random
أخبار ساخنة

مُراجعة كتاب "هبة الألم" - د. بول براند وفيليب يانسي



من الصعب ألا يلمس هذا الكتاب روح من يقرأه!



الهرب من الألم 


نهرب طوال الوقت من الألم. رغم أننا نعرف يقينًا أننا لن نتمكن من الاستقرار في الحياة سوى بالتسليم بحتميته. رُبما لا نشعر بالامتنان الكافي إلى الخالق بسبب الإحساس بالألم، كوننا لا ندرك في كثير من الأوقات كيف أن الوجع هو ما يدفعنا إلى تجنّب المخاطر والابتكار والاختراع وإنقاذ الأرواح وحماية أطفالنا وأهالينا!


في رحلة حياتنا نعي أن التعلّم بالطرق الصعبة والتي بطبيعة الحال تكون غير مريحة، هي أفضل الطُرق التي تصقل قدرة الإنسان على الصمود على جميع الأصعدة، وتساعده بشكل لا مثيل له كي يجتاز الصعاب المُختلفة. مهما كان الكدر الذي يسببه؛ يبقى الألم هو نظام الإنذار شديد الحساسية الذي يضمن للإنسان البقاء على حياته كأولوية قُصوى في قائمة أولوياته. رُبما يُمكن للإنسان السيطرة على الألم أو تجاهله مؤقتًا من أجل أولويات أكثر أهمية مثل إنقاذ حياة الآخرين. وفقط حين يجبره الألم على تجاهل كل أمور الدنيا والتركيز على معالجة نفسه، وفقط حين يطمئن أن القلب أو الرئة أو الكُلى أو العين أو أي من أنظمة الجسم قد عادت تعمل بشكل سليم بعد زيارة الطبيب، حينها فقط يدرك أن الألم لم يكن أبدًا عدوًا، وإنما هو هبة إلهية عظيمة.

  


اسمع ألمك!


يتحدث الكاتب بشكل رئيس عن الألم الجسدي وعن كيفية تعامل الجسد البشري مع الأخطار المُختلفة وطريقته لحماية نفسه منها. يُعلّمنا الكاتب أهمية الاستماع إلى الألم كرسائل يتحتّم علينا الاصغاء إليها وعدم تجاهلها، لأنها الوسيلة التي يستخدمها المخ ليتواصل معنا من خلال رسائل التنبيه أو الاستغاثة، والتي ترغمنا على التوقف عمّا يسبب لنا الأذى.

  




  

الجميل في الكتاب أن الكاتب لم يشرح هذا الموضوع بشكل تنظيري، وإنما شرحه بسرد رحلة حياته المُلهمة منذ طفولته وحتى صار طبيبًا. اختار بول براند التخصص في مرض له شهرة عالمية تاريخية سوداء. إنه مرض الجذام. هذا المرض الذي حمل معه العديد من الخُرافات والتي أدت إلى نبذ المرضى بهذا المرض بشكل غير إنساني، حتى بعد التأكد من المرض غير مُعدي بل وحتى بعد أن برأ المرضى منه.


الجذام يُفقد الإنسان القدرة على الشعور بالألم. قد يظن البعض أن هذا الأمر رائع كونه يمنحهم بعض الهدوء والسكينة من سيطرة نوبات الألم عليهم، لكن سرعان ما يملأ الرُعب قلوبهم عندما يعرفون عواقب فقد الإحساس بالألم. تخيّل فقط أن ترى أمامك شخص يمسك مُحرك سيارة ساخن جدًا وجلده يتساقط دون أي اهتمام أو إحساس! أو أن ترى طفلة تقضم عقلة إصبعها وهي تلعب وتضحك مُستمتعة بلفت انتباههم ومشاهدة ملامح الفزع على أبويها! أن يفقد إنسان نظره تدريجيًا أمامك كونه لا يرمش بشكل مُنتظم لانعدام الإحساس بالجفاف، بل وتظل عينيه مفتوحة دون حماية الجفون الفورية. 


هذه بعض المشاهد المؤلمة -مذكورة في الكتاب- لحكايات حقيقية لأشخاص فقدوا هبة الألم، وتمنّوا في كل يوم أن يتألموا!

 


أعضاءنا المُتألمة لا تتألم!



