قرأت بعض
الاقتباسات من هذا الكتاب على أحد منصات التواصل الإجتماعي، فعزمت على قراءته بعد
أن أعجبتني. أعددت نفسي لقراءة كتاب يحتوي على سلسلة مقالات مع أدباء مشهورين،
أحببت كتابات بعضهم ورغبت في التعرف على بعضهم الآخر. في الحقيقة أنا أحب القراءة
للأدباء بعيدًا عن نصوصهم الروائية، ليس من أجل الإطلاع على آرائهم الاجتماعية أو السياسية أو حتى
الشخصية. ولا أهتم بأن أعرف عاداته أو كيفية تغلّبه على قفلات الكتابة. بل أقرأ
مثل هذه الحوارات لأنني أحب أن أرى العالم بعيونهم، أن أرى وقع الألم أو الحزن أو
الحب على كلماتهم السحرية. أما الروائي كانسان؛ فأنا أؤمن أنه شخصٌ آخر لا علاقة
له بشكل مباشر بإنتاجه الأدبي. هو قادر على خلق العوالم والشخصيات المُتخيّلة لكنه
انسان لا يجب أن يُحاسَب على شطط أبطاله على الورق، ولا يجب أن نُحاكم الشخصيات الروائية
بذنب كاتبها!
كنت قد قرأت ال كثير من الحوارات الصحفية مع العديد من الكُتّاب من مختلف أنحاء العالم، أغلبها منقول
ومُترجم بطبيعة الحال، لكن هذا الكتاب حقًا أدهشني. فمن الصفحة الأولى التي تُخاطبنا
في كاتبته أدركت أن الكتاب مُختلف عن كل ما قرأت في هذا النوع. ذلك لأن أسلوب
التقديم في حد ذاته كان أدبيًا بامتياز. ليس فقط أسلوبًا مُنمقًا وسهلًا، بل لأنه
ذو صبغة روحية وخيالية وعاشقة للحرف.
جُمانة
حدّاد... الشاعرة المُترجمة الصحفية أثبتت لي في هذا الكتاب أنها قارئة شغوفة قبل أن تكون أديبة، قارئة تعيش ما بين السطور، وتسيح في فضاءاته
المفتوحة أمام من يملكون الخيال والقادرون على تجاوز المادي إلى رحابة المعنى
الخفي منه والظاهر.
لهذا فلم يكن
التقديم الطويل في بداية الكتاب مُملًا... بل أنني شعرت بالخدر عند قراءته بعدما
لعبت حروفه على وتر ما داخلي. وكيف لا وهي ترسم بقلمها أحاسيس القُرّاء الذين
يندمجون مع الكتب والروايات. أكاد أجزم بأن أغلب هذا النوع من القُرّاء – والذي قرأ
هذا الكتاب- قد قال في سرّه حين قرأ المُقدّمة. "نعم...نعم... نعم... هذا ما
نشعر به. ثم أعقبها بتنهيدة إعجاب وارتياح بأن هناك في هذا العالم من يشاركه هذا
الشعور. حقًا تمنّيت ألا ينتهي هذا الفصل.
لكن مُفاجأة
جميلة كانت في انتظاري في بداية كل فصل، ألا وهي أن جُمانة لم تنقل لنا الحوارات
في شكلها المُباشر العادي المُتعارف عليه. بل قامت بتحويلها إلى حكايات.. صور
فنيّة.. قصص أدبية مُشوّقة تبدأها في كل مرة كمُغرمة تُطارد حبيب مُختلف، تتقمص
شخصية جديدة في كل حكاية، فنجدها مُنصتة تارة، مُتعاطفة تارة، وحادّة تارة
أخرى. شعرت وكأنها تحكي لنا عن قصص شبيهة بقصص ألف ليلة وليلة.
أعترف أن أسلوبها الأدبي أسرني إلى أقصى درجة.
أسعدني أن الحوارات عربية بالكامل، حتى وإن أُجريت بلغات مُختلفة. ويستطيع
أن يدرك أي قارئ الفارق بين الحوارات في هذا الكتاب وأي حوار مُترجم ومنقول.
حسنًا...
نأتي للحوارات مع الكُتّاب، وسأكتب عمّن أحببت فصولهم.
إمبرتو إيكو
أكاديمي رائع
منظم مثقف جدًا لكنني لم أحب حواره.. شعرت بتكلفه أو بالأحرى بطغيان ذاته، أحسست بمسافة
بيني وبينه لم أفهمها.
