رحلة كئيبة صعبة ثقيلة على النفس، تدور بين المعسكرات والحرب والأسلاك الشائكة والحلم والألم والوجع والموت والعذاب.
عندما تقرأ هذه الرواية، ستشعر بأن الألم يتسرّب إلى روحك بلا استئذان، تحاول أن تمنع تسلله الصامت بلا جدوى، وحينما تدرك أن الوجع قد ملأك، وأن الحزن قد امتزج بنفسك، حينها ستستسلم وتقرأ في صمت، كمعتقل داخل حروف كُتبت من واقع تجربة. وسرعان ما سيملؤك الأسى عندما تعرف أن معظم أحداث الرواية إما قد مرّ بها الكاتب أو نقلها عن تجربة لأحد أصدقائه.
في البداية دعونا نتفق على أن هذه الرواية، هي مخطوطة سردية لتوثيق تاريخي لفترة صعبة من الزمن، فترة أضاعت فيها سكرة الحرب عقول قادة الأطراف فيها.
رواية الخامسة والعشرون تتحدث عن رعب التصنيف، ومرارة ذوبان الحقوق الشخصية وسط أهمية المصلحة العامة من وجهة النظر العليا. وحيث الحرب لا يوجد صوت يعلو فوق صوت المصلحة العامة، أما الفرد والذي هو جزء من الشعب فهو الضحية دوماً لأنه كُتب عليه هذا الدور منذ قرون، والشعوب كانت دائماً ضحية إما لحُكّامها، أو لأسياد الحرب، ونستطيع أن نسميهم العامّة. إنه التصنيف إذاً، التصنيف الذي يجعل من الانسان مجرد تابع لفئته أو لقومه أو لأتباع ديانته، دون الالتفات إلى تميّزه... إلى روحه.
الأفكار الفلسفية التي قدمها قسطنطين جداً رائعة، جعلتني أبحر في التاريخ وأسترجع أحداثاً عديدة تذكرتها أثناء قراءتي، فوجدتني أعارضه في بعض المواضع، مثلاً فكرة أن الانسان مجرد جزء من شعبه وأن يتم مُعاقبته وقتله أو نفيه أو سجنه بسبب ديانته أو جنسيته. في الواقع إن قسطنطين أبدع في سرد هذه الفكرة والتعبير عنها ولكن من أجل هدف واحد ألا وهو التعزيز لهذه الفكرة الممتدة في عمق التاريخ. وأتعجّب من أن هناك عدد من القراء الذين يندهشون لمثل هذه الفكرة رغم أنها ليست بالفكرة الجديدة، شاهدنا ذلك مثلاً الاجتياح المغولي لبغداد، وكيف أنهم قتلوا وأحرقوا كل من قابلهم من الأهالي، واستباحوا النساء وأحرقوا الكتب التي شكلت الحضارة ودمروا العمران. هل نستطيع أن تخيل ماذا كان سيحدث إن قابلوا رجلًا مُسلمًا أو حتى عربيًا حينها، وما الذي سيفعلونه به أو بأهله؟
حسناً... قد يكون ذلك المثال موغلاً في التاريخ، هاك مثالًا عصريًا: ماذا تفعل دولة إسرائيل منذ أكثر من خمسون عاماً؟ وكيف أبادت وهجّرت وقتلت أهالي القرى الفلسطينية أصحاب الأرض.
اليوم هناك من ابتدع تهمة الإرهاب لتصنيف يسهل معه إيداع المصنّفين في السجون.
الكاتب كانت صرخته الواضحة أن الشعوب المتحضرة يجب أن ترى الجانب الإنساني للفرد، وأن يكون للإنسان الحق في أن يعامل بشكل مستقل وليس بتصنيف يجمعه مع أشخاص آخرون ليس شرطاً أن يعرفهم. لكنني للأسف أدركت أن الانسان منذ بدء الخليقة، وسواء كان همجي أو بربري أو حتى في أعلى درجات التحضر، فالإنسان هو الانسان... تقبع داخله روحه الشريرة التي ترغب في إيذاء الآخر. حقد أو حسد أو رغبة في التلذذ بعذاب الآخرين. هناك جزء أسود في روح كل انسان لم يستطع أي تحضّر أن يمحوها تماماً من الوجود. قد يكون ذلك لأن هذا الجزء تحديداً ومقاومته له، هو سبب وجود الانسان على هذه الأرض طوال رحلة اختباره المتمثلة في الحياة.
