عندما تم الإعلان عن رواية حارس سطح العالم، وبدأ الناس يتحدثون عن فكرتها واستعاراتها؛ قررت قراءتها دون تردد، ذلك لأنني خمّنت ما ستحمله لي الرواية.
اعتبر نفسي محظوظًا أنني حضرت في الفترة التي كتبت فيها الكاتبة بُثينة العيسى روايتها - حوار مع الروائية بُثينة العيسى- معظم الأجواء التي حرّضتها –حسب اعتقادي-على كتابة هذه الرواية. وعلى مدار عام أدبي زاخر وبرعاية مكتبة تكوين وبتقديم ومحاورة بُثينة، سمعت أفونسو كروش وهو يتحدث عن كتبه التي ابتلعت والده وطريقته لمزج الفنون والرسم بالكتابة. وأضاء ألبرتو مانغويل الكثير من المناطق المجهولة في عقلي التي لم أنتبه إلى أنها موجودة داخلي. وفهمت أهمية البحث عن معنى اللغة من عبد الفتاح كليطو. تابعت مشكلات منع الكتب ورد فعل المثقفين على ذلك. قرأت الكثير من المقالات لبُثينة تتحدث عن اللغة وعن جوهر المعنى وأهمية المخيّلة وخطورة الرقابة. باختصار تشبّعت بكل تلك الأفكار، فما كان إلا أن جذبتني الرواية كمغناطيس ضخم، فارتطمت به ارتطامًا لم يُسمع له دويّ!
أفكاري المبعثرة التصقت بمغناطيس الرواية، وبدت متناثرة على سطحها، وكلما توغلت في أعماقها كانت الأفكار يتم ترتيبها لتشكّل معانٍ جديدة لا تُفهم إلا بعد تمام التشكيل.
عندما انتهيت من قراءة الرواية وصلتني رسالتها واضحة. واضحة بشكل حاد... حاد ومخيف وصارخ. حتى تساءت إن كان الوضوح لعنة!
أتعجب كثيرًا عن حماسنا الزائد من أجل اكتشاف الحقيقة والنبش فيما حولنا عنها، حتى إن رأيناها آلمتنا؛ لأننا نرى قبحنا فيها، وندرك أن السكوت قبح والتجاهل عار والتأقلم انكسار، ثم بالنهاية نجزع من عدم قدرتنا على المواجهة... فنتعامى عمّا اكتشفناه!
يذكرني ذلك بمشهد القرار الجماعي المتفق عليه ضمنيًّا -دون كلمة واحدة- لنسيان أمر غرينوي في رواية العطر. اتفاق على نسيان جماعي للمشكلة، فيظل الواعون كالمجانين... ويتحوّل النظام إلى الوجود ذاته... هل يتشابك هذا مع رواية البصيرة لجوزيه ساراماغو؟ لماذا لا يفارقني هذا المقطع من روايته:
حينئذ يسأل رجل أعمى: أسمعت شيئًا؟ ثلاث طلقات، أجابه آخر: لكن كان هناك أيضًا كلب يعوي. رُبما أصابته الطلقة الثالثة. الحمد لله؛ فأنا أبغض الكلاب. جوزيه ساراماغو - البصيرة
هل جنّني التأويل؟ هل ينبغي عليّ أن أفزع؟ إن كان التأويل ممنوعًا إذن فيجب علينا أن نقتل الأرانب! هل بدأت عليّ آثار نوبات الهلوسة؟
أرجوك لا تقرأ الرواية إن كنت مُهتمًا أو مهمومًا بأفكار كأفكاري أو كأفكار المؤلفة أو كأفكار كل مُثقف عربي ناضج! لكن إن أصررت على قراءتها، فمرحبًا بك معنا إذن في ذلك الفراغ العبثي الذي ندور فيه!
اندهشت حين قراءتي لبعض المراجعات على الرواية، أن هناك من يعتب على الكاتبة بأن النهاية لم تعجبهم لأنها قاتمة.
مهلًا... هل تمزحون؟!!!!!!!!
إنها ديستوبيا يا سادة، أدب المدينة الفاسدة، عالم النهايات السوداء. عن أي نهايات سعيدة تتحدثون. هذا النوع من الروايات هدفه الأساسي تخويفك... اقتحام دائرتك الآمنة... كسر حاجز الأمان الزائف الذي تشعر به . تمامًا مثلما يقول كافكا:
على الكتاب أن يكون الفأس التي تكسر البحر المتجمد فينا. كافكا
هناك من يتذمّر بأن كتاب "حارس سطح العالم" ليس برواية، وبأنها فقيرة الشخصيات وعديمة الحبكة. وأنا لا أعترض كثيرًا على ذلك فهذه الرواية بالفعل فقيرة الشخصيات وهي بلا حبكة تقريبًا، لكن هل هذه مشكلة؟ بديهي أن يكون ذلك عيبًا قاتلًا للروايات بشكل عام. لكن السؤال الأهم... أي نوع من الروايات كانت "حارس سطح العالم"؟
رواية "حارس سطح العالم" تنتمي إلى عالم الروايات الرمزية، هذا النوع من الأدب لا يهتم بعدد الشخصيات أو بتفاصيلها الوصفية، بل بهويّتها ومشاعرها. ولا يهتم أيضًا بالحبكة إلا بما يضمن سير القارئ إلى آخر صفحات الكتاب. هدف الروايات الرمزية أن تكون قابلة للتشكل بشكل دائم بما يناسب الإسقاط. تهرب دائمًا من التخصيص، تتلوّن كحرباء حسب هويّة كل قارئ يمسك بها. هي نص هارب من حدود عالمنا، مُتحرّر من الزمن والشخصيات. نصّ صالح للتداول عبر كل العصور.
