random
أخبار ساخنة

مُراجعة كتاب خط في الرمال - تشكيل الشرق الأوسط - جايمس بار


  
   

كيف خدعت بريطانيا العرب وفرنسا؟ وكيف انتقمت فرنسا منها؟ ومن طرد بريطانيا من فلسطين؟ رحلة ممتعة مع كتاب هام لكل قارئ عربي أنصح بقراءته.




مُخطئ من يعتقد أنه على دراية تامة بكل تفاصيل تقسيم منطقة الشرق الأوسط. فبالرغم من الحقائق العديدة التي كُشِفت للجميع، إلا أنه وبعد كل وثيقة سريّة يُكشَف عنها؛ يتضح لنا بجلاء أن ما كنا نعرفه ليس سوى إطارًا عامًا ينقصه الكثير من التفاصيل والدوافع التي تجعلنا ندرك -بعد معرفتنا بها- أبعادًا مختلفة لما مرّت به المنطقة من تغيرات جذرية وتحالفات عجيبة.

الكاتب جايمس بار مؤرخ إنجليزي متخصص بشؤون الشرق الأوسط، وهو كاتب في صحيفة Daily Telegraph، يقدّم في كتابه الهام خطّ في الرمال – بريطانيا وفرنسا والصراع الذي شكّل الشرق الأوسط؛ تفاصيل هامة لأي قارئ عربي، حيث يبدأ الكتاب بلمحة عن حياة البريطاني سايكس مُبتكر اتفاقية تقسيم الشرق الأوسط "سايكس – بيكو" وحتى آخر فصل في الكتاب حيث يخرج آخر عميل بريطاني من سورية بعد أن سلّم البريطانيون فلسطين إلى الوكالة اليهودية بعد انتهاء الانتداب البريطاني.

يجيب الكاتب أيضًا عن السؤال الذي ظلت إجابته مُبهمة لفترة طويلة "من كان يموّل ويُسلّح الإرهابيين اليهود حينما كانوا يحاولون إنهاء الانتداب البريطاني في فلسطين؟" هذا السؤال الذي حيّر الحكومة الإنجليزية لوقت طويل إلى أن تم الكشف عن تقرير سري يكشف أن المتورط في ذلك كانت جارتهم... فرنسا!"

يُلخّص جايمس بار الصراع في الشرق الأوسط في الفقرة التالية:

الصراع طويل الأمد بين بريطانيا وفرنسا للسيطرة على الشرق الأوسط هو الذي دفع البلدين إلى تقسيم الإمبراطورية العثمانية وفق اتفاقية سايكس – بيكو، والاستياء البريطاني من نتيجة هذه الصفقة هو الذي دفعهم إلى إعلان دعمهم المطامع الصهيونية عبر وعد بلفور. في النتيجة أصبح حق اليهود بالحصول على بلد خاص بهم مرتبطًا على نحو خطير بمناورة إمبريالية ساخرة كان هدفها في الأصل خداع الفرنسيين!


    
  

في يوم ما قال ونستون تشرشل " ليس هناك أصدقاء دائمون، ولا أعداء دائمون، ولكن توجد مصالح دائمة." وهو مبدأ هام لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا إن أردنا فهم السياسة الاستعمارية الإمبريالية بشكل عام والسياسية البريطانية بشكل خاص. هذا القول الذي يُجسّد النفاق والخَسّة، ولا يُلزم باحترام العهود والمواثيق. هذا القول الذي اتخذته بريطانيا العظمى ليصبح شعارًا لها ومبدأ لا تحيد عنه، قد جعلها في يوم من الأيام المملكة التي لا تغيب عنها الشمس، وهو أيضًأ ما جعلها تفقد كل بريقها وقوتها وملكوتها لتعود دولة تعيش على بريق الماضي، بعد أن فقدت مصداقيتها؛ تمامًا مثلما حدث مع أغلب المستعمرين من جيرانها.
   


بداية تقسيم الشرق الأوسط



تقسيم الشرق الأوسط والذي بدأ فعليًا مع المعاهدة السرية سياكس بيكو، والتي تمّت بين بريطانيا وفرنسا بمصادقة من الإمبراطورية الروسية وإيطاليا. وهي جزء من اتفاقية كبيرة بين الدول الأربع لاقتسام ممتلكات رجل أوروبا المريض (الإمبراطورية العثمانية). ففي حين أن روسيا كانت ستحصل على أرمينيا الغربية والقسطنطينية (إسلامبول – إسطنبول) والمضائق التركية، وإيطاليا تحصل على جنوب الأناضول، كانت بريطانيا وفرنسا كانا سيسيطران على منطقة الهلال الخصيب (مناطق بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين دجلة والفرات)، والتي نتج عن تقسيمها في نهاية المطاف التقسيم المُعاصر (الجمهورية العراقية- الجمهورية العربية السورية-المملكة الأردنية الهاشمية- الجمهورية اللبنانية- دولة فلسطين).
   

