random
أخبار ساخنة

مُراجعة رواية اسم الوردة - إمبرتو إيكو

  
  

  

عفوًا إمبرتو... المؤلف أكثر ذكاءً من النص.


سبعة أيام - سبع جرائم- روح شريرة - وتاريخ لا يُبشر بخير


من خلال رحلة وساطة استمرت سبعة أيام من أجل محاولة الإصلاح بين الكنيسة وبين الطائفة المنشقة عنها والمعارضة لها، يقوم بها المُحقق الفرنسسكاني (ويليم) غوليامو باسكارفيل، وتلميذه المراهق الراهب البندكتي إدسو، نكتشف فيها جريمة قتل غامضة في الليلة الأولى لتلك الرحلة، ومن خلال محاولات كشف غوليامو غموض هذه الجريمة رغم عدم رغبة كل من في الدير في التعاون معه؛ نفهم بشكل تصاعدي ومتدرج بداية الصراع الكنسي بين الكنيسة البندكتية والطائفة الفرنسسكانية والتي بدأت بسبب خلافهم على جدل لاهوتي عن فقر المسيح والحث على ترك المال وعدم جمعه، وكيف استغلت جميع الأطراف (الإمبراطور والتجار الكبار وبابا الكنيسة ) هذا الخلاف لخدمة مصالحهم. كما نرى كيف يستغل رجال الدين سلطتهم في قمع محاولات التعلّم وقصر العلم على طبقة كهنوتية كمصدر قوة لا يُضاهى (المعلومات دائمًا وأبدًا مصدر قوة حتى يومنا هذا في ظل الثورة المعلوماتية وتناحر الشركات العالمية على الاستئثار بالمعلومات واحتكارها)، ومحاولاتهم الدؤوبة باستخدام سلطتهم في التخويف من العلم وإطلاق اتهامات السحر والزندقة والكفر على كل من يحاول التعلّم، واستخدام الدين ذريعة لقمع أو قتل المعارضين.

قرأت الرواية وأعجبني جدًا الجانب التاريخي التفصيلي (الجانب الممل في رأي الكثير)، وأعترف بأن السبب الرئيس الذي جعلني أقرأ الرواية هو اهتمامي بقضية الأحداث الدامية خلال القرون الوسطى بسبب الصراعات بين الطوائف المسيحية المختلفة.

أنا بالأساس أقرأ لإمبرتو إيكو -منذ فترة- كتاباته ومقالاته العلمية والأدبية غير الروائية (Non-fiction)، فإيكو مُنظّر رائع بكل تأكيد وله هيبة شخصية (كاريزما) مميزة لعله اكتسبها من كونه جامعي أكاديمي قديم. وقد جذبني حديثه أكثر من مرة في مقابلاته الشخصية عندما أشار إلى أنه يُقدّم الحقائق التاريخية بشكل روائي ممتع كي يُجمّله للقارئ الملول أو ممن ليس لديهم القدرة على قراءة الأبحاث الأدبية الكبيرة الجامدة، وأن هذا ما دفعه إلى تقديم أطروحاته العلمية بشكل عام وأطروحة درجة الدكتوراة (القضية الجمالية للقديس توما الإكويني) بشكل خاص بطريقة روائية وكأنها عمل بوليسي يشرح فيها الدوافع والأفكار وطبيعة أفكار الشخصيات بشكل يخلق تفاعل ما بين النص والقارئ. وقد لفت انتباهي أن أطروحته التي نال عليها درجة الدكتوراة قد سببت له أزمة إيمان خرج على إثرها من الكنيسة وتوقف حينها عن الإيمان بالله.

يُقدّم الناشر رواية اسم الوردة كما جاء في غلافها الخلفي كالتالي:  اسم الوردة... رواية شبه بوليسية... شبه تاريخية... شبه فلسفية

هل يُمكننا القول بأن اسم الوردة هي شبه رواية؟

لا أنكر أن فكرة تقديم بحث علمي تاريخي ضخم بشكل مشوّق لهي فكرة ناجحة بلا شك، والدليل على ذلك نجاح رواية اسم الوردة في جذب انتباه بل وإشادة أغلب من قرأ الرواية رغم شعورهم بالملل وعدم اهتمام أكثرهم بقضية صراعات الطوائف المسيحية والكنيسة. لكن هل كان ذلك كافيًا لنجاح الرواية؟
     
    

