يكتب الكثير من القُرّاء عشرات المراجعات في كل يوم عن الكتب باختلاف محتوياتها، سواء كانت كتبًا علمية أو نقدية أو تعليمية أو أدبية. تختلف دوافع الناس لنشر مراجعاتهم ومشاركتها مع الآخرين، لكن نسبة كبيرة من المراجعات تُكتب من أجل تسويق الكتب بشكل تجاري، ومن أجل زيادة عملية الشراء، وهذا غالبًا ما تلجأ إليه دور النشر والمكتبات ومكاتب التوزيع. ولعل أشهر الأمثلة في وقتنا الحالي هو استحواذ شركة أمازون العملاقة صاحبة مكتبة أمازون على موقع مراجعات الكتب الشهير Goodreads، أضخم وأشمل موقع يضم مُراجعات عن الكتب. وقد تمت عملية الاستحواذ تلك لأن شركة أمازون قد فطنت مُبكّرًا إلى التأثير الضخم لمراجعات القُرّاء على قرارات شراء الكتب.
في هذا العصر الراهن والذي تسيطر عليه حُمّى مواقع التواصل الاجتماعي، تُستخدم مُراجعات الكتب من أجل الترويج للحسابات الشخصية والتي يتم استقطاب الكثير منها -في حالة نجاحها- من قِبَل دور النشر أو المكتبات الكُبرى من لتنشيط عمليات الشراء. ورغم أن ذلك له جانب إيجابي في إشاعة حُب القراءة بين الناس، وتجميل هذه العادة والحث عليها. إلا أنه وكما هو الحال مع أي فعل يتم تفريغه من هدفه الحقيقي، فقد أصبحت معظم تلك المراجعات جامدة لا روح فيها.
إن الكتابة ما هي إلا وسيلة للتعبير عن النفس، وكتابة المراجعة ليست استثناءًا. لهذا فمن المنطقي أن يكون الرأي مُعبّرًا عن صاحبه، يبرر فيه مآخذه على الكتاب أو يوضّح فيه أسباب إعجابه به. وعندما نُعبّر عن آراءنا بهذا الشكل، يخلق ذلك شكلًا من أشكال التلاقي الفكري مع قُرّاء آخرين، بعد أن تفتح لنا مثل هذه المراجعات آفاقًا جديدة لقراءة النصوص، واكتشاف معانٍ مستترة بين السطور.
يزعمون أن كتابة المراجعات يجب أن تخضع لإرشادات محددة باستخدام عناصر ثابتة من أجل أن تظهر بصورة رائعة. يظن الجميع أن عليه اتباع تلك الإرشادات كي ينجحوا في رصّ هذه العناصر بشكل مُنمّق لتظهر برّاقة، فتتحوّل تلك المراجعات -دون انتباه- إلى قالب واحد ذو أسماء متعددة، تمامًا مثلما تفعل بنا العولمة!
لكن الحقيقة أنه بخلاف الكتب العلمية والمراجعات البحثية، لا فائدة من التزام جميع القُرّاء باتباع إطار ثابت تُحبس داخله إبداعاتهم. فصياغة الآراء بشكل حُر؛ يفتح المجال لمراجعات ثريّة ومتنوعة. وكقاعدة عامة؛ فإن كتابة مراجعة عن أي كتاب أسهل من الكتابة عن عمل إبداعي. فالرواية كأقوى عمل أدبي إبداعي، تعتبر أكثر الأعمال الأدبية مراوغة.
إن الرواية كجنس أدبي إبداعي هو عمل غير قابلة للتشريح. نعم هناك أساسيات لازمة مثل الأسلوب السردي ومنطقية الحبكة وجودة كتابة الشخصيات. إلا أن كل رواية هي عالم مستقل بذاته، خلقه كاتبها ووضع فيها شيئًا من روحه.