منطقة الهلال الخصيب

   
   

   
اتفق السياسي الشاب البريطاني مارك سايكس مع الدبلوماسي الفرنسي جورج بيكو على تقسيم المنطقة بطريقة بسيطة... رسم خطًا على الخريطة من كركوك شرقًا وحتى عكّا غربًا، ليصبح القسم الجنوبي في العراق وشرق الأردن وبعض مناطق فلسطين تابع لبريطانيا، بينما القسم الشمالي المتمثل في سوريا وجنوب تركيا تابع لفرنسا والتي تربطها علاقة تاريخية في سوريا والساحل الغربي خاصة في لبنان. أما فلسطين والقدس فستكون تحت إدارة دولية.
   

    


لكن هذا الاتفاق السريّ كان ينقصه شيئًا هامًا... أن الدولة العثمانية لم تكن قد وقعت بعد!


بريطانيا وعدت ثلاثة أطراف بثلاثة وعود متناقضة:
  

الوعد الأول - وعد العرب

   
استغلّت بريطانيا الغضب العربي ضد الحكم العثماني في المنطقة في تلك الحقبة الزمنية، خاصة مع تأجج ذلك الغضب بسبب مذابح جمال باشا* خاصة محاكمات ديوان عالية بجبل لبنان. وبسبب حادثة السفر برلك** (النفير العام) السوداء.  فقامت بريطانيا بدعم الثورة العربية وإمدادهم بالمال والسلاح لضرب المصالح التركية وتقويض سيطرتهم على هذه المنطقة وخاصة فلسطين. لهذا فقد أرسلت الملازم لورانس (لورانس العرب) ليدعم الشريف حسين بن علي شريف مكّة في ذلك الحين في حربه  ضد الدولة العثمانية. لم تلقي بريطانيا للعرب اهتمامًا في بادئ الأمر، إلا أن بعض جواسيسها اكتشف تشعّب شبكة القوميين العرب في العراق ودمشق ومصر. ففضّلت بريطانيا التحالف السري مع العرب بعيدًا عن أعين فرنسا والتي كانت تربطها معاهدة معها، لأنهم خشوا إن تخلّوا عن الشريف حسين، سيدفعه ذلك إما بدعوة العرب إلى تلبية دعوة السلطان العثماني للجهاد (قبل ثورتهم عليه)، أو أن يلجؤوا إلى الألمان الذين سيرحبون بهذا التحالف لضرب مصالح البريطانيين في المنطقة. فدعمت الشريف حسين لضرب الدولة العثمانية ثم السيطرة على دمشق في الشمال، بالإضافة إلى دعمها لابنه فيصل لفرض نفوذه جنوبًا على منطقة العراق لتأمين مصالحها. 



   
لورانس العرب

   
كان تصوّر بريطانيا أن العرب قد ينجحوا في السيطرة على دولٍ متفرقة، لكنهم لن يستطيعوا إنشاء اتحاد قوي بينهم ليكوّنوا مملكة قوية، وسيظلوا في حاجة دائمة لمساندة وحماية بريطانيا، فيضمن ذلك استمرار المصالح البريطانية في الشرق الأوسط مع الامتيازات التي ستحصل عليها امتنانًا من الدول العربية بسبب مساعدتها وحمايتها لها. لاحقًا فاق نجاح قضية العرب (الثورة العربية الكبرى) تصورات بريطانيا، وتفاجأت بريطانيا بطلب الشريف حسين بتحقيق حلمه وهو توحيد بلاد الهلال الخصيب لتصبح سوريا الكبرى. وجد الإنجليز أنفسهم في ورطة لأنهم لم يعدوا العرب فقط بدمشق وإنما وعدوا الفرنسيون أيضًا بها.