الهوس بالتفاصيل... الهوس بالكمال



"أعتبر نفسي جامعيًا وناقدًا بالحِرفة، وروائيًا بالهواية"

هكذا يُقدّم الكاتب الإيطالي الكبير إمبرتو إيكو نفسه للقارئ في أحد لقاءاته الصحفية، ومن قرأ رواية اسم الوردة يستطيع أن يجزم بأن هذا الكاتب كان بارعًا لأقصى درجة في الجزء النقدي والمعلوماتي والتاريخي في الرواية. كما لا يستطيع أحد إنكار حنكة الكاتب في بناء مكان الرواية مثل المكتبة والمتاهة، وبراعته في وصف النقوش والكتابات والمنمنمات التي تعج بها الرواية.
  

رسم تصميم المكتبة

   
إمبرتو إيكو رجل مهووس بالتفاصيل، وهو يعترف بذلك في لقاءاته، وهذا الهوس دفعه إلى إحكام تفاصيل صغيرة قد لا ينتبه إليها القارئ أثناء قراءته، مثل احتساب عدد درجات السلالم في المباني، واحتساب المسافات بين الغرف وبين المباني لقياس المدة الزمنية للحوار بين الشخصيات أثناء سيرهما لتكون متناسبة، حتى أن السنيمائي ماركو فريدي يقول عن إيكو؛ أن حواراته سنيماتوغرافية لأنها تدوم وقتًا متناسبًا مع تحركات الشخصيات داخل الدير! قد يظن البعض أن هذا الهوس كان حرصًا من إمبرتو لتخرج الرواية بشكل مثالي، لا شك أن هذا فيه شيء من الصحة، لكن في الحقيقة أن هذا الحرص جاء في إطار شخصية إمبرتو المهووسة بالتفاصيل، ويكفي أن نعرف أنه يقوم باحتساب زمن ردوده على الأسئلة في المقابلات الصحفية المختلفة، مثلما فعل على سبيل المثال مع الكاتبة جمانة حداد في لقائه معها عندما حسب عدد الكلمات بآلة حاسبة وطلب منها حذف بعض الفقرات عند نشر الحوار! (كتاب صُحبة لصوص النار)


    
   

مشكلات الرواية

   
   

النفس الطويل... كثرة التفاصيل... والملل

      




يقول إمبرتو إيكو في حاشيته لرواية اسم الوردة أنه حرص على ضبط سرعة الإيقاع السردي في الرواية، بحيث ألا يكون الإيقاع سريعًا إذا لم تكن السرعة نافعة فيه. والحقيقة أنني لم أر ذلك في الرواية بل على العكس كان ضبط سرعة الإيقاع مريعًا، فكُلمّا جاءت لحظة إثارة قام الكاتب الشرح والإسهاب في نقطة فرعية أو في وصف طويل -قد يبلغ عدة صفحات- لجدارية أو لوحة، فيفقد القارئ تفاعله بعد أن يتيه في التفاصيل. لطالما اُتهم الكاتب بالإسهاب في التفاصيل التاريخية والدينية والوصفية التي لا تفيد الرواية ولا الحبكة، والتي يضعها رغبة منه في التباهي بمعلوماته أمام قُرائه. لكنني -وعلى الرغم من إقراري بوجود كم ضخم من المعلومات غير المفيدة روائيًا- لا أرى أن إمبيرتو كان يقصد بذلك التباهي والتعالي على القُراء، بل لأن غرضه الأساسي هو تقديم بحث كامل في شكل روائي، وليس رواية تستمد أحداثها من معلومات تاريخية، وهذا فارق عظيم يجعلنا نفهم إصرار إمبرتو إيكو على الحجم الهائل لجميع رواياته، والتي يكون أغلبها معلومات وتفاصيل غير ضرورية روائيًا.

   

شخصيات لم تُفتَقد

   
  
نظرًا لاهتمام الكاتب الشديد باستخدام الحبكة والصبغة البوليسية لعرض فلسفته وبحثه العظيم، لم يهتم إيكو بخلق روح لشخصياته، ولولا الحوارات الرنانة الرائعة لفشلت الرواية في اعتقادي، فالكاتب نجح بامتياز بوضع حوارات فلسفية بليغة لكن اهتمامه الجم بذلك أفقد الحوارات حميميتها في الكثير من المواضع، وغير صراع إدسو الداخلي والذي جاء خطّيًا ومتوسط ودون مساحة داخلية تسمح بالمناجاة، لم يكن هناك صراعات أخرى للشخصيات.


