random
أخبار ساخنة

مُراجعة رواية "بين القصرين" - نجيب محفوظ

   



كيف يُمكننا -مع رجل كهذاأن نفلت من نفوذ سطوته!

  

كان هو رَبٌ البيت. مركزه الذي تبدأ عنده كُل حكاية وتنتهي. رهبته المزروعة في نفوس أهل بيته تمحق شخصياتهم بقسوة. وهَيْبَته المُروّعة تجعله دومًا حاضرًا -حتى في غيابه- في جميع تفاصيل حياتهم. داخل حدود المنزل؛ لا رادّ لقضائه ولا مُعقّب لحُكمه. ولا وسيلة للهرب من سُلطته سوى بالموت أو بالزواج.

 

عن الرواية

 

رواية "بين القصرين" – الجزء الأول من ثُلاثية القاهرة، هي أشهر أعمال الروائي المصري نجيب محفوظ، بل ولعلّها الأكثر اكتمالًا. الرواية من الأعمال التي اتفق على جودتها أكثر الأدباء والنُقّاد والقُرّاء العرب بل والأجانب أيضًا. بالإضافة إلى القُرّاء، يكاد لا يوجد شخص عربي لا يعرف الشخصية الأيقونية لبطل الرواية السيّد أحمد عبد الجوّاد الشهير بـ "سي السيّد" وليس ذلك بغريب بعد أن عُرضت الرواية على شاشة التليفزيون سواء كفيلم أو كمسلسل، بتجسيد بديع للأدوار وبخاصة دور بطل الرواية.

البعض يرى أن الرواية العربية التقليدية هي رواية بطيئة، خالية من الأحداث أو التشويق، يسيطر عليها الحشو واستعراض المهارات الأدبية واللغوية بحيث يكون التركيز على جمالية اللغة لا على مضمون الرواية وأحداثها. في الواقع قد يكون ذلك حقيقيًا في الماضي، فهو تطوّر طبيعي للخط الزمني لتطوّر أدب الرواية بشكل عام. فالروايات الأجنبية (الكلاسيكية) كانت بنفس الوتيرة المُملّة -في عُرفنا الحالي- تلك الطريقة التي كانت مقبولة في زمن ماضٍ. لكن هل كانت رواية "بين القصرين" -برغم الإسهاب وبُطء الأحداث- رواية مُملّة؟

قد تتفاوت الآراء تجاه الإسهاب الواضح في الرواية، سواء في التوسّع في الأساليب الوصفية، أو في التعمّق في الحوارات الداخلية، والذي أدّى إلى أن تظهر بعض الأحداث ممطوطة، مما تسبّب في خلق حالة من الملل -في بعض المواضع- لدى بعض القُرّاء. لكن من النادر أن نرى قارئًا توقّف عن قراءة الرواية وانفضّ عنها بسبب ذلك. هناك سحرٌ ما في مكونات الأسلوب الأدبي الذي استخدمه نجيب محفوظ في كتابة هذه الرواية تحديدًا، سحر يدفع القارئ إلى الاستمرار في قراءة الرواية حتى صفحتها الأخيرة.

 

 

الشخصيات

   

  

الشخصيات الذكورية

 

السيّد أحمد عبد الجوّاد

  




   

الشخصية الرئيسة في الرواية. سيّد بيت "بين القصرين“. قلبه مليء بعاطفة جيّاشه حَرّمَها على أهل بيته، وخصّها على من سواهم. حُب الوطن يجري في دمه طالما كان بعيدًا عن مخاطر الدفاع عنه. قلبه مليء بُحب عظيم فطري لله، رغم تجاهله لمُحرّماته التي ينتهكها بلا انقطاع ودون نيّة في التوبة!

في بيته الكائن في بين القصرين، كانت صلاته نُسك، ودعاؤه عقيدة، وصرامته نهج. أما خارج حدود المنزل، فكان سُكرِه عبادة، وعربدته شعيرة، وفي بيوت الراقصات (العوالِم) اعتكافه!

هكذا عاش أحمد عبد الجوّاد مُمسكًا بقبضته الحديدية على أهل منزله، وبقبضته الحريرية على أصدقائه ومعارفه وخليلاته.