بعد مشاروات كثيفة بين سياسيين متعارضي الفكر، اتخذت بريطانيا قرارها باحترام اتفاقية سايكس بيكو، واضطر الجنرال ألنبي أن يعلن لفيصل ابن الشريف حسين في اجتماع مُحرج بأن فرنسا ستكون السلطة الراعية في سوريا، رفض فيصل رفضًا قاطعًا واستقبل المبعوث السامي البريطاني وفود العرب المهتاجين الذين لم يصدقوا أن الإنجليز خدعوهم، ووقّعوا اتفاقًا مع فرنسا بالفعل. بعد فترة وكتسوية ضرورية لامتصاص غضب العرب، فسّر الجنرال الأمر للعرب -كذبًا- بأنه سيعطي العرب السيطرة على دمشق والمنطقة الشرقية، بينما الفرنسيون فسيسيطرون على الساحل اللبناني.
      

* ملحوظة ليست بالكتاب: يزعم الجانب التركي أن بريطانيا قامت بتشويه مُتعمّد لسيرة جمال باشا، وأن محاكمات الإعدام التي قام بها كانت جميعها ضد المتآمرين مع الإنجليز وجواسيسهم، وأن قدومه إلى الشام كان من أجل السيطرة على شقي القناة لقطع الإمدادات عن الإنجليز وذلك تمهيدًا لتحرير مصر من الاحتلال البريطاني، فيما عُرف بحرب رمانة (حملة ترعة قناة السويس الثانية) والتي فشل فيها أمام القوات البريطانية. بررت المزاعم التركية الشِدَّة التي تعامل بها مع المتمردين بأنها كانت لازمة لأنها أتت في وقت حساس بسبب فقدان الإمبراطورية العثمانية لمصر وتونس وبلغاريا وصربيا والبوسنة، وحاجاتها إلى مواجهة مساعي الانفصال الداخلي بكل صرامة. ويبدو أن جمال باشا قد قام بتلك المحاكمات بسبب فشله الذريع في حرب رمانة (حملة ترعة قناة السويس الثانية) والتي فشل فيها أمام القوات البريطانية، .وعاد إلى الشام ليصب جام غضبه على أهلها لأنه رأى أن فشله سببه تخابر القيادات العربية مع البريطانيين. 
جمال باشا كان أحد زعماء جمعية الاتحاد والترقّي التركية التي قامت بثورة تركيا الفتاة والتي أطاحت بالسلطان عبد الحميد الثاني عام 1908. تولى قيادة الجيش الرابع العثماني في الحرب العالمية الأولى، وعُيّن حاكمًا على سوريا وبلاد الشام.

   
** السفر برلك وهي باللغة التركية تعني النفير العام أو التجهيز للحرب، والذي نادت به الحكومة التركية الجديدة بعد الإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني، في حربها ضد الإنجليز في حرب رمانة، وعليه فقد قامت بتجنيد جميع الشباب في سن 15 إلى 45 وذلك بشكل قسري (التجنيد الإجباري) من جميع الدول التابعة للدولة العثمانية القريبة من منطقة الحرب، والتي كانت بغداد ودمشق وحلب والمدينة المنورة. وتحكي الروايات الموثقة بأن تم مطاردة جميع من يبلغ السن المطلوب، بل ولم يتركوا أي شاب في هذا العمر، وذلك بعد تطويق القُرى والقبض على الجميع وإرسالهم إلى الحرب في ظروف سيئة وقاسية للغاية، مما أدى إلى إفراغ هذه المدن من أهلها، بالإضافة إلى أنه وبسبب فشل الحملة فلم يعد أغلب من تم ترحيلهم سواء لموتهم أو لترحيلهم جبهات حروب أخرى في أوروبا.

     
  

الوعد الثاني: وعد فرنسا


      
وعدت بريطانيا فرنسا بالحصول على سوريا ولبنان، وهي تنوي أن تدفع العرب بعد وحدتهم أن يطالبوا بسوريا كونهم المواطنين الأصليين وبالتالي يطردون فرنسا من المنطقة إلى الأبد.

بالأساس كان العرب في سوريا قد طلبوا المساعدة من الفرنسيين من قبل إبان الحكم العثماني، حيث كان القنصل الفرنسي في لبنان قد تلقى رسائل من ضباط ومحاميين عرب يطالبون بمساعدة فرنسا لتحقيق هدفهم بالحصول على الحكم الذاتي ضمن الإمبراطورية العثمانية. لكن الحكومة الفرنسية تجاهلتهم بسبب دعمها المالي لاستمرارية العثمانيين! لكن عندما تلقت القنصل جورج بيكو منشورًا عربيًا يطالب بالاستقلال الكامل لسوريا، حذّر رؤسائه بأنهم إن لم يقدموا لهم المساعدة سيقدمها لهم البريطانيون. لكن الحرب العالمية الأولى اندلعت فاضطر للعودة إلى بلاده. لكنه وبإهمال كارثي أو بغرور متناهي سلّم مفاتيح القنصلية للقنصل الأمريكي، مُمنّيًا النفس بالعودة بعد إسبوعين تكون السيطرة التركية قد زالت عن المدينة، ولم يدمر الوثائق والرسائل السرية بها للاستفادة منها حين عودته. لم تسقط لبنان كما توقع بيكو، وصادر العثمانيون ملفات القنصلية الفرنسية وتمكنوا من توقيف وإعدام العديد من مراسليه وأصدقائهم.
  