في الحقيقة... لم أفتقد الرواية بعد الانتهاء من قراءتها، وأعتقد أن هذا لخلوها من شخصيات تجبرك أن تتعاطف معها.

    
   

كيف نجح إمبرتو في الترويج لروايته؟

     

  
فكّرت كثيرًا كيف إن كانت الرواية بالفعل مرهقة وصعبة ومملة في الكثير من أجزائها، أن تنجح الرواية بهذا الشكل على الرغم من أن الكثير من القراء لا يهتمون بالتفاصيل الوصفية الكثيفة في الرواية، ولا بصراعات الكنيسة في القرون الوسطى؟ كان يمكنهم بكل سهولة التوجه لروايات بوليسية ليس بها هذا الكم من التطويل وأن تكون أقل إرهاقًا. ولم أهتد إلى حل هذا اللغز إلا بعد عودتي لأحاديث الكاتب نفسه في مقالاته وحواراته وحاشيته، وسأقتبس منه التالي:

أعتبر نفسي جامعيًا وناقدًا بالحِرفة، وروائيًا بالهواية
  
الكتاب الجيّد أكثر ذكاء من مؤلفه
  
لا أفكر في السيمائيات (الإشارات) إطلاقًا حين أكتب الرواية. أترك هذا المجال للآخرين لاحقًا، ودائمًا ما تُفاجئني النتائج حين يفعلون ذلك.
  
الدخول إلى الرواية أشبه بتسلق الجبال، المئة صفحة الأولى من روايتي هي بمثابة تدريب، وإذا لم يقبها القارئ فالأمر أمره، سيبقى أسفل الجبل. الناس ملّوا السهل ويرغبون في بعض التعقيد.
  
  
في الحقيقة... اعترف إمبرتو إيكو بنفسه بأنه لم يتوقع نجاح رواية اسم الوردة جماهيريًا، وأن الرواية كانت ستًصدر في شكل سلسلة خاصة بالكتب النخبوية ذات الطابع غير الجماهيري (السلسلة الزرقاء). حتى عندما فاجأه الناشر بأنه سيقوم بطباعة 30 ألف نسخة؛ ظن إمبرتو حينها أن الناشر فقد صوابه. لكن بخبرة أستاذ أكاديمي بارع، وبشكل ذكي للغاية، قام إمبرتو إيكو بتصنيف نفسه كناقد وجامعي، وفضّل وصف الهاوي عندما قدّم نفسه للقارئ كروائي، وذلك في محاولة منه لتقليل أي تململ أو احتجاج متوقع من القارئ إن أصابه الملل أثناء قراءته للرواية.
   
لم يكتف الكاتب بذلك؛ بل قام بتحدّي القارئ بالاستخفاف الضمني به خاصة ممن ينتقد منهم الملل أو الإسهاب في التفاصيل والذي سيواجهه في الرواية، مُحمّلًا سبب شعور القارئ المحتمل بالملل؛ على تسرّع القارئ وتعجله في القراءة بدلًا من صبره من أجل الاستمتاع برواية حرص فيها كاتبها على سرد خلاصة معلوماته الجامعية والتاريخية والسيميائية فيها. وبهذا قلب الطاولة على كل من يحاول نقد الرواية باتهامه بأن الرواية مملة، لأن هذا الاتهام سيعود على القارئ الناقد كونه قارئًا ضعيفًا مبتدئًا أسيرًا للروايات السهلة!
        


        
بل وقد زاد على ذلك بأنه سحب نفسه من المعادلة تمامًا عندما قال أن الكتاب أذكى من المؤلف، وبأن المؤلف يجب أن يموت بمجرد انتهاء العمل. وقد اختفى إمبرتو فعلًا لفترة طويلة بعد إصدار الرواية؛ لم يرد فيها على أي تساؤلات تخص روايته تاركًا للقراء المجال للقيام بكل التأويلات المحتملة للرواية، حتى عاد بعد ثلاثة أعوام للحديث عن بعض تلك التأويلات في كتاب حاشية على اسم الوردة.

     
    

شيفرة دافنشي – دان براون – خلاف أم غيرة؟

   

   

يقارن البعض بين رواية اسم الوردة ورواية شيفرة دافنشي للكاتب الأمريكي دان براون، ويخلص بعضهم أن اسم الوردة تُقزّم شيفرة دافنشي ويتهمون دان بروان بسرقة الرواية.