غايته: صورة مرسومة بعناية في أذهان الناس. لطيف جذّاب خفيف الظل أمام الجيران والأصدقاء، مُخيف قاسٍ فظّ أمام أهل بيته. وسيلته: تقزيم دور كٌل إنسان في منزله، وغُفران أي إساءة تصدر من صديقٍ أو جارٍ. شعاره: الحفاظ على الأخلاق الحميدة داخل حدود منزله، وانتهاكها خارجها!

 

تناول نجيب محفوظ هذه الشخصية بهذا الشكل المُذهل يدل على براعة مُدهشة في رسم مكونات الشخصية سواء التفاصيل الحسيّة أو الجسدية. نلاحظ تناغم ظاهر الشخصية وباطنها -على الرغم من تناقضهما- ليس فقط من خلال أحاديث أحمد عبد الجواد مع أصدقائه أو أهل بيته أو من خلال حواراته الداخلية مع نفسه، بل وأيضًا من خلال ملامح الوجه وحركة الجسد. لا يكتفي محفوظ أحيانًا بوصف تعبيرات الشخصية المُتمثّلة في ابتسامة أو عبوس أو صراخ أو صمت، بل يعزل كل تعبير بذاته ليقوم بعملية تشريح لكل منها وإعادة هيكلتها وربطها مع دوافع الشخصية وبواعثها. يُذكّرني ذلك بأسلوب ديستيوفيسكي المُهتم بالحوار الداخلي للإنسان بينه وبين نفسه، وتسليط الضوء على النزاعات النفسية الداخلية للفرد.

 

إن جُزءًا من السيطرة القاسية التي فرضها أحمد عبد الجواد على أسرته، يعود لخوفه الشديد الذي يبلغ في قلبه مبلغ الرُعب من تجاوز إرادته وقوانينه. ومن ثَمّ تأثّر صورته واهتزازها أمام الناس.

كان لديه يقين بأن مشاورة زوجته في رأي، أو السماح لابن من أبنائه للتعبير عن نفسه؛ هو باب خطير لتمرّد واقع لا محالة! لهذا فكان القمع هو وسيلته الفعّالة تجاه أي محاولة من أهل بيته لإبداء رأي أو اتخاذ قرار، كي لا يظن أحدهم أن له الخيرة من أمره!

رأينا ذلك في تصوير المشهد الرائع زوجته أمينة:

(ولكنه هزّ كتفيه استهانة، وكأنما خاف أن تُدلي برأي يتفق أن يكون موافقًا لقراره الذي لم يعلم به أحد فتقوم عندها شُبهة ظن بأنه أخذ برأيها.)

 

وأيضًا في تساؤلات ابنته المُتألّمة:

"من ذا يردّ لك مشيئة؟ تُزَوِّجني وتُطَلّقني.. تُحييني وتُميتني. لست هنا. خديجة عائشة فهمي ياسين.. الكل واحد. الكل لا شيء. أنت كل شيء. أين قلبها من هذا كُله؟! لا قلب لها، لا يتصوّر وجوده أحد. لا وجود له في الواقع."

 

كما نرى جنون العظمة في تفكيره الذي لم يعد يرى سوى نفسه كأولوية أولى في حياة أهل بيته:

"لا أريد أن أعطي ابنتي لاحد ليثير الشٌبهات حول سُمعتي، بل لن تنتقل ابنتي إلى بيت رجل إلا إذا ثبت لدي أن دافعه الأول إلى الزواج منها هو رغبته الخاصة في مُصاهرتي أنا.. أنا.. أنا."

  

"لا يرضى أن ينشر فوقهم رقابته في يوم خالص السرور، ولا يطيق من ناحية أخرى أن يشهد عن كثب انطلاقهم مع دواعي الفرح. ولم يكن أكره لديه من أن يُرَى بينهم على غير ما عهدوا من وقار صارم. ولو كان الأمر بيده لتمّ الزفاف في صمت شامل."

 

إننا أمام شخصية أيقونية لا نكاد نُصدّق أنها شخصية خيالية. بل نكاد نُقسم أنها موجودة بالفعل. عاشت شخصية أحمد عبد الجواد (سي السيّد) أكثر من مئة عام، أسالت لعاب الكثير من الرجال ولمست آمال بعضهم أو أحلام يقظتهم.