لاحقًا وبعد أن واجهت فرنسا بريطانيا بحقيقة تواصلهم مع الشريف حسين، صرّح جورج بيكو بأن فرنسا لن توافق أبدًا على منح العرب استقلالهم، وأن منح العرب وعدًا بدولة كبيرة هو مجرد تضليل، إذ لا يمكن لدولة مماثلة أن تبصر النور. لا يمكن تحويل مجموعة من القبائل إلى كيان واحد قابل للعيش. وانتهت المواجهة بانطباع فرنسي بأن الوعد البريطاني للعرب مجرد تضليل وخداع لهم. واتضح بالنهاية أن بريطانيا خدعتهم، تمامًا كما خدعت العرب!

   

الوعد الثالث: وعد بلفور لليهود

   
   
 لم ترضى بريطانيا أبدًا بالوصاية الدولية على القدس، لهذا فقد رأت أن تقوم بوعد اليهود بإقامة دولة مناصفة مع العرب، وبهذا تكسب بريطانيا امتنان اليهود ويصبح لها امتيازات في المنطقة التي لن تشاركها فيها فرنسا أو أي دولة أخرى.

أول مشكلة قابلها الانجليز هي وصول البلاشفة إلى الحكم في روسيا، والذين قاموا بنشر كل الوثائق السرية، والتي كانت منها معاهدة سايكس بيكو، الأمر الذي ضرب مصداقية بريطانيا في مقتل سواء أمام حلفائهم العرب، أو أمام الولايات المتحدة الأمريكية.
  

  
أُرغمت بريطانيا تحت ضغط حزب العمال إلى التلميح بإمكانية تغيير الحكومة سياستها الاستعمارية، وأعلن رئيس الوزراء لويد جورج بأن "شبه الجزيرة العربية وأرمينيا وبلاد الرافدين وسوريا وفلسطين" ستحصل على اعتراف بشروط وطنية منفصلة، وهذا ما أيده الرئيس ويلسون رئيس الولايات المتحدة الأمريكية حينها.

قامت بريطانيا بتكثيف وعودها من خلال الملازم لورانس إلى العرب والإيحاء للشريف حسين إمكانية تحقيق حلمه بضم سوريا على الرغم من أن وعدها لفرنسا أن تمنحها نفوذ سوريا.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، نكثت بريطانيا بوعودها عندما لم تمنح العرب حق تقرير المصير ولم تساعدهم في إقامة دولًا مستقلة.

لكنهم وبعد فترة مفاوضات، ولغرض التضييق على الوجود الفرنسي في المنطقة، ساعدت القوات البريطانية الجيش العربي بقيادة الشريف حسين الدخول إلى دمشق، وذُكر في المذكرات البريطانية كيف أن الإنجليز تأخروا في الدخول إلى المدينة وتركوا العرب يدخلونها كفاتحين ليُصدّروا النصر على أنه نصر عربي خالص وبالتالي هم قادرين على السيطرة على زمام الأمور في البلاد، وبالتالي لهم الحق في المطالبة بالحكم الذاتي للمنطقة.

وافقت فرنسا على مضض لاحقًا الانتداب الفرنسي الذي يلزمهم بإنشاء دولة سورية مستقلة ذات حكم ذاتي، ولم تدرك أن بريطانيا من خلال ضباطها كانت تحرضّ الدروز على ثوراتهم ضد فرنسا في سوريا.

عندما أدركت فرنسا ذلك لاحقًا، قامت بفضح دور الملازم الإنجليزي لورانس في دعم العرب أثناء الحرب العثمانية وحتى في دعم الدروز وخلفه، ليظهر اسم لورانس العرب إلى العلن، وليعرف العالم للمرة الأولى عنه، وذلك لتبديد الانطباع السائد بأن العرب قد حققوا نجاحهم بمفردهم. ومن أجل أن تكشف للعالم الدور البريطاني في ذلك.
   