قد تظهر رواية شيفرة دافنشي أقل مستوى في المعلومات، وذلك نظرًا لوجود فارق معلوماتي واضح بين روايات إمبرتو وبين روايات دان براون، وهذا في الحقيقة ليس مقارنة عادلة لأن كثافة تلك المعلومات في الأصل لا تفيد في بناء الرواية ولا تؤثر في حبكتها.

لم يهتم دان بروان في روايته شيفرة دافنشي بكم المعلومات الأكاديمية، بل استخدم معلومة أو جدل محدد في خلق أحداث روايته، وقد نجح بامتياز في نسج رواية بوليسية فائقة الإمتاع، ولا مجال لمقارنة بين الروايتين في الإثارة والمتعة، فدافنشي تتفوق بكل تأكيد من هذه الناحية، وتشهد على ذلك الأرقام الخيالية لبيع الرواية ولإيرادات الفيلم المقتبس عن الرواية.

إن شئنا الدقة، فإن رواية شيفرة دافنشي لا تشبه رواية اسم الوردة بالأساس، وإنما التشابه كان بينها وبين رواية بندول فوكو لإيكو، والتي أخذ دان بروان خيط واحد من خيوطها لبناء روايته الشهيرة. الغريب أن رواية بندول فوكو (أكثر من 700 صفحة) التي قضى إمبرتو كتابتها ثمان سنوات، والتي كانت مليئة جدًا بالرموز والجماعات السرية والمؤامرات، ظلت تلك الرواية في عزلة ولم تشتهر كسابقتها اسم الوردة حتى ظهرت رواية شيفرة دافنشي لدان براون، فأعادتها للحياة وعرفها الجمهور.
   

   
بدأت المشكلة بين إيكو وبراون مع النجاح الساحق لرواية شيفرة دافنشي فور نشرها، والذي دفع القراء والصحفيون لسؤال إمبرتو إيكو بإلحاح شديد عن رأيه في رواية دان براون.

قال إمبرتو أنه اضطر لقراءة رواية شيفرة دافنشي بسبب إلحاح الناس عليه لمعرفة رأيه فيها، وقال أنه شعر بأن قراءته لها خطيئة، ووصف في بادئ الأمر دان براون بأنه شخصية خيالية يشك في وجودها خرجت من متاهات روايته بندول فوكو. المصدر

 لكن يبدو أن النجاح الساحق لفيلم شيفرة دافنشي قد أثار حفيظة إمبرتو إيكو، وهذا ما نراه في الحوار المنشور له في جريدة لا ريبوبليكا الإيطالية في عام 2006؛ عندما اتهم دان براون بأنه "صاحب مكائد بنشر معلومات مزيّفة ويثري نفسه بمواد مرفوضة." كما أنه رفض دعوة وجهتها له بدلة فنشي الإيطالية (الواقعة في توسكانا) للاجتماع مع دان براون، وعلّق: " لن ألتقيه ولو ميّتًا، وسأسافر إلى فنشي عندما يكون هناك كاتب حقيقي."

نستطيع أن نرى الخلاف أساسه خلافًا بين أستاذ جامعي يهتم بالمعلومة وكاتب بوليسي يهتم بتقديم خلطة إثارة ومتعة بها مسحة معلوماتية. افتقد براون العمق، بينما افتقد إيكو الإمتاع والسرعة المطلوبة للسرد.

قد يكون إمبرتو إيكو نجح بكل تأكيد بتقديم أبحاثه بشكل مشوّق، والتي بكل تأكيد أفضل بمراحل من الشكل التقليدي للأبحاث الجامدة (مع العلم بأن هناك بعض الأحداث التخيلية في رواياته) لكن هذا ليس معناه أن روايات إمبرتو بشكل عام؛ وبخاصة (اسم الوردة وبندول فوكو) كانتا روايتان مثاليتان كروايات بوليسية.
   