هذا النوع من الروايات ليس هدفه المتعة، وإنما الوعي... إنه قنبلة موقوتة في ثنايا الكسل الفكري البليد. هو نوع من أنواع الخطابة، أو بالأحرى نوع من رد فعل ضد الخطابة. خطاب ملثّم مراوغ من المستحيل الإمساك به مُتلبّسًا!
هل سمعتم عن "مزرعة الحيوان" لجورج أورويل! أو "العمى" و "انقطاعات الموت" لجوزيه ساراماغو؟ أو "الشيطان يزور موسكو" لميخائيل بولوجاكوف. أو "الكوميديا الإلهية" لدانتي ؟
هذا النوع الأدبي قائم منذ زمن طويل، وأعترف أنني لست من مُحبيه لقتامته، لكن لا يمكن أن أتطرّف في الرأي فأُنكره!
أنا لا أقارن بين الرواية وتلك الروايات التي ذكرتها، ولكنني أصنّفها فأضعها في مكانها الصحيح للحكم عليها بحيادية. وأنا لا أدافع عن الكاتبة أو عن الرواية بل أدافع عن حرية الكاتب، وإتاحة الفرصة له للتجربة من أجل استكشاف آفاقًا جديدة، لتثري الأدب وتثرينا بالتبعية، حتى وإن لم تناسبنا التجربة.
اصطحبتنا بُثينة العيسى في رحلة عجيبة فاتنازية إلى أرض بلا ملامح، وشخصيات بلا أسماء، وحياة باللون الكاكي والبيج! تصرخ فيه ثلاثة ألوان هاربة من لوحة مُعلّبة باهتة، ألوان مُفعة بأمل أخير يحمل معه معنى الحياة. لون أحمر يُمثّل روح الطفولة، ولون أبيض يُجسّد نقاء المُخيّلة، ولون أسود يُعبّر عن مِداد الورّاقة الذي يرسم كل شيء!
نعيش مع الرقيب الأول حتى يقابل زوربا اليوناني لنبدأ معهما رحلة الهروب إلى المعنى، لكننا نسقط مع أليس ونترك سطح العالم، لنعيش الهلع في عالم الأخ الأكبر، فنحاول مع بينوكيو إنقاذ ما يمكن إنقاذه من نيران 451 فهرنهايت. إلا أننا نكتشف في النهاية أننا قد تورّطنا وصرنا جزءًا من هواجس حيّة!
كانت كلمات العجوز تثير الرعب في نفسه يجب أن تتأقلم مع الواقع، كُلّنا فعلنا.عندما يكون الواقع بمثل هذا الانحدار، فأسوأ ما يمكن أن يحدث لك هو أن تتأقلم. بُثينة العيسى - حارس سطح العالم
إن الروايات في جلّها؛ احتفاءٌ بالغرابة. بُثينة العيسى - حارس سطح العالم
أنا لست بطلًا، في الحقيقة أنا أكره الأبطال. هل أنت بطل يا أخي؟ إيّاك أن تكون بطلًا. بُثينة العيسى - حارس سطح العالم
نجحت بُثينة في زرع الخوف فينا تجاه المستقبل إن تنازلنا عن المخيلة، وإن تركنا وعي أطفالنا ينسحق داخل آلة استهلاكية ضخمة تُشكّل كائنات بلا هويّة.
ملأتنا بمقت ضد عالم الرقابة الذي يسيّطر رقباؤه على العقول، ويفرضون تأويلاتهم وأفكارهم واختياراتهم على البشر.
لكن ذلك لا يعني أنني لم أر سلبيات في الرواية...
في رأيي أن الرواية كانت طويلة، وبها إسهاب في عرض الفكرة، مما شابها -في بعض الأماكن- بعض الملل.
أيضًا أرى أن الكاتبة بالغت في السخرية من الرقابة، والانتقاص من الأنظمة، بل تعدّت إلى أن تكون عدائية في مهاجمتها في بعض الأحيان. وقد يكون هذا ديدن الروايات الرمزية، فالمبالغات فيها مقصودة لتُكثّف المعنى فيظهر جليًّا. لكن هذا التكثيف لم يلائمني، صحيح أن هدف الرواية بالأساس هو تعميق الشعور بالانزعاج من المشكلة المطروحة، لكن ذلك لم يناسبني.
قد يعود ذلك إلى ارتباكي الشديد تجاه قضية الرقابة ومنع بعض النوعيات من الكتب، خاصة لسن اليافعين. فعلى الرغم من إيماني بحرية المرء فيما يقرأه وأن الوعي لا يتشكّل إلا بتلك الحرية. إلا أنني لم أستطع أن أمنع ارتيابي من بعض الكتب التي قد يقع البعض في شراكها إن لم يكن مُستعدًا لها فكريًا.
في النهاية... أنا لا أحب التطرّف في تقييماتي، لهذا لا أستطيع أن أصف الرواية بالعظيمة، ولا يمكن أن أنعتها بالسيئة.
رواية حارس سطح العالم رواية جيّدة، فخمة اللغة، غنيّة الفكر، مُحرّضة للتأمّل، لكنها لا تصلح لكل قارئ، وهذا شيء لا يعيبها بالضرورة.
تقييمي للرواية
3 من 5
أحمد فؤاد
19 كانون الأول - ديسمبر 2019
19 كانون الأول - ديسمبر 2019