يستعرض الكاتب أيضًا كيف أن الألم في حقيقته مركزه الذهن، وأن الأعضاء التي تشعر بالتعرض للخطر هي في حقيقة الأمر لا تشعر بالألم! وإنما ترسل عبر الأعصاب نبضات إلى المخ والذي يحوّلها إلى رسائل ألم أو خوف أو رهاب ليعيها الإنسان فيتجنّب هذا الخطر. ثم يتحدث عن الذاكرة الذهنية والبرمجة العصبية في المخ، فنفهم لماذا يخاف بعض الأشخاص من الإبرة مثلًا خوفًا هائلًا بل وقد يشعر بالألم فعلًا من وخز الإبرة رغم أنه لم تلمس جلده بعد، وربما يظلوا على خوفهم ليندهشوا أن الطبيب قد أنهى عملية الحقن بالفعل دون أن ينتبهوا هو لذلك! 

 



 

أيضًا يوضح لنا الكاتب كيفية تعامل المخ مع الأطراف التعويضية أو حتى عمليات نقل الأصابع بعد الحوادث، وكيف أن المُصاب يحتاج وقتًا طويلًا لتهيئة برمجته العقلية للمخ كي يعتاد على التعامل مع تلك الأطراف أو حتى مع عدم وجودها. بعض المصابين يتخيلوا أن أيديهم ما زالت موجودة رغم أنها بُترت منذ شهور. وآخرين يُحركون إصبع البنصر إذا طلب الطبيب منه ذلك رغم أن البنصر تم زراعته مكان الخنصر وربطه بعصب الخنصر وليس بعصبه الأصلي!


في الربع الأخير من الكتاب يتحدث الكاتب عن الألم النفسي وارتباطه باللذة، وكيف أن اللذة لا يُمكن لمسها إلا بالألم. لأن اللذة أو السعادة تفقد معناها بانتفاء المُعاناة، أو كما نعرف في ثقافتنا ”إنما يُعرف الشيء بضدّه“. كما يتحدث في آخر الفصول عن أهمية مساعدة الآخر والابتعاد قدر المُستطاع عن الثقافة المادية الاستهلاكية والتي تدعو إلى أن القناعة والرضا لا تأتي سوى بشراء مُنتج جديد.



ترجمة مُمتازة

 

الترجمة للُمترجمة السعودية آراك الشوشان، والتي وفقت في ترجمة الكتاب ونقله بشكل سلس ويسير رغم ما فيه من مصطلحات علمية صعبة، أعجبني أسلوبها وطريقتها التي اختارتها في الترجمة والتي شرحتها في مُقدمة الكتاب.


أتقدّم بالشُكر إلى المُترجِمة على مجهودها المبذول في ترجمة هذا الكتاب.



آراك لديها مُدوّنة جميلة ”سرديّة“… أنصحكم بقراءة تدويناتها التي تحمل أسلوبًا مُختلفًا ومواضيع مُتعددة أثرتني على المستوى الشخصي.

 

 

اقتباسات


ليس للألم وجود حتى تشعر به، وشعورك به يكون في الذهن.

الطب لا ينشغل فقط بالعناية بأجزاء الجسد. معالجة المرض ومعالجة الشخص همّان مُختلفان للغاية، ذلك أن التشافي يعتمد جانب كبير منه على ذهن المريض وروحه. المعاناة حالة ذهنية تتضمن الفرد كله.


الغربيون يميلون لرؤية المعاناة على أنها ظلم أو إخفاق، انتهاك لحقهم المكفول في السعادة.


الألم هو ألمي الذي يتزايد وكأنه هوس قهري. ألمك موضوع مختلف. حتى وإن مررت بالتجربة ذاتها، فإني أعرف ألمي فقط، وأخمّن ما قد ألمّ بك. أستطيع فقط أن أتوقّع ما تشعر به.


الألم يتعلمه الإنسان وليس فِطريًا.


ما يهم نظام الألم أن تشعر بالأسى للحدّ الذي يدفعك إلى أ ن توقف ما تفعله وتُعير انتباهك الآن.


الانتقام والمرارة هما الاستجابتان العاطفيتان اللتان يبدو أنهما الأكثر تسببًا للضغط عالي المستوى في الكائن البشري. وعلى العكس من ذلك، فإن الامتنان هو الاستجابة الوحيدة التي تزيد الصحة أكثر من غيرها.