  

عزازيل – هل هي سرقة أدبية؟

  
   

    
   
إن كانت رواية شيفرة دافنشي لا تتشابه مع رواية اسم الوردة، فإن رواية عزازيل للكاتب المصري يوسف زيدان تتشابه بشكل واضح جدًا معها، لكن هل وصل التشابه حد التطابق؟

الفكرة الأساسية لرواية عزازيل مقتبس بكل تأكيد من رواية اسم الوردة، البردية المُكتشفة، طريقة سرد الأحداث والإيحاء بأن المؤلف يُترجم فقط الوثيقة، فكرة وجود جدل لاهوتي مسيحي. هذا صحيح بكل تأكيد ولكن هل يُمكن أن نسمي هذا بسرقة أدبية؟ 

 دعونا نقتبس من حوار إمبرتو إيكو نفسه، والذي أجرته معه الكاتبة جمانة حداد (مراجعة كتاب صحبة لصوص النار)، يقول: "إن الكتب تولد حصرًا من تلك التي سبقتها أو بسببها أو حولها، وكل رواية تحكي قصة سبق أن رُويت" – ويضيف " هناك فكرة لباسكال مفادها: "لا تقولوا إنني لم أقل شيئًا جديدًا، إن طريقة ترتيب العناصر جديدة" وهذا لا ينفي مفهوم الابتكار والتجديد.

إذن...لا توجد فكرة أصيلة، فأي مخرجات فكرية هي بالأساس مكونة من مدخلات قرأناها أو تعلمناها من آخرين، نفكّر فيها ونطوّرها ونأخذ منها ونضيف إليها. وهكذا فعندما أخذ يوسف زيدان فكرة الوثيقة المُكتشَفة من رواية اسم الوردة، فإنه لم يأخذ منها أحداث الرواية، وإنما استخدمها فقط كقالب يبني عليه روايته عزازيل، لكن اختلفت التفاصيل ولم تكن الرحلة في مكان واحد بل سافر بطل روايته الراهب هيبا إلى عدة أماكن وواجه تحديات مختلفة ورأينا مدنًا متعددة. اعتمد يوسف زيدان على خبرته كأستاذ جامعي، وكمدير لمركز المخطوطات بمكتبة الأسكندرية في تشكيل عالمه في عزازيل والذي اختار له أن يكون في القرن الخامس الميلادي أي قبل ظهور الإسلام، مبتعدًا عن الحقبة التاريخية التي كانت في اسم الوردة والتي كانت في القرن الثالث عشر الميلادي.
   

في رأيي الشخصي كوني قرأت الروايتين، فليس هناك سرقة. نعم وبكل تأكيد تأثر يوسف زيدان برواية اسم الوردة، ولا خلاف بأنه قرأها وأخذ منها قالب فكرته. وهذا لا يجعله سارقًا لها، خاصة أن الرواية حصلت على جائزة البوكر العالمية في نسختها العربية، كما أنها تُرجمت إلى الإنجليزية وحصلت على جائزة Banipal البريطانية المستقلة لأفضل عمل عربي مُترجم إلى الإنجليزية عام 2013.
  

أتساءل... هل يمكن أن نتهم إمبرتو إيكو بأنه سرق من آرثر كونان دويل فكرة  Themeالمحقق والمساعد في روايته والشبيهة بـمغامرات شرلوك هولمز ومساعده واطسون؟

هل يمكن اتهام إمبرتو إيكو بأنه سرق فكرة الكتاب الذي يبحث عنه الجميع في الرواية (الذي تدور عنه الأحداث والموجود في أقصى أفريقيا بالمكتبة)؟ فكرة ذلك الكتاب واضحة جدًا في أحد قصص كتاب ألف ليلة وليلة الشهير جدًا في الغرب. بل وقد قال إمبرتو بنفسه أنه لا يعرف كيف جاءته الفكرة تحديدًا، لكنه يذكر أن صورة ذلك الكتاب قد جاءته فجأة في مكان ما في عقله، وأردف أنه لعلّه بالتأكيد قرأ عن هذا الكتاب في مكان ما وقد نسيه.

هل يمكن أن نوافق أيضًا على الاتهامات التي وُجهت لإمبرتو بسرقة الأفكار التي جاءت في رواية اسم الوردة من بعض الأحداث الكنسية الموجودة في كتب التاريخ؟

بالتأكيد لا يمكننا ذلك، وإلا لما كنا سنجد أي أفكار جديدة يُكتَب عنها. إن ذلك ليس سرقة، وإنما عملية خلق أدبي إبداعي مستمر يعتمد على ما فات من قراءة، ويضيف الكاتب إليه أفكارًا جديدة، أو حتي يكتب عنها تلك الأفكار التي طُرِحَت من قبل ولكم من زوايا مختلفة.