وعد بلفور

   
لم يكن هدف بريطانيا عندما أصدرت منحت وعد بلفور لليهود، بأن تقيم دولة إسرائيل الصهيونية العنصرية. كان وعد بلفور محددا بأن تكون فلسطين موطن للشعب اليهودي بما لا يضر الحقوق المدنية والدينية للمجتمعات غير اليهودية الموجودة في فلسطين. كان الهدف الحقيقي هو الحفاظ على موقعها في الشرق الأوسط، والتملّص من الإصرار الفرنسي لتنفيذ اتفاقية الجزء الخاص بفلسطين في اتفاقية سايكس بيكو والذي ينص على أن تكون فلسطين تحت الحماية الدولية وإرساء إدارة دولية فور الاستيلاء على فلسطين.

كانت ترغب بأن تكون فلسطين تحت سيطرتها بأي ثمن، وإن كانت لن تستطع أن تسيطر عليها بسبب تعنّت فرنسا، فستدفع الأمور بتوطين اليهود بأن يكوّنوا مع العرب دولة تحت الانتداب البريطاني.

لكن العرب لم يقبلوا بطبيعة الحال، وبدأت الاحتجاجات الرسمية التي لم تُغيّر من نيّة بريطانيا، لكنها جعلتها تتجه إلى لعبة السياسة للحد من الغضب العربي المتصاعد ضدها في المنطقة بشكل عام وفي فلسطين بشكل خاص، وذلك بعد أن كان العرب ممتنون لبريطانيا التي خلصتهم من الحكم العثماني. أصدرت بريطانيا بعض الورقات الرسمية التي سُمّي كل منهم بالكتاب الأبيض، استخدمتها من أجل السيطرة على غضب العرب تارة ومن أجل إرضاء اليهود تارة أخرى، وذلك دون الوقوع في فخ إعطاء أي منهما وعدًا نهائيًا يجد فيه أحدهما ذريعة لطرد بريطانيا من فلسطين.

أجبرت الحرب العالمية الثانية بريطانيا أن تلعب على جميع الأطراف، فلم ترغب في استفزاز فرنسا التي كانت معها في نفس خندق الحرب، وأيضًا لم تكن ترغب في أن يصل العرب إلى الدرجة التي يلجأ فيها العرب إلى ألمانيا، وأيضًا لم ترغب أن تفقد قوة شتات اليهود في مراكز القوى حول العالم.
  
تيودور هرتزل
   

لم تكن فكرة تهجير اليهود إلى فلسطين فكرة جديدة، بل كانت قد بدأت منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، في صراع طويل الأمد مع الدولة العثمانية التي رفضت طويلًا هجرة اليهود الجماعية أو امتلاك اليهود لأي أرضٍ داخل فلسطين لفترة طويلة من الزمن،وظل دخولهم مقتصرًا على الدخول غير الشرعي للبلاد. حتى قام تيودور هرتزل 1897 بعقد المؤتمر الصهيوني الأول والذي قاموا فيه بالإعلان صراحة عن رغبتهم في تأسيس وطن قومي في فلطسين ، وبعد أن كانوا يطمحون في أن يكونوا تحت سيطرة الدولة العثمانية أعلنوا في ذلك المؤتمر أنهم يرغبون في الاستقلال بفلسطين تمامًا. رد السلطان عبد الحميد الثاني على هذا المؤتمر باتخاذ قرارات مشددة بعد بمنع اليهود من السكن في فلسطين وبمنه اليهود الأجانب من دخول القدس. وأعلن السلطان في خطابه الشهير إلى تيودور هرتزل أنه لن يقبل أن يفرط في أرض فلسطين ومنحها لليهود. ومات تيودور هرتزل ولكن لم تمت فكرته.
   
هربرت صموئيل


في عام 1915 استغل السياسي الإنجليزي اليهودي هربرت صموئيل (صار لاحقًا المندوب السامي البريطاني في فلسطين) البلبلة التي حدثت مع فرنسا بسبب سوريا، في أن يقدّم مذكرته بإنشاء محمية إنجليزية تشجع الهجرة والاستيطان اليهودي ومن ثم إنشاء دولة ذات سيادة، وبهذا ستضمن امتنان العرق اليهودي والذي سيأخذ بعين الاعتبار المصالح الإنجليزية في المنطقة. (الغريب أن هربرت صموئيل كان معاديًا للصهيونية بشكل كامل في أول حياته بل وأعلن أنه لن ينضوي تحت أي دين، لكنه ومع انهيار الدولة العثمانية غيّر رأيه بالكامل وصار صهيونيًا أصيلًا وهو من أنشأ الدولة الصهيونية وهو أشهر مثال على شخصية الصهيوني غير المتدين أو غير اليهودي!)