 

 

ياسين

 

من أجمل الشخصيات التي رسمها نجيب محفوظ في هذه الرواية. ياسين شخصية مُركّبة تجمع بين شهوانية حيوان ونقاء إنسان. لديه مشاعر جيّاشة ونيّة صادقة في أن يكون إنسانًا بريئًا، كما نراه في علاقته بأخواته وزوجة أبيه وحتى مع زوجته (في بداية زواجه)، لكنه على النقيض يتحوّل إلى حيوانٍ خالص عندما تستعر داخله رغباته. كان مولع بالنساء حد الإدمان. بمجرد أن تُسيّطر عليه حالة الولع هذه، يفقد القُدرة على التحكم بنفسه، وكأنه مسلوب الإرادة. تتملّكه الشهوة بشكل عنيف، فيفقد معها اتزانه، ويتحوّل إلى ثور هائج تعميه رغبته عن التمييز. هكذا نراه مع كل صراعاته -القصيرة- مع نفسه في كل مرة تُسيطر عليه رغبته.

الغريب أن ياسين كانت لديه نيّة صادقة لإنشاء أسرة صغيرة، وكان يحمل داخل قلبه رغبة حقيقية في الوفاء لزوجته المُستقبلية. لكن يبدو أن الملل بعد زواجه قد أطاح بكُل أحلامه التي خالها ستخلق له جنّة مثيرة على الأرض.

قد تتشابه شخصية ياسين مع شخصية أبيه أحمد عبد الجوّاد في بعض النقاط مثل الولع بالنساء وبالخمر، لكنه كان يختلف عنه في كثير من الأشياء، فعلى سبيل المثال: لم ينو ياسين أن يكون صارمًا مع أبنائه في المُستقبل. كان يكره الطريقة الصارمة التي يدير بها أباه المنزل. صرّح بذلك ياسين في بعض الأحيان، إلا أننا يُمكننا أن نلمس حزنه العميق من جرّاء تلك الطريقة الصارمة، والتي حرمته من حُب أبيه ولُطفه وحنانه، والتي كان الأخير يوزعها بلا حساب لكل من هم خارج منزل بيت القصرين. لهذا فقد كان ياسين عاقد العزم ألا يُكرر فعل أبيه، وألا يتخذ الصرامة منهاجًا لإدارة منزله.

 

رُبما كان ذلك هو ما عمّق من وقع صدمة ياسين عندما اكتشف الوجه الآخر لأبيه، تلك المصادفة التي زلزلت نفسه. عبّر نجيب محفوظ ببراعة عن مشاعر ياسين المُضطربة حينها، على لسان الأخير سائلًا نفسه:

أيكون أبي رذيلة؟ أم يكون الفِسق فضيلة؟

 

تُظهِر لنا هذه الجُملة مدى اهتزاز الثوابت لدى ياسين في تلك اللحظة، لأن أبيه قد رسّخ لديه ولدى إخوانه -على مدار سنوات طويلة- مظهره الصارم الفاضل الُمستقيم. ومن شدة إيمان ياسين بأبيه، شكّ في لحظة ذهول أن يكون الفِسق فضيلة كي يحافظ صورة أبيه المثالية في عقله غير المُصدّق لما يراه. أو بالأحرى كان عقله الباطن رافضًا لفكرة أن يكون أبيه قد حرمه من لُطفه كل سنوات عُمره.

 

ياسين شخصية مُضطربة، لديه ماضٍ أليم يجثم على صدره، يُفقده الثقة في كل النساء، بل ويُفقده الثقة في نفسه. كان محظوظًا عندما وفّر له أباه بيئة مثالية بعد انفصاله عن أمه، عندما جعله يعيش معه في بيت بين القصرين، كما رمّمت أمينه (زوجة أبيه) بحنانها البالغ؛ جرحه العظيم الناشىء من علاقته بأمه، وأخيرًا أحاطه إخوانه بالاهتمام والحب الدافئ، واعتباره جُزءًا من الأسرة وليس دخيلًا عليها. لكن وعلى الرغم من كل ذلك ظلت تجربة ياسين مع أمه حيّة داخله، تنهش سلامة روحه وتقف عقبة في طريقه ليتخطى عذابه الداخلي.