  
في رأيي أن ما ميّز رواية عزازيل عن رواية اسم الوردة هو اللغة الرائعة والسرد الروحاني فيها، وهذا تحديدًا ما خلق حالة حميمية بين القارئ وبين الكتاب، وخلق تعاطفًا مع شخصيات الرواية مثل الراهب هيبا ونسطور وهيباتيا، كما نجح زيدان أيضًا في توظيف المعلومات التاريخية والدينية بشكل أدبي بسيط محكم يخدم الرواية وتدرج بنائها وحبكتها، وسمح عدم وجود حشو في الرواية بوجود مساحة لحوار فلسفي داخلي يدور في عقل بطل الرواية في محاولاته للبحث عن الحقيقة. وبهذا فقد هرب من الفخ الذي وقع فيه إمبرتو في رواية اسم الوردة بحشو الرواية بالمعلومات وعرضها بشكل سردي ممل غير مُعالَج روائيًا مما جعل الشخصيات تخرج جافة.
    
   


الترجمة

    

        
العمل الذي قام به المترجم التونسي أستاذ الأدب الإيطالي أحمد الصُمعي رائع ومبهر، فرواية اسم الوردة تحمل نصًا بالغ الصعوبة، شديد التعقيد، يتطلّب شخصًا مُطّلعًا للإلمام بكل التفاصيل الدقيقة التي تعج بها الرواية، سواء في تفاصيل الرسم والمنمنمات، أو التعدد الغزير في أسماء الألوان وأسماء الأحجار الكريمة وأسماء النباتات والأعشاب وأسماء الوحوش وخلافه، وأعترف أنني وجدت نفسي جاهلًا بالكثير من تلك الأسماء مع هذا التنوع المُبهر في تلك المفردات، خاصة أن بعضها لم أكن أظن أن له مرادف في اللغة العربية.

الشكر الجزيل للأستاذ أحمد الصُمعي الذي نقل لنا هذه الرواية الهامة بلغة غير معقدة، مما جعل للقارئ العربي أفضلية في الإلمام بكل النصوص في الرواية، لأن الرواية الأصلية قد فضّل فيها إمبرتو أن يُبقي بعض النصوص في حالتها الأصلية اللاتينية مما جعل الكثير من القُراء يستاؤون من عدم فهمهم لها.

    
   

تأملات في الرواية

     
  

قصة حرق عمرو بن العاص لمكتبة الأسكندرية

     


  
أورد الكاتب في الرواية واقعة تتحدث عن حرق عمرو بن العاص لمكتبة الأسكندرية بناء على تعليمات من الخليفة عمر بن الخطاب، وتلك الواقعة في حقيقة الأمر مكذوبة وهي محض افتراء، وقد جاءت تلك الواقعة في كتاب الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر للمؤرخ عبد اللطيف البغدادي. لكن لم يؤكد ما ذكره شخص آخر، بينما على العكس قام بعض المؤرخين العرب والأجانب بتفنيد هذا الادعاء، وكان منهم:

المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه تاريخ العرب (الفصل الرابع ص223)، والمؤرخ الأمريكي الفيلسوف ويل ديورانت في مؤلفه الضخم قصة الحضارة (المجلّد 13 فصل الإسلام في الغرب- ص263). وقد ذهب المؤرخان إلى تكذيب الحادثة، وبأن الأدلة واضحة بأن المسيحيين المتحمسين أحرقوا المكتبة لأنها تحوي كتبًا للكفار اليونانيين والفارسيين، وذلك قبل الفتح الإسلامي العربي لمصر.

بالإضافة إلى غوستاف وويل، قام بالتأكيد على ذلك كل من ألفريد بتلر في كتاب فتح العرب لمصر، وأيضًا عزيز سوريال عطية في كتاب تاريخ المسيحية الشرقية، وأيضًا مصطفى العبادي في كتاب مكتبة الأسكندرية سيرتها ومصيرها، وأخيرًا عباس محمود العقاد في كتابه عبقرية عمر.

لذا وجب التنويه.