راقت الفكرة لبريطانيا خاصة أن هذه المستعمرة ستحمي المنطقة الشرقية من قناة السويس من أية تهديد خارجي في المستقبل. هذا بالإضافة إلى أن بريطانيا كانت في حاجة ماسة إلى كسب تعاطف القوى اليهودية في أمريكا والبالغة مليون يهودي، والذين قد يساعدون في جرّ الولايات المتحدة إلى الحرب، بعدما بات واضحًا أن المساعدة الأمريكية ضرورية لهزيمة الألمان.

اعتقد البريطانيون أن هذا هو الحل الأمثل لإحباط الطموحات الفرنسية في الشرق الأوسط، وأيضًا وسيلة لانتقادات الرئيس الأمريكي ويلسون ضد الإمبريالية البريطانية ودفاعه عن حق تقرير المصير للدول التي لم تحصل على استقلالها.

مع ازدياد هجرة اليهود في المنطقة والذين كانوا في حاجة إلى أراضٍ للعيش فيها، بدأت عملية شراء اليهود للأراضي حول فلسطين أو داخلها، والتي بدأت بشراء أراضٍ لبعض الأثرياء من العرب والذين يعيشون خارج فلسطين، والذين باعوا ممتلكاتهم نظرًا لعدم استطاعتهم القدوم إلى المنطقة في ظل التوتر المشحون فيها. بعدها بدأ بعض سكان فلسطين الفقراء بيع أراضيهم للمرابين الذي كانوا يدينونهم بديون ضخمة.

انتبهت بريطانيا إلى أن التوغّل اليهودي قد ازداد بشكل أكبر مما تتحمله المنطقة، مما أدى إلى صراع أكبر بين اليهود والعرب. وعندما بدأت بريطانيا أن الأمن يفلت من يديها، ولعدم قدرتها في ذاك الوقت باستقدام قوات إضافية للسيطرة على البلد بسبب انشغال جنودها في الحرب، أصدرت قرارًا أوقفت فيه الهجرة اليهودية من الخارج وقصرتها على عدد محدود كي يتيح لهذا ذلك القدرة على استعادة الأمن في المنطقة.

استشاط اليهود غضبًا وبدأت نقطة الخلاف الحاسمة في العلاقة بين اليهود (الوكالة اليهودية وعصابات الأرغن والهاجاناة) بالمملكة البريطانية المتحدة. فعندما شعر اليهود بقوتهم قرروا محاربة بريطانيا والضغط عليها بكل الطرق الممكنة من أجل إجبارهم على الخروج من فلسطين، وهكذا لجأوا لأكثر من كان يكره بريطانيا في تلك الفترة... فرنسا.

تكشف الوثائق أن فرنسا هي من دعم اليهود في حربهم الشرسة ضد بريطانيا، وهي من مدهم بالأسلحة، وهم من آووا عملاء وقادة اليهود داخل حدود فرنسا أو داخل حدود نفوذهم في سوريا، حيث كان اليهود يشنون عملياتهم ضد الإنجليز والعرب في فلسطين. كما أن فرنسا سلّحت منظمة الإرغون الإرهابية وتغاضت عن عمليات اليهود بشراء الأسلحة ونقلها بحرًا إلى فلسطين، كما أنها أحبطت أكثر من صفقة بيع أسلحة لبريطانيا من شركات سويسرية وإثيوبية لنقلها إلى فلسطين لتسليح جنودها هناك. هذا بالإضافة إلى أن الجرائد الفرنسية لعبت دورًا هامًا ومؤثرًا جدًا لفضح جميع سياسيات بريطانيا وإثارة الرأي العام عليها خاصة الأمريكي، مما وضع ضغوطًا عظيمة على بريطانيا من أجل إنهاء الانتداب على فلسطين في نهاية المطاف.

كان السبب الرئيس للدعم الفرنسي هو طرد الإنجليز من منطقة الشرق الأوسط انتقامًا لما قامت به بريطانيا معهم في مساعدة العرب في دمشق في تولي الحكم الذاتي وذلك بالتصدي لمحاولات التزوير الفرنسية للانتخابات. وإدراكًا لأن بريطانيا ليس لديها نيّة للانسحاب من فلسطين، وطردها من المنطقة.

