مُتيّمٌ أنا بحُب كتابة الرسائل وقراءتها، وما
زلت أرى حتى اليوم أن العلاقات بين البشر لا تستقيم دون الكلمات المكتوبة بأسلوب
الرسالة (في شكل بريد إلكتروني أو رسالة ورقية أو تدوينة)
مهما طال الحديث الشفهي بيني وبين طرف آخر، أشعر بأنني لم أنقل إليه شعوري كاملًا. وكثيرًا ما أفضى إليّ الطرف الآخر أنه لم يستطع أن يصارحني بشيء ما أثناء لقاءنا وجهًا لوجه.
فكّرت أننا رُبما نحتاج أحيانًا إلى أن نحتمي خلف الكلمات. أن نعيد بها تشكيل صورتنا التي لم نستطع أن نُعبّر عنها بشكل جيّد في الحياة. أن نكسر بها صورة ذهنية غير حقيقية كوّنها عنّها الآخرون. كثيرون منا ليس لديهم الحس العفوي وسلاسة التعامل مع الآخر. لعلّ ملامحنا لا تنقل جمال مشاعرنا، أو أن خجلنا يدفعنا إلى الارتباك فيتسبب ذلك في أن يسيء الآخرون الظن بنا!
على مساحة الكتابة الفارغة تختفي هواجس رهبة اللقاء المباشر. نشعر بالأمان في هذا الفراغ الذي لا يشاركنا فيه أحد. نسكب أحاسيسنا ونُشكّلها بصبر. تتكاثر الحروف وتزداد الجُمل فيتسلل اليقين إلى نفوسنا، ويتلاشى التردد تدريجيًا، لنصنع نصًّا نشعر فعلًا بأنه يُعبّر عن أنفسنا الحقيقية.
الخطابات تترك لنا أثرًا عميقًا في النفس أكثر
من محادثات الدردشة اليومية التي تضيع فيها كلماتنا وسط محيط لامُتناهي من
النقاشات. الرسائل تبقى شاهدة على لحظات قد لا نملك استرجاعها عندما يتقدّم بنا
العُمر، بل رُبما تصبح هي مؤنسنا الوحيد حينها.
الرسالة المُرسلة لك تمنحك الوقت الكافي كي تتماهى معها. تقرأها
على مهل في خُلوة فجر يوم بارد، أو أثناء تناولك قهوة الصباح أو شاي العصر، أو رُبما في وسط
ليلة مُقمرة تشعر فيها بالوحدة. تقرأ النص -مثلما تقرأ الكتب- بشكل مُستقل وليس
وسط تطبيقات مليئة بسيل من التنبيهات وبقايا نقاشات يومية مملة.
رسائل الحُب ورسائل الأصدقاء ورسائل الوجع كلها رسائل صادقة شديدة الخصوصية تنضح بالمشاعر الإنسانية، ومن الصعب ألا تلمس الكلمة المكتوبة نفس الإنسان وتهزّ روحه. رُبما لأن قارئها يتأثّر بفكرة أن الكلمة التي يقرأها هي كلمة مكتوبة له حصرًا.
لدي عشرات الرسائل التي أحتفظ بها -ورقية أو إلكترونية- وأعود إليها من فترة لأخرى. أنظر إلى الحروف المُتلألئة فيها وأراها كأمواج تتهادى لتصنع بحرًا من الكلمات. يُخيّل لي أن نسيمًا يهبّ منها وأكاد أُميّز فيها رائحة الودّ!
من بين تلك الرسائل؛ رسائل لأشخاص رحلوا عن عالمنا، ورسائل من أصدقاء فرّقت
بيننا مشاغل الدنيا. تبقّت لي كلماتهم بهيّة نقيّة مُفعمة بالحياة. رسائل ما زالت تحمل حنين الماضي وطُهر المشاعر وعذوبة البراءة، وصدق الألم.
لعلّ هذا هو سبب حُبّنا للكتابة. تخليد مشاعرنا كي يتذكرنا الآخرون؛ زوجة وحبيبة وأم وأب وأبناء وأصدقاء. أن يتبقى منا شيئًا ما... كلمات يحملها أشخاص يروا فيها ابتساماتنا، في وقت لن نكون فيه سوى طيف في ذاكرة الزمن.
الكتابة ليست فقط شفاء. الكتابة إلى شخص هي
بمثابة عقد ثقة بين طرفين. صكّ صداقة باقية، حتى لو افترق الطرفان. الرسالة هدية شديدة الحميمية من روح إلى روح.
الكتابة حُب. ورسالتك إلى شخص ما، هو أكبر دليل على الحُب الذي تكنّه له.
أحمد فؤاد
19 كانون الثاني يناير 2023