اقتلوهم جميعًا وسيعرف الله أتباعه

  

    
جاء في الرواية ذِكر المجزرة التي حدثت في مدينة بيزييه جنوب فرنسا، وهي المدينة التي كانت توفر الحماية لمجموعة من المهرطقين في تعريف الكنيسة (وهم طائفة الكاثار والتي لم يكشف إمبرتو عن اسمها في روايته) وهذه المجزرة جاءت بسبب تصدّي مدينة بيزييه للحملة الصليبية القادمة من شمال فرنسا، وبعد حصار المدينة سأل الجنود المفوض الباباوي الذي كان على رأس الحملة؛ عن كيفية التعامل مع أهل المدينة، خاصة أن هناك منهم على العقيدة الصحيحة، فرد بعبارته الشهيرة " اقتلوهم جميعًا وسيعرف الله أتباعه وسيعرف الله أتباعه" فاقتحمت القوات المدينة وقتلت كل من قابلها بغض النظر عن السن أو الجنس أو العقيدة، فهلك فيها الكثير من الكاثوليك والهراطقة من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال، وقد قُدّر عدد من قُتل حوالي 20 ألف شخص. هذه القصة موجودة أيضًا في كتاب "من أوراق الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش في فرنسا للكاتب رمسيس عوض.


عندما قرأت تلك الحادثة في الرواية قفز في ذهني حادثتان آخرتان، إحداهما في العصور الوسطى، والأخرى مُعاصرة.
   

الحادثة الأولى كانت في إنجلترا في القرن السادس عشر أثناء اضطهاد الكاثوليك واعتبارهم مهرطقين (وذلك عكس فرنسا في تلك الفترة والتي كان البروتستنات هم المضطَهَدين فيها)، حيث قام كرومويل بجيشه عام 1649 بقتل المدافعين عن مدينة دروقهيدا الإيرلندية؛ بمن فيهم من مؤمنين حقيقيين، وذلك في عبارته الشهيرة " اقتلوهم جميعًا عن بكرة أبيهم، فالله يعرف عباده الصالحين." – المصدر كتاب – معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا للكاتب هاشم صالح (دار الساقي)
    

الحادثة الثانية كان عام 2014، أثناء لقاء تليفزيوني لأحد المحكوم عليهم بالإعدام من جماعة داعش، سأله المذيع عن سبب ارتكاب الجماعة جرائم هجمات قُتِل فيها مدنيين أبرياء رجالًا ونساءً وأطفالًا، فما كان رده إلا أن قال" ليس مُهمًا، هؤلاء يُبعثون على نياتهم، فإن كانوا من أهل الجنة ذهبوا إليها، وإن كانوا من أهل النار فمثواهم النار." وذلك الشخص للأسف يسند رأيه المرعب إلى حديث السيدة عائشة رضي الله عنها عن الرسول صلى الله عليه وسلم "يغزو جيش الكعبة فإذا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم" قالت عائشة: يا رسول الله، كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: "يخسف بأولهم وآخرهم ثم يُبعثون على نياتهم."

استخدم الإرهابي زورًا حديثًا صحيحًا مُبررًا لنفسه قتل الأبرياء بيده، وهذا لا يُفهَم أبدًا من الحديث والذي تحدث عن وقوع غضب من الله ككارثة من عنده، وليس كرساله لقتل البشر كافة على أن يفصل الله بينهم في الآخرة. بنى هذا الشخص وهذه الجماعة فهم قاصر لتبرير أفعالهم الدموية الخسيسة مُتجاهلين أن الدين الإسلامي جاء ليؤكد على أهمية حرية الاعتقاد، والدعوة بالسلام، والحض على الحوار مع الأطراف الأخرى واحترام معتقداتهم والحث على حُسن الجوار واحترام المعاهدات.
    

انتبهت مع هذه المواقف الثلاثة أن الفكر تقريبًا مُتطابق رغم تغيّر الأزمنة ورغم اختلاف العقائد، وتبيّن لي أن الدين على مر العصور قد تم استخدامه من قِبَل فئات من المتعصبين الذين يدّعون أنهم وحدهم من يفهمون كلام الله؛ كذريعة للقمع والقتل والترهيب، وأدركت أنه مهما اختلفت المعتقدات والحِقب الزمنية إلا أن أسلوب القتل والقمع ظل دومًا هو الأسلوب المُفضّل للمتعصبين والمشتهين للسلطة.
    
    

أزمة إمبرتو إيكو مع الإيمان بالله

     


   
حاول الكاتب أن يكون حياديًا في طرحه، وهذا شيء واضح لأنه لم يفرض رأيه الشخصي، بل كان ينتقد ويفنّد آراء كل طرف باستخدام بطله غوليامو، كحَكَم بين الجميع وذلك من أجل عرض القضية على القارئ بصفته مُدرسًا للتاريخ. وأظن أنه قد نجح في ذلك رغم أنني لم أتوقع هذا النجاح كون الكاتب بالأساس توقف عن الإيمان بالله منذ فترة طويلة، وأعتقد أن هذا التوقف جاء بعد البحث العميق الذي قام به أثناء دراسته للجدل اللاهوتي المسيحي بين الطوائف المسيحي في العصور الوسطى والمذابح التي حدثت على إثرها،مما جعله يتخذ قراره ذلك تحديدًا بعد الحصول على إطروحة الدكتوراة.