أرى أن نجيب محفوظ خلق من شخصية ياسين شخصية غير طموحة، غارقة في مُستنقع الشهوات، كون طبيعتها الحيوانية هي الغالبة، خاصة مع الاضطراب الدائر داخله، وتساؤلاتها الفِطرية ووساوسه المرضيّة عن النساء والزواج والحياة والخمر.

لا يملك القارئ إلا أن يُحب طلّة ياسين في الرواية، مهما كره أفعاله الدنيئة. رُبما لأنه كان يحمل على عاتقه تلطيف أجواء الرواية بحسّه الفُكاهي ومُشاغباته البريئة، والمآزق التي يقع فيها بسبب إذعانه لجموح رغباته المُنْحَطّة.

 


فهمي


 ومن لا يتمنّى ابنًا مثل فهمي؟!

 

شخصية فهمي هي المثالية تمشي على قدمين، ولعلها الشخصية الوحيدة التي لا يختلف الكثير على حُبها والتعلّق بها. رُبما لأنها تُمثّل الجانب النقي مِنّا الذي لوّثته الدُنيا أو أجبرته قسوة الحياة على الانزواء. إنسان مُهذّب خلوق، متفوّق في دراسته، رحيم رقيق القلب، عاطفته نقيّة، يُبجّل أبويه، عاشق لوطنه، جريء شُجاع في الحق.

قليلون هُم ممن على شاكلة فهمي، إما لأن الحياة لا تجود كثيرًا بمثلهم، أو لأن من يستطيعون الحفاظ على نقائهم هُم ندرة. لكننا نتساءل هل من العدل أن يُمنَح أحمد عبد الجوّاد ابنًا مثل فهمي؟ وكيف يُمكن لفهمي أن يكون هكذا تحت كنف أب مثل أحمد عبد الجوّاد؟ والسؤال الأصعب، كيف سيكون وقع اكتشاف حقيقة شخصية الأب على نفس فهمي؟ اكتشاف كهذا من المُمكن أن يُدمّره تمامًا، وكيف لا وشخصيته الحالمة سترى انكسار مثله الأعلى وسقوطها في وحل الدنس! لكن مهلًا، من يُحدّد الصواب والخطأ ومن يُفرّق بين الدنس والعفّة؟ إنه المُجتمع الذي يُشكّل القوالب المُتعارف عليها من جديد، مهما اختلفت مع أعراف سابقة أو مع ما جاء في الدين. هناك دومًا تبريرات وتأويلات تُغيّر المفاهيم لتُناسب أهوائهم. مع مُجتمع مُنافق كهذا لم يكن وجود شخصية كشخصية فهمي أمرًا مقبولًا. كانت صورة وواجهة اجتماعية رائعة بكل تأكيد لأهله ومعارفه وأساتذته يتفاخرون بها أمام الآخرين، أما هو فكانت همومه مُختلفة وأحلامه مُغايرة وطموحه بلا حدود.

انعكست شخصية فهمي على المُحيطين من حوله، لكننا سنرى كيف سيكون لها أثرًا بالغًا في شخصية كمال في الجزء الثاني قصر الشوقوالثالث السُكّريّة، سواء كان ذلك على المُستوى الفِكري أو العاطفي أو الاجتماعي.


   


كمال


محور الثلاثية كلها وليس فقط جزأها الأول بين القصرين

 

استخدم نجيب محفوظ شخصية كمال من أجل التنقّل بين الشخصيات والبيوت نظرًا لأنه طفل،  في عُرف السينما يقوم كمال بدور كاميرا مُتنقلة، يتلصص على بعض الأشخاص ويتنصّت على آخرين ويُسمح له -بحُكم صغر سنه- بمتابعة أسرار الرجال أو حتى النساء الذين لا يلقون بالًا لوجوده، بل رُبما استخدموه للتراسل بينهم. أتاح ذلك للكاتب إظهار تناقضات بعض الأفعال مع أفكار أصحابها، بالإضافة إلى إبراز التساؤلات التي قد تبدو ساذجة في جميع المجالات، ورُبما قصد أن تأتي تلك التساؤلات -سواء دينية أو اجتماعية أو سياسية- على لسان طفل ليذكرنا بأن الأسئلة أمر فطري ويجب على الإنسان ألا يتوقف عن التساؤل وأن يظل دائمًا باحثًا عن الحقيقة.