تصبح المعاناة غير محتملة إذا لم يكن هناك من يهتم.


بم تنصح الإنسان إذا ما شعر بأنه على حافة الانهيار العصبي؟ افتح باب منزلك واخرج إلى الشارع وابحث عمّن يحتاج إلى المساعدة وقدمها له.


الحقيقة التي تضيع وسط هيمنة الدعايات الضاغطة في الغرب. هنا نوجّه باستمرار للاعتقاد بأن القناعة تأتي من الخارج، وأنها لا تتحقق إلا بشرائها منتجًا آخر. 

المتعة مرتبطة بتعاظم المعاناة التي سبقتها.


     





على هامش الكتاب


من الجميل أن نقرأ كتاب كتبه رجل غربي مُتدين يؤمن بالله، أصبح ذلك نادرًا في الكتب الغربية بل وأحيانًا في الكتب العربية هذه الأيام، وكأن الجميع صار يفرّ من ربط كتابته بوجود الله!


الحقيقة أن الكتاب لفت انتباهي إلى التأثير العميق الذي تتركه الأخلاق الحميدة في حياة الناس الذين يحتاجون إلى المساعدة، وكيف أن هذا التعامل من شأنه أن يدفع بغير المؤمنين بوجود خالق إلى تغيير رأيهم، عندما يلمسوا تلك الأخلاق على أرض الواقع ودون أي غرض نفعي. صحيح أننا قرأنا كثيرًا في الأدب والكتب التاريخية فظائع فعلتها الحملات التبشيرية باسم الدين مثل التي ذكرها الكاتب النيجيري تشينوا آتشيبي في روايته الرائعة أشياء تتداعى - مراجعة الرواية، أو مثلما حدث في إسبانيا بعد سقوط الأندلس، وهذه أمور تحدث غالبًا من قِبَل المًتطرفين دينيًا أو ممن يستخدمون الدين غطاء سياسي لهم.


لكننا نادرًا ما قرأنا عن الفضائل التي قدمتها تلك الحملات سواء المسيحية منها أو الإسلامية أو أي حملات تدعو الإنسان إلى الإيمان بالله. ليس فقط مجرد حملة تدعو للإيمان بشكل تنظيري ودعوي، وإنما من خلال خدمة الناس دون أي غرض نفعي سوى رضا الرب. هذا الأمر هام جدًا ولا يتحدث عنه الكثير ربما لأنه لن يجد زخمًا إعلاميًا شعبويّا. 


تذكرت عندما قرأت رحلة الكاتب ووالديّه، الداعية الكويتي الجميل -رحمه الله تعالى- الدكتور عبد الرحمن السميط، ورحلته العظيمة للعمل الخيري في أفريقيا وكيف أن أخلاقه العذبة وروحه السمحة جعلت قلوب الناس تهوى إليه.


إن أخلاقنا الراقية وكل الخير التي تُقدّمه هي ما يجعل العالم أجمل. وما أقبح العالم الحالي الذي صار أكثر أفراده ينبذ جميل خُلقه، ويتبنّي كُل ما يُعلي من شأن الأنانية وإيثار النفس.

 


التقييم النهائي

 

   


كتاب ”هبة الألم - لماذا نُعذَّب وما موقفنا من ذلك؟“ للدكتور بول براند وفيليب يانسي من الكُتب المُلهمة التي يجب على كل قارئ قراءته. الكتاب لا يتحدث فقط عن عالم الطب من الناحية العلمية والتقنية، بل هو كتاب إنساني تمامًا، يتعدى حدود علوم الطب الجامدة ليفتح لنا آفاقًا نرى من خلالها تأثير المرض والطب على الإنسان وحياته وكيفية تعامل المجتمع مع المرضى والأطباء وتأثير ذلك على حياتنا وأخلاقنا وعلاقتنا مع أنفسنا ومع الخالق. 


من الصعب ألا يلمس هذا الكتاب روح من يقرأه.

 


تقييمي 5 نجوم

 

 معيار التقييم:

  • نجمة = لم يعجبني
  • نجمتان = مقبول
  • 3 نجوم = أعجبني
  • 4 نجوم = أعجبني بشدة
  • 5 نجوم = استثنائي
    

أحمد فؤاد
28 كانون الثاني/يناير 2023


google-playkhamsatmostaqltradent