يغفل الكثيرون أن الروايات لها مفاتيح للقلوب تمامًا كالأرواح. فنتآلف معها أو ننفر منها بلا أسباب منطقية. فالحب عاطفة لا تستدعي التبرير. هكذا الأعمال الإبداعية إما أن تحبها أو تكرهها سواء أتقن صانعها البناء أو أخفق. تمامًا مثل الموسيقى إما أن تستسيغها أذنك وتشعر بتغلغلها داخل روحك، وإما تشعر فورًا بالامتعاض!
هكذا نستطيع أن نتفهّم التباين الكبير الذي يصل أحيانًا إلى حد التناقض في تقييمات القُرّاء للروايات حتى العالمية منها والحاصلة على جوائز أو الحائزة على إعجاب النقاد. إن التقييمات التي تتراوح ما بين الإعجاب الكبير والاستهجان الشديد، توضح لنا بكل وضوح مدى خصوصية الرواية كعمل إبداعي.
إن قراءة رواية؛ لهي تجربة إنسانية حميمية، تجمع ما بين القارئ وشخصيات الرواية. تلمس أحداثها قلبه فيجد نفسه فيها، أو يعيش أحلامًا تمنّى لو عاشها في عالم الواقع أو قد يحدث عكس ذلك بأن يكتشف فيها قبح الحياة، ويدرك حقيقة كان يتحاشى الاعتراف بها في دنياه. يصبغ القارئ المعنى المكتوب بمعطياته، ويدمج أحداثها في كيانه، فيؤوّل المعاني لتناسب مفاهيمه، ويُفسّر الدلالات لتشمل عالمه. فيصنع كل قارئ نسخة خاصة به يحبها أو يكرهها، لكنها تبقى نسخته الفريدة.
و لهذا تنتابنا الحاجة دائمًا إلى شخص ما نشاركه اهتماماتنا، إلى الانخراط في نقاشات طويلة قد لا تهم العالم كثيرًا، إلى أن نتقاسم السعادة حينًا والوجع أحيانًا كثيرة. لهذا من الطبيعي أن يبحث قارئ الرواية عن قارئ مثله، يتبادل معه اقتباسات أعجبته أو يتورّط معه في معانٍ ساحرة اكتشفها بين الحروف، أو أن يجد من ينضم إليه في صب اللعنات على شخصية من الشخصيات أو على الكاتب نفسه!
إن كتابة مراجعة لكتاب هي مشاركة لحالة اندماج مع النص، هي عملية تحرر لمشاعر مشحونة داخلنا نتجت من عملية القراءة. نكتبها من أجل أن نبحث في فضاء العالم الافتراضي عن قارئ آخر يُثمّنها فينتشي بقراءتها، لتكون إشارة خفية له كي يخرج ما في جعبته بالتبعية.
عبّر عن رأيك في كل ما تقرأه... اختر كتابًا علميًا أو دينيًا أو أدبيًا... أخبر العالم عن رأيك فيه، عمّا شكّله داخلك، عمّا استفز خيالك فيه، أو أثار سخطك منه. لا تنشغل بالك بطول أو قِصَر ما تكتبه بقدر أن تجتهد أن يكون فريدًا.
كُن نفسك واكتب مراجعة نرى فيها روحك.
لا داعي لمراجعات الكلمة الواحدة "أعجبني / رائع / جميل / سيء". صدّقني... العالم مليء بما يكفي من السطحية.
إننا نحتاج إلى التفاعل مع القراءة أكثر من الاكتفاء بتصفّح ما نقرؤه .لا يستلزم التفاعل قراءة مئات الكتب، بل يتطلب أن نتماهى مع النص من أجل أن نفهم، من أجل أن نعرف، من أجل أن نستمتع.
فقط افتح الكتاب... وسافر بعقلك وروحك إلى عالمه.
وعندما تعود؛ من فضلك... لا تكتب مُراجعة سخيفة.
أحمد فؤاد
15 كانون الأول ديسمبر 2019
Banner vector created by makyzz - www.freepik.com