أعجبني حديثه
عن الثقافة النخبوية والثقافة الشعبية – أتفق معه بشده بخصوص محدودية الخيال في
الروايات التاريخية، والتي تنحصر في إضافة أشخاص خيالية تخدم الحبكة لكنها لا تغير
من الحدث أو نتائجه.
كما ضحكت على
رأيه الساخر عن طقوس الكتابة.
اللغة هي مجموعة من المعادلات الكيميائية التي تختلف نتائجها بحسب اختلاف تركيب عناصرها.
طقوس الكتابة! هل تقصدين أن تعرفي مثلًا ما إذا كنتُ أضع قدمي في سطل ماء مُثلج مثلما كان يفعل ذلك الروائي الذي نسيت اسمه؟ أو أن أقيّد نفسي على غرار الشاعر المعتوه الذي نسيت اسمه أيضًأ؟ لا.. الحمد لله أني لست في حاجة إلى كل هذا المجهود لكي أكتب.
جوزيه
ساراماغو
كاتب لا تعرف
هل تتعاطف معه أم تكرهه أم تنصت إليه دون التفكير في أي ردود أفعال!
مناضل ذو فكر
ثوري، ماركسي ملحد. يرى أننا نعيش بأسلوب يودي بنا إلى كارثة؛ وهذا ما عبّر عنه في
روايته العمى، والتي رسمت الانسان الذي صار صريعًا للاستهلاكية. وأن أصبح الانسان
يعيش ليتاجر وليس يتاجر ليعيش، كما أوضح في روايته الكهف. يكره العولمة ويرى أنها
تزيد من الحقوق المنتهكة لأنها لا تنسجم مع حقوق الإنسان.
يُتهم دائمًا
بأنه متشائم لكنه يدافع عن نفسه بأن عالمنا هو المشؤوم. بل يرى أن التشاؤم هو فرصة
خلاصنا الوحيدة وأن التفاؤل شكل من أشكال الغباء، لأن التفاؤل في أوقات كارثية مثل
هذا العصر ينم عن انعدام أي إحساس أو عن بلاهة فظيعة!
أعجبني أنه
ضد التمييز بين المُفكر وغير المُفكر، ويرى أن كلنا مفكرون. كما أعجبني دفاعه عن
الفلسطينيين وهجومه على الكيان الصهيوني، وبوصفه بأن ما حدث مع الفلسطينيين شبيه
جدًا بما حدث مع اليهود أيام النازيين، وعليه فهو غاضب جدًا من ازدواجية إسرائيل.
حتى أن المكتبات الإسرائيلية قرروا الامتناع عن بيع كتبه.
حتى رأيه عن
الحُب وعن زوجته وعلاقته معها كان استثنائيًا
جمال أي قصة حب تحدده طبيعة المرأة الطرف فيها. إن أي امرأة استثنائية لابد ستجعل قصة الحب استثنائية أيضًا بينها وبين رجل. لنكف نحن الرجال عن التباهي والادعاء والتوهم بأن لنا دخل بالموضوع.
بول أوستر
أحببته...
دافئ كصديق حزين... حديثه مليء بالشجن
يرى أن الكتب
يصنعها الكُتّاب والقُرّاء معًا، بل يؤمن بأن القارئ هو من يخلق الكتاب في آخر
المطاف.
أعجبني كلامه
عن اللقاء بين القارئ بالكاتب والذي ربما قد لا يكونا متزامنين ولا ينتميان لنفس
العصر نفسه.
قلت مرة أن الكاتب لابد أن يشعر بأنه منفي، فهو يعيش حياته وفي الوقت نفسه هو خارج حياته، ويتأملها تحدث. يشاهد العالم بعين باردة وموضوعية من دون أن يستطيع المشاركة. إنها لعنة في معنى ما، إذ يشعر بأنه وحيد ومُستبعد، لكنه ولد هكذا ولا يستطيع تغيير نفسه، هذه هي طبيعة الكاتب، وهذه هي علاقته مع الكلمات. علاقة انتماء ومنفى على السواء.
الكتاب هو المكان الوحيد في العالم الذي يستطيع فيه غريبان كاملان أن يلتقيا بحميمية كاملة.
باولو كويلو
الأديب المحتال
اللطيف الساحر.
حواره عجيب
مليء بالحياة والحداثة والمادية الشديدة، لكنه يعرف أسلوب اللعبة جيدًأ، فأصبح
لاعبًا ماهراً يملك مكونات المعادلة. ممتاز في الدعاية... مقنع جدًا... محترف في الغواية
الفكرية!
