت بسبب أشياء بسيطة مثل قضاء ساعة من الترفيه بعيدًا عنهم، يُنغص عليهم شعور دائم بعدم أحقيتهم في الاستمتاع بالحياة لاعتقادهم بأن دورهم فقط هو إسعاد أبنائهم.
أيضًا… الطالب الذي يرغب في الحصول على الدرجة الكاملة في جميع المواد -رغم عدم منطقية ذلك- مهما بلغت صعوبتها، يُضحّى بإنهاك جهازه العصبي بسبب القلق والتوتر، ويهمل علاقاته الاجتماعية وهواياته وممارسة الرياضة، ليتحوّل إلى آلة حفظ للمعلومات تنتهي صلاحيتها بعد انتهاء الاختبارات.
قد يكون الأمر ملحوظًا بشكل أكبر بين الأشخاص الذي يقدمون أعمالًا إبداعية، مثل الكاتب/ـة أو الرسّام/ـة أو الموسيقي/ـة أو المُمثّل/ـة
شعور رائع أن نستطيع إثارة دهشة المُتلقّي المُتذوّق للفنّ وللجمال. رُبما ننجح في ذلك مرة أو مرتين أو عدة مرات، لكننا عندما نجد صعوبة في تكرار ذلك ينتابنا شعور بعدم الكفاءة، وبأن نجاحاتنا السابقة لم تكن سوى محض صدفة، وبأننا رُبما لسنا جديرين بما وصلنا إليه من نجاح.
نُضاعف الجهد الذي نبذله كي نعوّض كفاءتنا التي نفقد إيماننا بها تدريجيًا. نغرق في تساؤلات عن سبب ضياع موهبتنا المُفاجئ، ومع الوقت تتسرّب منا الثقة بالنفس، ونشعر بالعار كوننا لا نملك سوى عمل ناجح وحيد (أو بضعة أعمال)، وكأن نجاحنا السابق هذا في حد ذاته دليلًا على الفشل!
دائرة الاحتراق النفسي المُفرغة
من الغريب أن أغلبنا يعتقد أن السبب الوحيد للنجاح هو العمل الجاد، فعلى الرغم من أن الجُهد المبذول هو معيار أساسي وهام لتحقيق أي نجاح، سواء كان نجاح علاقة شخصية أو مشروع اقتصادي أو عمل أدبي أو تنظيم مناسبة ضخمة. إلا أن النجاح لن يكتمل ولن يشعر به الإنسان لو خسر معه المعنى أو القيمة الذي يُمثّله هذا النجاح. بدون الحد الأدنى من حاجات الإنسان النفسيّة يفقد أي إنجاز معناه، ورُبما يجد المرء نفسه وحيدًا يحتفل بإنجاز سرق منه هويّته!
عادة؛ يدفعنا طموحنا المُفرِط إلى العمل بأقصى طاقة لدينا، مُتجاهلًين احتياجاتنا الخاصة، ومن ثَمّ نبدأ في التضحية بها تدريجيًا من أجل الوصول إلى قمة النجاح، نتجاهل حاجتنا إلى الراحة، نتوقف عن ممارسة هواياتنا، نُقلّص أوقات نومنا من أجل توفير الوقت. إن لم يُمكّننا ذلك من تحقيق النجاح بالصورة المثالية التي لا تقبل بغيرها، سنشعر بالعصبية والتوتر، فنقتطع مزيدًا من الوقت الخاص بعائلتنا وأصدقائنا. ومع مرور الوقت نشعر بأن كل ما نبذله من جهد بلا طائل. فنشعر بأن كل تضحياتنا ومجهوداتنا المُضنية لا تجدي نفعًا. يعترينا الإحباط، وتزداد رغبتنا في الانفصال عن كل ما حولنا. تسيطر علينا رغبة عارمة في التكاسل بعد أن نفقد شغفنا تدريجيًا، فتزداد صعوبة إتمام أعمالنا مهما كُنا بارعين فيها من قبل.