 

على الرغم من أن كمال له منطقه الطفولي، إلا أنه يطرح تساؤلات هامة وتأملات عميقة، بدءًا من الخرافات التي يبني عليها بعض الناس عاداتهم المُرتبطة بأحداث خيالية ذات طابع ديني والتي نرى بعضها من خلال تعليمات أمه، ومرورًا بالتنقل بين البيوت ومحاولة فهم العلاقات والاختلافات بين البشر، سواء كانوا إخوته أو جيرانه أو أصدقاء أبيه. قد يدفعنا ذلك إلى التمعّن في كيفية تفكير الطفل عندما يرى تفاصيل حياتنا الصغيرة والتي تدفعه إلى التفكير في أسباب أفعالنا ومقارنة ذلك بما نُعلّمه له، حينها سيبني أفكاره الخاصة بناء على الصدق أو الكذب الذي يتبيّنه من أفعال من حوله. هُنا تحديدًا تتكوّن شخصيته الوليدة فتكون الأسُرة والمُجتمع إما مُعززه أو مُدمّرة لشخصيته.

 

 

كمال في هذه الرواية يُرسّخ بكل تساؤلاته لشخصية غير تقليدية في الأدب المصري الحديث، شخصية ستظهر بشكل عميق في الجزء الثاني (قصر الشوق) وبشكل أكثر نُضجًا واكتمالًا في الجزء الثالث (السُكّرية).

    

 




   

الشخصيات الأنثوية

 

تناول محفوظ في أعماله الأدبية الكثير من المشكلات الاجتماعية، والتي تخفي خلفها الكثير من الازدواجية في الشخصية المصرية (والعربية أيضًا سواء في مرحلة مُتقدّمة أو مُتأخرة ومدى تأثرها بالتحاقها بركب الحضارة العصرية.) لهذا فليس من المُستغرَب أن نقرأ هنا عن نموذج المرأة المقهورة وطغيان الشخصية الذكورية والتي فوق المُحاسبة. ثم نقرأ في أعمال أخرى عن آثار التحرر النسوي وتعدّيه خطّ الثقافة العربية وذلك عند تقمّصه الدور الغربي بشكل كامل. (تطرّق إلى ذلك في الجزء الثاني قصر الشوق“)

 

في رواية بين القصرينانقسمت الشخصيات النسائية في الرواية إلى أربعة أقسام.

 

نموذج الأنثى المُنصاعة

 

أمينة - نينة

على رأس الشخصيات التي تُمثّل الأنثى الخاضعة لإرادة الرجل بشكل كامل هي شخصية أمينة "نينة" زوجة السيّد أحمد عبد الجوّاد. طاقة الحنان التي لا تنضب. أمومة تفيض على جميع أفراد أسرتها من قلبها الأبيض. لكنها خاضعة بكُل إذعان لزوجها القاسي، حتى أنها أقنعت نفسها بأن ليس لديها أي حق في الاعتراض على تلك المُعاملة، بل وباتت ترى نفسها مُخطئة إن فكّرت في أن يكون لها رأي شخصي في أمر يخصها.

أمينة ذات شخصية ضعيفة. صارت دُمية مُهلهلة الإرادة رغم الحُب الذي يشعّ منها. قد يظن البعض أن هذا الضعف نتج عن قسوة الزوج، وهذا صحيح بكل تأكيد لكنه ليس السبب الرئيس. عندما نتأمّل مسار حياة أمينة، سنجد أنها كانت مُهيّأة بالفعل لتحكّم رجال على شاكلة السيد أحمد عبد الجوّاد. إنها ضحية تربية مُجتمعية مُجحفة. أمينة أنثى جاهلة غير مُتعلّمة -بُحكم أعراف بالية تؤمن بعدم أهلية أو أحقيّة المرأة للعمل- تضافر ذلك الجهل بالتديّن الظاهري فباتت ذات عقل مُنتَهك لكُل من يملي إرادته عليه كزوج أو أب أو أخ. لهذا فإن أمينة لم تتأثّر كثيرًا عند زواجها المُبكّر في بيت صارم، لأنها كانت مُعتادة بالفعل على ن تكون تابعة مُخلصة دون أي رأي حتى وإن كان هناك تعدٍ صارخ على حقوقها. وهذا ما نلحظه في المشهد الذي جمع بينها وبين أمها، فنرى أن أُمها ما زالت تُرسّخ في عقل ابنتها -التي بلغت الأربعينيات من عمرها- تلك الفكرة.

