أحببت الرواية أو لم تحبّها؛ ستستمتع!
تحت سطوة جمال اللغة
ليس هناك أقوى من سحر اللغة كي يشعر القارئ بالمُتعة أثناء القراءة. مهما كانت عظمة الأحداث أو روعة تصميم الشخصيات، فلا يُمكن للقارئ أن يتماهى مع النصّ. يؤرّقه تنافر الكلمات وابتذال الوصف وركاكة الصياغة.
ربما أجمل ما في تجربة قراءة رواية ”دعاء الكروان“ هي اللغة الشعرية التي كتب بها طه حسين روايته. أحيانًا أشعر بأن تأثير اللغة العربية في نفوسنا -كقراء العربية- كتأثير أصوات الطبيعة على النفس. كخرير الماء أو كصوت موج البحر أو كزقزقة العصافير.
ولهذا السبب ستجد من قرأ الرواية سواء من أحبها أو انتقدها، لا يمكنه إنكار استمتاعه بتجربة قراءتها.
انتقادات والرد عليها
هناك من انتقد الرواية عدة انتقادات، انُتقدت الرواية بأنها رواية ضعيفة أو بكونها مُملة غير مليئة بالأحداث، أو بأن تركيب شخصياتها هزيلة. والحقيقة أنني لا أرى هذا النقد صحيح بشكل كامل. رُبما الرواية بها بعض الهنّات وبالتأكيد لها سلبيات سأشير إليها. لكن هذا لا يعني إطلاقًا بصحة ما ذهب إليه الناقدون.
الرواية بشكل عام تُبنى على السرد والحبكة والشخصيات. هذا المثلث هو قوام الرواية، وأي اختلال فيهم يضر ببنائها وإن لم يدمره. فإن كانت الرواية ضعيفة فهذا معناه اختلال في ضلع من هذه الأضلاع.
السرد
اختار طه حسين الكتابة بأسلوب الراوي (المنظور الأول) first-person narrative- حيث نرى الأحداث من خلال شخصية آمنة. وهذا الأسلوب يهتم بالوصف الداخلي للشخصية الأساسية ووجهة نظرها هي فيما حولها، ولا تشترط أن تكون وجهة النظر تلك حيادية، بل هي تعبير مباشر بما تشعر به الشخصية سواء مشاعر غضب أو حب أو كُره.
اللغة الجذابة الشاعرية التي كُتب بها السرد هو البطل الرئيس لهذه الرواية، ولا أظن أن هناك من لم يستمتع بعذوبة اللغة وجمال الوصف وبهاء الكلمات.
وهذا لا يعني عدم وجود بعض الهنّات، مثل انتقال الكاتب في بعض المواضع من أسلوب الراوي إلى أسلوب العليم (لسطر أو سطرين) قبل العودة للأسلوب الأساسي. ولا أعرف هل هذه مشكلة في أصل الرواية أن في الطبعة التي قرأتها. لكن هذا التحوّل غير صحيح خاصة أن الكاتب لم يستخدمه في بقية الرواية سواء بشكل متكرر أو باستخدامه في الكشف عن أمور من الممكن أن تتطوّر بها الحبكة بشكل أكثر إثارة.
الحبكة
لم أر استخفافًا في الحبكة أو عوارًا واضحًا فيها. نعم هناك بعض الهنّات مثل عدم بحث الأم أو الخال عن آمنة في مكان كانت تعمل فيه سابقًا، وهو أول مكان منطقي وواضح يُمكن البحث فيه. أما عن بعض الشخصيات أو الأحداث القليلة التي عايشتها آمنة في رحلتها فلا أراها مُقحمة، ولكنها تفاصيل مهمة لإكمال رسم صورة الريف وما في داخله وما أثر هذا على المجتمع الذي تعيش فيه بطلة الرواية والذي ينعكس بشكل أو بآخر على أفكارها وقراراتها المصيرية.
وأخيرًا النهاية والتي جاءت غير مُرضية لأغلب القُرّاء، وهي سلبية في الرواية، لكن يُمكننا أن نتفهّم لجوء طه حسين إلى هذه النهاية غير المنطقية، لطغيان شعوره بمسؤولية الأديب بتقديم رسالة مهمة للمجتمع والتي كانت في نظره رأب الصدع بين الفقراء والأغنياء ونبذ مشاعر الحقد والتكبّر. بالأخير هي رسالته كأديب وقاص وله مُطلق الحرية في التعبير عنها كما يتراءى له. صحيح أنها جاءت بشكل رومانسي حالم، لكن نرى لاحقًا معالجة المخرج هنري بركات للنهاية في الفيلم المُقتبس من الرواية، لتخرج النهاية مناسبة للأحداث ومتناسقة معها دون أن يتخلى عن رسالة طه حسين التي أرادها.