ولعلكم تتساءلون مثلي لماذا يهتم إمبرتو إيكو بالكتابة عن الدين إن كان لم يعد يؤمن بالله؟ لقد وجدت الإجابة على لسانه في حوار نُشر له عام 2008 في جريدة  The Paris Review عندما حاورته الأمريكية الإيرانية الأصل ليلى أعظم زنكه، وأقتبس منه التالي (بترجمة رفيدة جمال من جريدة الأوان) - المصدر 


س: هل تؤمن بالله؟

ج: لماذا يحب المرء أحد الأشخاص يومًا ما ويكتشف اليوم التالي اختفاء هذا الحب؟ إنها المشاعر، للأسف تختفي دون مبرر، وغالبًا دون أثر.

س:إذاً لم تكن تؤمن بالله، فلماذا كتبت باستفاضة عن الدين؟

ج: لأنني أؤمن بالدين. البشر حيوانات متديّنة، ولا يمكن تجاهل أو تناسي هذه السّمة المميّزة للسلوك الإنسانيّ.

     
  

اقتباسات

  
  
يمكن أن يولج الدجال حتى من التقوى من فرط محبة الله أو الحقيقة، كما يتولد الهرطيق من القديس والممسوس من العرّاف.

      
احترس يا أدسو من أولئك المستعدين للموت من أجل الحقيقة، لأنهم يجرّون معهم عادة إلى الموت كثيرين آخرين، يموتون غالبًا قبلهم، وأحيانًا عوضًا عنهم.
      
الرب لا يوجد في اضطراب الروح.
      
لم يعد الشباب يريد أن يتعلّم شيئًا وأصبح العلم في انحطاط، والعالم بأسره يسير رأسًا على عقب، عُميان يقودون عُميانًا آخرين إلى الهاوية.
      
إن الحقائق ليست لكل الآذان.
     
تذكّر أن أول ما يجب على المُحقق الكُفء هو أن يشكّ بادئ ذي بدء فيمن يبدون له صادقين.
     
عندما يكون الأعداء الحقيقيون أقوياء ينبغي اختيار أعداء أضعف منهم.
     
كما ترى تقترن الهرطقة بالثورة على الأسياد، في كثير من الأحيان، ولذا يبدأ الهرطيق في الدعوة إلى الفقر ثم يسقط فريسة لكل مغريات السُلطة والحرب والعنف.
    
لا شيء يبعث الشجاعة لدى الخائف قدر خوف الآخرين
    
الحلم كتابة، والكثير من الكتابات ما هي إلا أحلام.

         
  

التقييم النهائي

    

     

 اسم الوردة هو عملٌ مذهل في تفاصيله، بارعٌ في وصفه، مُبهرٌ في معلوماته. عملٌ يفرض نفسه بكل قوة على الجميع شريطة الالتزام بشروطه. لهذا فيجب على قارئه الاستعداد جيدًا كلما همّ أن يقرأ منه جزءًا، من أجل أن يفهم ويتأمّل ويستمتع.

الرواية صعبة ولا أنصح بها من ليس مُهتمًا بالصراع بين الطوائف المسيحية في العصور الوسطى بخصوص الجدل اللاهوتي. بل أنصح بها المهتم بهذا الشأن حصرًا لأنه سيقرأ بحثًا ممتعًا في شكل روائي غامض ممتع.

رواية اسم الوردة بحث مذهل ورائع وبديع، نقل لنا فيها الكاتب الإيطالي إمبرتو إيكو خبرته الطويلة في دراسة فلسفة القرون الوسطى. بالإضافة إلى خبرته في علم السيمائية (الإشارات والرموز) والذي كان يقوم بتدريسه. لكن براعته المُحكمة في خلق عالم كامل مُتوّج بمكتبةٍ مذهلة التصميم ومتاهةٍ متقنة التخطيط، لم تُمكّنه من تقديم رواية على نفس القدر من الكمال!
   
  
تقييمي النهائي
3 من 5
    

أحمد فؤاد
4 حزيران يونيو 2020

google-playkhamsatmostaqltradent