أظنها المرة الأولى التي أكون سعيدًا فيها بأنني قد خُدِعت في تصنيف كتاب قرأته!
براعة مُنقطعة النظير
قد يتعجّب البعض عندما يعرف أن "ميخائيل زوشينكو" كاتب هذا الكتاب؛ هو كاتب روسي اشتهر في حقبة العشرينيات والثلاثينيات بكُتبه ومقالاته العديدة المُتخصصة في الأدب الساخر. يصعب علينا أن نتخيّل أن الشخص الذي يرسم على شفاهنا البسمة على شفاهنا ويستخدم الكوميديا من أجل إلقاء الضوء على كل ما يحيط بنا من مشكلات وظلم وقهر وفساد؛ هو نفسه شخصًا تعيسًا يبحث عن معنى للسعادة. ولعلّ ذلك بسبب الصورة الذهنية التي يحملها الناس تجاه الكُتّاب أو الفنّانين الساخرين.
وبعيدًا عن
الأدب الساخر؛ أعترف بأنني مُنبهر بأسلوب ميخائيل زوشينكو الأدبي، ليس فقط لبلاغة
الكاتب الملحوظة، وإنما لمدى سِعة أُفقه واطلاعه العلميّ وتعمّقه في الجانب النفسيّ،
وهذا مكّنه من التوغّل في خبايا نفسه، وإدراك العديد من الرموز والأفكار التي كادت
أن تنال منه، والخوض بشجاعة في مواجهة النفس من أجل الخروج من ظُلمة حالكة كادت
روحه تموت كُليًّا فيها.
بالتأكيد كان
ذلك نتيجة لتجارب الكاتب الثريّة سواء أثناء اشتراكه في الحرب أو من خلال اختلاطه
مع عظماء الكُتاب الروس وهو الأمر الذي كان له بالغ الأثر عليه؛ هذا بالإضافة إلى الخبرة التراكمية خلال الرحلة الطويلة - البالغة ثمان سنوات شاقة- التي استغرقها الكاتب للانتهاء من كتابه.
من الغريب أن يكتب المرء حياته الشخصية في صورة قصص قصيرة أدبية، ثم يقوم بنسجها مع الكثير من التفاصيل الأخرى من أجل الخروج بتجربة مُلهمة لأُناس لن يراهم في حياته! لكن زوشينكو فعلها وببراعة مُنقطعة النظير.
هدف الكتاب
الهدف الرئيس
من الكتاب هو محاولة الكاتب سبر أغوار نفسه واكتشاف الأسباب الحقيقية التي تُسبّب مرض
الاكتئاب وتدفع المرء إلى الانتحار، حيث كان زوشينكو يرى أنه إن قام المرء بتفكيك
مخاوفه، فسيتمكّن من هزيمة العدو (أثناء الحرب) ويتحرّر (من الخوف إلى الأبد).
قد نعتبرها تجربة نفسيّة علمية أدبية. تجربة كان
فيها ميخائيل زوشينكو هو صاحب التجربة وهو -في نفس الوقت- الشخص المُتطوّع الذي أُجريت
عليه تجربته!
التجربة كانت ثريّة
للغاية فهي مزيج شديد الخصوصية بين القصص القصيرة المُدهشة (تّذكّرني بقصص أنطون
تشيخوف)، وبين سرد أدبي ساحر، وبين استقراء لأشهر نظريات علم النفس مثل نظرية فرويد
ونظرية بالفلوف. مزيج حميمي لدرجة مُدهشة لأن القارئ يجد فيما كُتب صدى داخله، ذلك
لأن زوشينكو وعلى الرغم من أنه يكتب عن تجربته الشخصية إلا أنه في حقيقية الأمر كان يكتب عن
تجربته الإنسانية مع الحياة، والتي فيها أوجه كثير تتشابه مع لمحات من تجاربنا
الشخصية.
يؤمن زوشينكو بأن
الاطلاع على المعارف العلمية للإنسان سواء نفسيّة أو بيولوجية هو أمر لازم على
الكاتب من أجل الكتابة، ذلك لأن الكاتب يكتب في حقيقة الأمر عن وعي الإنسان. وقد استشهد
بما أخبره به العالِم الفسيولوجي أ.د. سبيرانسكي "إن دراسة الوعي ليست من
اختصاص العلماء فقط، وأنا أشكّ أن هذا الأمر من اختصاص الكاتب أكثر من اختصاص
العالِم!"