الشخصيات
انتقد البعض الرواية بخلوها من العُمق في الشخصيات. والحقيقة أنا لم أر هذا. صحيح أن الشخصيات مساحتها ضئيلة لكنها لم تكن سطحية. شخصية الأم أو الخال على سبيل المثال حضورهم محدود في الرواية، لكننا نرى انعكاس الصراع الداخلي للأم وتأثيره على نفسية البطلة، كما تظهر شخصية الخال بحضور طاغٍ مُهاب ومُرعب على نفس آمنة التي تحاول الفرار منه بأي وسيلة. حتى شخصية مُهندس الريّ على الرغم من أهميتها إلا أنها شخصية غير محورية في الرواية، فالكاتب كتب تلك الشخصية بشكل مُبهم دون اسم، كأنها وُضِعَت لتكون نموذجًا يُعبّر عن شخصية شاب مُتعلّم من الطبقة المتوسطة.
طريقة السرد على لسان البطل ورؤيته للعالم والشخصيات من حوله، بحيث يدور السرد داخل نفسيّة البطل مع عدم التطرق لتفاصيل الشخصيات الثانوية إلا في أضيق الحدود، وعلى هامش تعاملها المباشر معها. وهذا الشكل الأدبي (الثيمة) معروف سواء على المستوى العربي أو الغربي وكثيرًا ما يأتي السرد بهذا الطريقة مُحمّلًا بالإسقاطات الرمزية. على سبيل المثال (وباختلاف طول الرواية وتشعبها وتطوّرها على مرّ السنين): رواية "الغريب" لألبرتو كامو – رواية "الشيء الآخر (من قتل ليلى الحايك)" لغسّان كنفاني – رواية "مادونا صاحبة المعطف الفرو" لصباح الدين علي. أو رواية "شجرتي شجرة البرتقال الرائعة" لجوزيه ماورو – رواية "حتى الطيور تذهب إلى عزائه" لحسن علي طوبتاش، ورواية "الحالة الحرجة للمدعو (ك)" لعزيز محمد. - اضغط على الروابط لقراءة مراجعاتي عنهم.
أخيرًا عن الملل. كما هو واضح في الفقرة السابقة، فإن هذا النوع من السرد لا يعتمد كثيرًا على سرعة سير الأحداث، بل يعتمد على العُمق والإبحار في الأفكار المُسيطرة على الشخصية التي تحاول أن تقنعنا بوجهة نظرها حيث تأوّلها الشخصية حسب رؤيتها. ونظرًا للحجم الصغير للرواية، فلا أرى أنه من العدل أن ننعت رواية "دعاء الكروان" بالملل. فرواية بحجم ثلاثية نجيب محفوظ على سبيل المثال يأتي جزأها الثاني "قصر الشوق" مُسهبًا مملًا" نظرًا للبطء الشديد في أحداثها حيث أُلقي الضوء على كُلٍ من شخصية كمال وشخصية زنوبة (كل على حده) بشكل مُكثف وبطريقة تكاد الأحداث فيها لا تتحرك، وذلك في مساحة بلغت حوالي 550 صحفة.
مشهد أيقوني
المشهد الأيقوني في الرواية هي مشهد الخال والأم وهنادي وآمنة في الصحراء. مشهدٌ مُبهرٌ جاء مُفاجئًا -لمن لم يقرأ الرواية أو لم يشاهد الفيلم- بشكل صادم.
اقتباسات
إنما هو الحب. هو الحب الذي يطمع في كل شئ ويرضى بأقل شئ، بل يرضى بلا شئ، بل هو سعيد كل السعادة ما وثق بأن بيتاً واحداً يحويه مع من يحب و يهوى. هو الحب ما في ذلك من شك، لكن الشك المؤلم المضني إنما يتصل بالقلب.
المرأة لا تُغلَب إلا اذا أحبت، ولا تُقهَر إلا إذا أرادت، ولا تذعن إلا إذا رغبت في الإذعان.
أليس من العجب أن يكون هذا الضوء الذي أخذ يغمرنا شراً من الظلمة التي خرجنا منها؟ إن أحدنا لن يستطيع أن يهتدي في هذا الضوء إلا إذا قاده صاحبه. إن العبء لأثقل من أن تحمليه وحدك، و إن العبء لأثقل من أن أحمله وحدي فلنتحمل شقائنا معاً حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
لَكِ الله يا آمنة ! إلام تدفعك هذه النفس المضطربة التي لا تهدأ، وهذه العواطف الثائرة التي لا تستقر، وهذا القلب الهائم لا يعرف ما يريد؟!
ما أسهل المكر حين تتهيأ له النفس! وما أيسر الكيد حين يطمئن إليهِ الضمير.
التقييم النهائي
رواية دعاء الكروان للكاتب طه حسين. رواية كلاسيكية رقيقة ورشيقة تتناول موضوعًا هامًا ومؤثرًا. وعلى الرغم من الألم الذي ينساب منها، إلا أن اللغة الشاعرية التي كُتبت به الرواية صبغت هذا الألم بصبغتها، فخففت من وقعه على النفس. فجاء شاعريًا رقيقًا وكأنه معين على الاحتمال!
تقييمي 4 نجوم
معيار التقييم:
- نجمة = لم يعجبني
- نجمتان = مقبول
- 3 نجوم = أعجبني
- 4 نجوم = أعجبني بشدة
- 5 نجوم = استثنائي
أحمد فؤاد
26 أيّار/ مايو 2023