لقد انجرحت كثيرًا. أنا مكسو بالندوب، ولكن هل تعلمين شيئًا؟ إنني فخور بندوبي. فهي الدليل على أنني عشت ولم أمت جبانًا.
بيتر هاندكه
الأديب الذي
هاجمته من قبل ... الانسان الذي أحببته على مضض!
كرهته لأنه
كان دومًا داعمًا للصرب ونظام ميلوسيفيتش أثناء حرب البوسنة والهرسك، ويرى أن
الصرب تعرضت لمؤامرة أمريكية! لكنني اندهشت
عندما رأيت ما يختفي داخله. شخص منعزل ممتنع عن الكلام والحياة العلنية، حميمي
جدًا... طفل مذعور منذ أن انتحرت أمه وتركته صغيرًا.
شخص حساس
بالغ التأثر وحيد ومنطوي يبحث عن السعادة حتى أنه يخشى جروح السعادة على حد قوله. متناقض
متأمل يخاف الزمن ويعتبره لغز عظيم. يكره الشهرة لأنها تجعل القراء يحبونك –كأديب-
أكثر من اللازم أو يكرهوك أكثر من اللازم، وذلك لأن الأوساط الأدبية الفاسدة ليس
بها أي توازن أو حل وسط.
لطالما كان الأدب بالنسبة لي السبيل إلى فهم نفسي قليلًا في الدرجة الأولى، لقد ساعدني كي أعي أنني هنا، ولكي أقبل هذا الوعي من دون أن يثقل كاهلي أو يصيبني بالجنون. إنه أعمق ما يمكن أن نعيشه. الأدب لا يغير الحياة... بل يوقظها.
ماريو فارغاس
يوسا
الأديب
الصحفي الساخر العظيم
شخص مثقف مدافع
عن الحرية وحقوق الإنسان ومحارب للديكتاتورية، مرح جدًا عميق جدًا، أعجبتني علاقته
بزوجته وحديثه الذي يشي بحب جارف لها.
تعجبت أنه كان متمرسًا في السياسة إلى الحد الذي رُشّح فيه للرئاسة ذات يوم.
كتب الكثير من المقالات في محاربة الدكتاتورية، كما اشتهر بروايته "حفلة التيس" التي كشف فيها عن فظائع حاكم جمهورية الدومنيكان (تروخييو).
كتب الكثير من المقالات في محاربة الدكتاتورية، كما اشتهر بروايته "حفلة التيس" التي كشف فيها عن فظائع حاكم جمهورية الدومنيكان (تروخييو).
يذهب إلى ما ذهب إليه مُعلّمه سارتر بأن الأدب يُمكن أن يُغيّر الواقع.
إن الأدب يولّد قُراءً أكثر إبداعية وخيالًا من قُرّاء (مشاهدي) السنيما. فهذا النوع الأخير سلبيون، مخض متلقين، تغمرهم الصور كأنهم في مغطس.
القراءة لا تجعل الانسان أكثر سعادة، بل ربما أكثر عرضة للحزن والهشاشة، لأنها تحوله إلى انسان أكثر حساسية.
الفريدة
يلينيك
الأديبة
المكروهة كارهة الرجل
أجمل ما في
حوارها الجزء الخاص بكونها تكره الأضواء وتتفادى الظهور العلني، ومثير جدًا رأيها
في الارتياب من اللغة وعدم قدرة اللغات على ترجمة الفكرة الأساسية في اللغة الأم،
الأمر الذي يحتم على المترجم ابتكار ألفاظًا جديدة غير موجودة في اللغة المترجم
إليها كي تتماثل مع اللغة الأصلية.
في النهاية...
هذا الكتاب ليس سهلًا على الإطلاق، وأزعم بأنه من المستحيل أن ينتقل القارئ من فصل
إلى آخر دون راحة ذهنية. الفصول مُرهقة ومليئة بالأفكار والإسقاطات. الكثير من
الآراء مُلهمة وثريّة، كما أن هناك الكثير منها صادم وغير متوقع. لهذا أنصح بقراءة
فصل واحد فقط في اليوم، أو على الأقل أن يكون هناك مساحة زمنية يمكن للقارئ أن
يتفكّر في الفصل الذي أنهى قراءته. لأن فصول الكتاب بالفعل دسمة جدًا.
كتاب رائع
عدت إليه أكثر من مرة، رغم انتهائي من قراءته منذ شهرين.
تقييمي 5 من
5
أحمد فؤاد
1 آذار 2020