أما بخصوص تحوّل الفرد إلى رقم في المجتمع، فذلك نراه بشكل حيّ في الأخبار تلك الأيام، ويبرع فيه الإعلام الغربي تحديداً، هناك كل يوم آلاف يموتون في العراق أو سوريا أو أفغانستان أو فلسطين، لكن العالم يسمع عن الضحايا كأرقام... مجرد أرقام لا يستطيع التعاطف معها، لا يعرف أن لكل رقم منهم له حلم وعمل وعائلة. ولهذا مثلاً ترى الإعلام الإسرائيلي يسلط الضوء على الضحايا بشكل شخصي ويظهر ل أهاليهم وأطفالهم ومنازلهم ودموعهم كي تسمح للمتفرجين بالتعاطف معهم، فالبشر لا يتعاطفون مع أرقام جامدة، إنما يتفاعلون من بشر مثلهم من لحم ودم وذكريات.
أبدع الكاتب على التأكيد أن الفرد هو المستهدف وذلك من خلال تبدّل شخصية البطل بين الجنسيات المختلفة، ليعزز فكرة أن المستهدف هو الفرد باختلاف جنسيته وديانته.
أما فكرة الحياة التقنية والثورة الصناعية، لا أدري لماذا تذكرت الفيلم الصامت العبقري للمبدع شارل شابلن بعنوان Modern times والذي كان بتاريخ 1936، الفيلم رائع جداً وكان يلقي الضوء على الحياة الآلية والثورة الصناعية. رابط الفيلم
اقتباسات
إن الرجال أحيانًا يموتون دون أن يخلفوا جثثًا
لن أتوقف بعد الآن عن الصراخ، حتى تأخذ العدالة مجراها. لعلكم ستسجنونني في القبو، لتمنعونني من إسماع صوتي إلى الآخرين. و لكن أينما كنت، وأينما حللت لن أتوقف عن الصراخ. وإذا لم يكن لدي قلم أكتب به أو ورق أسطر عليه فسأكتب بأظافري على جدار سجني. فإذا تلفت أظافري ودميت أصابعي تريثت حتى تبرأ لأكتب من جديد. وإذا أعدمتوني بالرصاص فلن أذهب إلى الجحيم ولا إلى الجنة، بل ستبقى روحي هائمة على الأرض تلاحقكم دون هوادة. سوف تدور حولكم كالطيف، سأقلق مضاجعكم وأقضّها مائة مرة كل ليلة، وأحرم عشيقاتكم من النوم لأصرخ قائلاً: إنني على صواب. لن تستطيعوا إغماض أعينكم حتى نهاية أيامكم ولن تستطيعوا الاصغاء إلى الموسيقى والاستماع إلى كلمات الحب. ستدوي كلماتي وحدها في آذانكم. كلماتي أنا، إيوهان موريتز .
لم يعجبني في الرواية الأسلوب السردي، وخصوصاً أسلوب الخطابات المباشرة، والجمل الرنانة، والمواعظ العديدة، وأراها كثيرة جداً وأفسدت عليّ الكثير من اللحظات. لكن هذا الأسلوب كان منتشراً في ذاك العصر، فقد يكون ذلك مُستساغًا حينها لكنه ليس كذلك في الوقت الحالي.
تقييمي للرواية 3/5
وبالتأكيد أنصح بقراءة هذه الرواية.
معيار التقييم:
- نجمة = لم يعجبني
- نجمتان = مقبول
- 3 نجوم = أعجبني
- 4 نجوم = أعجبني بشدة
- 5 نجوم = استثنائي
أحمد فؤاد