نجح اليهود باستخدام القوة الناعمة في قضيتهم عندما قامت الوكالة اليهودية بالتأثير في الإعلام الغربي والعالمي باستقطاب الكثير من المشاهير السياسيين ومشاهير الإذاعة والتليفزيون ولعل أشهرهم فرانك سيناترا وبوب هوب والإخوة ماركس وإليانور روزفلت. هذا بالإضافة إلى الصحف الأوروبية التي كانت تناصر اليهود وقضيتهم برعاية فرنسية، والتي هاجمت كثيرًا سياسة بريطانيا في ذاك الوقت.

فرانك سيناترا مع بن جوريون


وبالتوازي استخدم اليهود أسلوب حرب العصابات في حربهم ضد الإنجليز، سواء داخل فلسطين بتدمير ونسف مقرات الشرطة الفلسطينية ومقرات الانتداب الإنجليزي (أشهرها تفجير فندق الملك داود في القدس). أو بضرب المصالح البريطانية في الدول الأوروبية أو حتى داخل حدود إنجلترا! (مثل محاولة تفجير السفارة البريطانية في روما، والقبض على عدة خلايا يهودية تصنع رسائل متفجّرة موجهة لسياسيين بريطانيين بارزين، كما قاموا باغتيال اللورد موين – الوزير البريطاني لشؤون الشرق الأوسط في القاهرة. وأحبط الإنجليز محاولة إلقاء قنابل على سماء لندن مع منشورات "الخروج من إسرائيل الآن" إلا أن الطيّار حذّر الرأي العام، وتم القبض على كورف العقل المدبر لهذه العملية في مهبط الطائرات، كما اكتشف البريطانيون مؤامرة ليفشتاين لتلويث مياه الشرب في إنجلترا بالكوليرا والتي لم تُنفّذ.


حادثة تفجير فندق الملك داود في القدس

إدانة دولية لعملية التفجير




   

طار صواب الإنجليز وبلغت عداوتهم لليهود أوجها، خاصة أنهم فقدوا السيطرة تقريبًا في فلسطين مع تعاظم قوة العصابات الصهيونية وهما عصاباتي الإرجون وشتيرن المتطرفتين (اندمجا لاحقا في وزارة الدفاع للكيان الصهيوني بعد إعلان دولتهم) والتي زادت في حدة عملياتهما التي استهدفت الإنجليز والعرب بأبشع الوسائل ابتداء بعمليات السيارات المُفخخة وانتهاء بذبح أهالي القُرى والجنود. ولعل أبشع الجرائم التي قامت بها تلك العصابات هي مذبحة دير ياسين التي تم قتل ثلث أهلها 250 شخصًا، والتي أمعنت فيها العصابات اليهودية في الوحشية لزرع الرعبً في قلوب المواطنين، فقامت بالتمثيل بجثث الفلسطينيين ونُقل عن شهود عيان بريطانيين أنهم أُصيبوا بالصدمة لما رأوه من هول الوحشية التي بلغ منها أن رأوا امرأة مبقورة البطن وبجوارها جنينها الميت. 

بسبب تلك الوحشية العنيفة هرب أغلب السكان العرب، بينما طُرد أو قُتل من تبقى على يد الجيوش اليهودية غير النظامية، واللذين راحوا يبثون على مدى أيام رسائل تطلب فيها من العرب مغادرة المدينة قبل فوات الأوان. ولم يعرف العرب الهاربين من المدينة أن عصابات شتيرن والإرغون دخلت الميناء ومعهما أوامر بقتل أي عربي تصادفه، وإشعال كل الأشياء القابلة للاشتعال وخلع الأبواب بالمتفجرات، في عملية أُطلق عليها عملية المقص.
    
    

مذبحة دير ياسين

مذبحة دير ياسين

رمز عصابة الإرغون الصهيونية المتطرفة

رمز عصابة شتيرن الصهيونية المتطرفة
   
  

أما الإنجليز فيذكر الضابط جايمس بولوك في مذكراته عن الأيام الأخيرة المروّعة للحكم البريطاني في فلسطين "لا يسعني وصف الوضع الحالي. نكاد لا ننام في الليالي بسبب نيران الرشاشات والبنادق المتواصلة، إلى جانب التفجير الثقيل لقذائف الهاون."
   

    
تداعيات 

   

يخلص الكاتب البريطاني جايمس بار في نهاية كتابه الهام " كان الهدف من سياسة رعاية بريطانيا لليهود في فلسطين وسياسة تحيّز فرنسا للمسيحيين في لبنان يقضي بتعزيز موقع كلّ منهما في المنطقة عبر الحصول على امتنان هاتين الأقلّيتين، لكن بدلًا من ذلك أثارتا في المقابل عداء كبيرًا من العرب المسلمين في كلا البلدين وفي المنطقة بمجملها، فترتبت عليها تداعيات لا رجوع عنها.