يناقش الكاتب نظريات
فرويد وبافلوف من منظور فلسفي إنساني جدير بالتفكّر فيه، وفي نفس الوقت يحدثنا عن
بوشكين وجوجول وإدجار آلان بو وفلوبير وموباسان ومعاناتهم جميعًا مع الاكتئاب
والشعور بالتعاسة والرغبة في الانتحار، لكنه يستخدم كل هذا من أجل أن يُفكّك كُل
التصوّرات الذهنية ويُفنّد كل الارتباطات الشرطية، ليُركِّب من جديد تصوّرات صحيّة تسمح
له باكتشاف الحياة مرة أخرى ولكن بمنظور مُختلف!
لكنه وعلى الرغم
من نجاحه في مسعاه في الشعور أخيرًا بالسعادة، والتخلّص من التعاسة التي كانت تأكل
روحه لسنوات طوال، إلا أنه قد حذّر وبشدة من اعتبار طريقته وصفة سهلة للذين يحاولون
الخروج من براثن التعاسة والاكتئاب. فهذه الطريقة على الرغم من نجاعتها إلى أنها
شديدة الخطورة، لأن الإنسان قد يفقد ذاته إن غاص وسط مخاوفه وماضيه وصدّق حِيّل
العقل التي لا تنتهي، فينتهي به الأمر غريقًا في ظلمات ظنونه.
الترجمة
ترجمة هذا الكتاب
ليس أمرًا سهلًا على الإطلاق. من قرأ الكتاب سيفهم السبب. الكتاب يحتاج إلى مُترجم
من نوع خاص. مُترجم له ذائقة أدبية وملكة بلاغية وخلفية علمية ومعرفة فلسفية وإحاطة
بعلم النفس وإلمام ثقافي روسيّ.
ترجم كتاب"قبل
شروق الشمس" المُترجم المصري يوسف نبيل، والذي ترجم العديد من الكُتب الأدبية
لعظماء الأدب مثل تولستوي وستيفان زفايغ وبولغاكوف وتشيخوف ودوستويفيسكي وكافكا.
ترجمة كهذه لا
بُد من الإشادة بها لأنها فعلًا عظيمة.
اقتباسات
يا له من مشهد حزين مأساوي كوميدي عندما نرى المتألمين بدلًا من أن يكافحوا آلامهم يقترحون على الناس أن يتفاخروا بقروحهم!ميخائيل زوشينكو
إن من شأن قهر المخاوف والتحرر الفردي من شأنه أن يُنتج أفرادًا أحرارًا، وهو أمر غير مطلوب على الإطلاق في عصور الأيدولوجيات الشمولية. في عصر ستالين لم يكن هناك مكان للتعامل مع مشكلات المرء الخاصة، لأن في اعتقاده أن البلاد كلها تسعى إلى الفوز ولا شيء يعلو على صوت المعركة.ميخائيل زوشينكو
هؤلاء الناس موافقون على البقاء مُتصالحين مع كآباتهم وأحزانهم لسبب واحد؛ حتى لا يزعجوا مخاوفهم.ميخائيل زوشينكو
العقل ينتصر على المعاناة، لكن المُتألّمين لا يريدون أبدَا تسليم مواقعهم. لقد أعلنوا بؤس العقل، وأصبحوا يخافونه بعد أن قرروا أنه وحده مصدر كل هذه المُعاناة.ميخائيل زوشينكو
الخوف يجذب الموتلكنا عبيد مذعنون للموتنُسلِّم أنفسنا له دون مقاومةمن فِعل الخوف.شكسبير
التقييم النهائي
كتاب قبل شروق الشمس هو كتاب كما وصفه المُترجم "عصيّ على التصنيف" أو كما يصفه كاتبه "إنه عمل أدبي يضم بعض المواد العلمية كما تضمّ الرواية أحيانًا مواد تاريخية." أو كما وصفه الناشر "هو كتاب يجمع بين الرواية والسيرة الذاتية والقصص القصيرة والدراسات النفسية"
من الصعب تقييم
هكذا كتاب، فهو مزيج غير متجانس رغم تماسكه. خليط غير مُنسجم رغم ترابطه. هو
توليفة تُماثل تركيبتنا البشرية... وكأن الكتاب أقرب منه لإنسان!
تقييمي للكتاب
4 نجوم