تراودنا حينها تساؤلات عن جدوى ما نفعله، وكيف وصل بنا الحال إلى هذا الوضع. يترسخ داخلنا الظن بأننا غير جديرين بثقة من حولنا، فتنتابنا وساوس بأننا بِتنا أشخاصًا غريبين عن أنفسنا! ورُبما حينها نقع فريسة نوبة اكتئاب طويلة لا نعرف لها سببًا.
يملأنا الاستسلام بعد أن نوقن بعدم قدرتنا على إصلاح ما قد خرب داخلنا. نحاول ملء حياتنا بأي أمر آخر يشغلنا عن التفكير في هذا الأمر، ونتمنّى أن يبعدنا قدر المُستطاع عن شخصياتنا الحقيقية، بعد أن نؤمن بأن نجاحاتنا وشخصياتنا الإيجابية هي السبب في ما قد وصلنا إليه! رُبما نُقرر السفر، أو الغرق في مشاهدة المسلسلات، أو الغوص في بحر الأخبار العالمية، أو لعلنا نشتري جهازًا جديدًا على أمل أن ينتشلنا من عالمنا المُظلم الذي حوصرنا فيه.
نطمع في أن تقودنا هذه الأفعال إلى نسيان المشكلة، وأن نتحرر من فكرة بحجم جبل تجثم على صدورنا. لكننا نكتشف بعد فترة أننا ما زلنا مختنقين تحت وطأتها. قد يخبرنا من حولنا أن التغيير في حد ذاته أفضل علاج، لكننا بعد أسابيع ورُبما شهور من التجربة نكتشف أن الضوء الذي ظللنا نراه في نهاية النفق كان مُجرد سراب!
لأننا في النهاية نُدرك في إذعان مؤلم بساطة الحقيقة: أننا لن نخرج من هذا النفق دون أن نتصالح مع أنفسنا.
الخروج من النفق!
أنت مُستنزف… تقبّل هذه الحقيقة قبل أن تبدأ في رحلة التعافي. آمِن بأنك تستحق العناء، فلو كان الأمر سهلًا لما كانت المشكلة بهذه الصعوبة! ثق بأنك تستطيع النجاح مرة أخرى، لكن إياك أن تضع جدول زمني لتتّبع تطوّر حالتك. أنت بالأساس في حاجة إلى نسيان هذه الرقابة مؤقتًا كي تفلح في الهروب من فخ مُحكم.
كل ما عليك هو أن تقوم بعمل صغير تبرع في القيام به. افعله بنجاح ثم انتظر. كررها مرة أخرى ثم انتظر أيضًا. هناك كسر صغير يحدث في أعماق الجليد الذي أطبق على روحك الفترة التي غرقت فيها منذ زمن.
بعد فترة قصيرة ستشعر بأن هناك شقوقًا قد بدأت في الظهور، ستبزغ أشعة الشغف لتتسلل إلى روحك مرة أخرى ببطء وهدوء. أكمل طريقك بتأني وعندما يغمرك ضوء الشغف مرة أخرى ستنقشع الظُلمة داخلك بشكل مُتسارع ليصبح طريق العودة إلى ذاتك أكثر وضوحًا.
بمجرد الخلاص من هذا الجحيم، احرص دومًا على ألا تقع في هذا الفخ مرة أخرى. كُن واقعيًا في طموحاتك. اجعل أحلامك تصل حد السماء لكن دون أن تُضحي بنفسك وسلامتك النفسية وبحياتك الاجتماعية. لا تستهن أبدًا بحاجتك إلى الراحة أو النوم أو الأصدقاء أو ممارسة هواياتك. بالتأكيد ستواجه أوقاتًا عصيبة لإتمام انجازاتك لاحقًا فهذا أمر طبيعي ومُحَتَّم من أجل ضمان النجاح. فقط حاول الصمود في وجه المتاعب والإرهاق، وراقب دومًا نفسك خشية أن تقع روحك فريسة للاحتراق مرة أخرى.
النجاح له جانب مُظلِم ككل شيء في هذه الحياة. -اقرأ مقالي: ”احترس… لا تنجح“- لهذا فقبل أن تهرع إلى تحقيق النجاح كُن مُستعدًا لما يحمله لك من أخطار، وانتبه كي لا تكون أول ضحية له!