بعد انهيار فرنسا عام 1940 فقدت بريطانيا ثقتها في فرنسا كحليف قوي ضد ألمانيا، ودفعها هذا الشعور إلى الضغط من أجل تحقيق استقلال سوريا ولبنان بغية تزويد العرب بحكومة مستقلة رغم أن بريطانيا كانت ترفض تشكيلها في فلسطين.

لكن استقلال سوريا ولبنان أدى إلى تداعيات سلبية على بريطانيان بعد أن لاحظ المراقبون أن هذا الاستقلال قد حفّز بقية دول المنطقة على الحصول على استقلالهم، ولم يمض وقت طويل قبل أن يُطاح أيضًا بالبريطانيين.

    
 تسببت سياسة بريطانيا المخادعة في صراعها مع فرنسا إلى تغيير شكل منطقة الشرق الأوسط إلى الأبد، وتسببت أيضًا في فقدانها جميع نفوذها في المنطقة، خاصة بعد أن أنشأت الكيان الصهيوني -فرنكشتاين المنطقة- بعد أن ظنت بغرورها إمكانية السيطرة عليه، فتوحّش وانقلب على الجميع بما فيها المملكة المتحدة، ليصبح سرطانًا عدائيًا مزمنًا في المنطقة. لكن المفاجأة الكبرى هي أن دعم فرنسا كان هو ما صنع الدولة الصهيونية وأعطاها القوة اللازمة لإقامة الدولة بأساليب العنف والإرهاب. ودخلت بعدها الولايات المتحدة الأمريكية إلى الصورة لتبدأ في مخططات أخرى للمنطقة كتب عنها المؤلف في كتابه الجديد "سادة الصحراء – الصراع الأمريكي البريطاني على الشرق الأوسط- أواسط القرن العشرين، وهو يغطي الفترة ما بعد 1948 حتى 1971 وذلك منذ انسحاب بريطانيا من الشرق الأوسط وإصرار الولايات المتحدة الأمريكية للدخول محلها في المنطقة، ودورها في الانقلابات وإجلاء بريطانيا عن قناة السويس.
    
  

التقييم النهائي

   




  
الكاتب جيمس بار
   
  

كتاب خط في الرمال؛ الكتاب ممتع إلى أقصى حد، ومليء بالمعلومات التفصيلية والمراجع الكثيرة، والتي لا يتسع المجال هنا لذكرها أو حتى تلخيصها. لكنه يحتاج إلى التركيز ومحاولة استيعاب كم تداخل العلاقات بين الأطراف المختلفة، بل وقد يحتاج القارئ إلى أن يدوّن ملاحظاته من أجل إنشاء خط زمني كي لا تتداخل الأحداث في عقله. 

مع التنويه أن الكتاب مبني على وثائق رسمية ومصادر مُشار إليها، بالإضافة إلى تصريحات لسياسيين وضباط شاركوا في تلك الحقبة، لكن الكتاب رغم حياديته إلا أنه يظل مُعبّرًا عن وجهة النظر الغربية، والتي بكل تأكيد ينقصها بعض الأمور من وجهة النظر العربية والتي إن جمعناها سويًا لأمكننا أن نرى الصورة بشكل شبه كامل، وذلك لأن هناك الكثير من القرارات والأفعال التي قد تبدو سيئة أو حكيمة، إلا أن دوافعها قد لا تكون ظاهرة لدى أحد الأطراف التي تنقل الخبر. ولهذا فمن يريد تقصّى التاريخ فإن أفضل ما يفعله هو القراءة من عدة مصادر مختلفة ومحاولة التوفيق بينهم.


الترجمة كانت جيدة وأرى أن ترجمة ماريا الدويهي كانت أفضل قليلًا من ترجمة سلافة الماغوط، وهو يظل تفضيل شخصي، وأرى الترجمتين جيدتين.

ملحوظة... نظرًا للمصادر الكثيرة في الكتاب، فقد فضّل الكاتب على سرد الأحداث باقتباسات مباشرة من تلك المصادر مع إضافة الأسلوب السردي الخاص به للربط بينها، مع وضع المصدر مباشرة وراء كل اقتباس. لهذا فقد يبدو سرد الكتاب غريبًا غير معتاد، ومع التقدّم في القراءة يصبح ذلك الأسلوب مألوفًا.

   

تقييمي للكتاب 5 من 5
    

أحمد فؤاد
17 آيار مايو 2020


                         

  
google-playkhamsatmostaqltradent