باختصار تُمثّل أمينة "مُتلازمة الإنسان المقهور"، ورغم أنها ضحيّة، إلا أنها قد تسبّبت -بدون أن تشعر- في ترسيخ سيطرة الأب المُطلقة على الأبناء بخنوعها التام.

 

والحقيقة أن نموذج المرأة الخانعة لم يكن مقصورًا على الحياة المصرية ولا حتى على الحياة العربية، بل هو ظاهرة كانت موجودة منذ بداية الحياة في العالم أجمع. كُتب التاريخ تتحدث عن ذلك. هذه هي الصورة النمطية القديمة عن تصوّر المرأة. أن هناك اتفاق ضمني بين الرجل والمرأة. أن يحميها هو مقابل المأوى والحماية والطعام. وبمرور الوقت صار الرجل يؤمن بأن أي وكُل شيء هو حلال خالص له ومن حقه مهما كان أنانيًا، وفي ذات الوقت مُحّرم عليها بشكل قاطع أي حق من الحقوق في الحياة سوى بموافقة حصرية ومُسبقة من الرجل.

 

 

خديجة وعائشة

خديجة وعائشة من جيل الشباب، وعلى الرغم من أنهما كانتا مُنصاعتان لإرادة أبيهما، إلا أنهما لم تكونا على الرغم من اختلاف شخصياتهما- خانعتين لزوجيهما مثل أمهما. قد يكون ذلك بسبب أن زوجيهما كانا ذوي تربية مختلفة حيث كانت أمهما من السيدات ذوات الشخصية القوية؛ مُثقفة مُشارِكة لزوجها في قرارات الحياة، وبكل تأكيد فإن هذا النموذج سيؤثّر بشكل كبير في تربية ولداها، خاصة الإقرار ضمنيًا باستقلال زوجتيهما برأيهما وشخصيتهما، وضمان حقوقهما في النقاش. ورُبما قصد نجيب محفوظ بهذا الاختلاف أن يشير إلى التغيّر الدائم الذي تتطوّر به الحياة والعادات المجتمعية مع كل جيل جديد.

 

نموذج المرأة المُتطلعة للحرية (بقدر)

 

مريم وأم مريم

هناك نماذج أخرى للشخصيات الأنثوية، مثل مريم وأمها، اللتان تُمثّلان طبقة الاحتكاك الأولى مع العالم الخارجي لسُكان منزل بيت القصرين. هذا الاحتكاك الذي تتفتّح عيون خديجة وعائشة على تصرفات مريم، والحيرة التي تنتابهما في اعتبارها حريّة مأمولة أم خُلق مُستقبَح. الاحتكاك لم يقتصر على فتيات المنزل بل امتد إلى شبابها بتساؤلاتهم المُختلفة التي تناسب أعمارهم، سواء ياسين أو فهمي أو كماللعب منزل أهل مريم دور إسقاطات البراءة والرغبة وحُب الحياة مقابل التزمّت الكائن في منزل أحمد عبد الجوّاد، وهو إسقاط مهم خاصة في القسم الأول من الرواية. بينما شكّل نفس المنزل وأهله مُعضلة عظيمة لأهل منزل بين القصرين، خاصة لربّ البيت الذي أصابه الارتباك الشديد بسبب التحوّل الذي حدث في القسم الثاني من الرواية لمريم وأمها.

 
 

نموذج المرأة التي لا تقبل المساس بحقها.

 

زينب

 

كان دور زينب صغيرًا لكنه مؤثرًا. زينب زوجة ياسين قررت ألا تقبل بالخنوع أمام خيانة زوجها، فثارت وطلبت الطلاق. هذا الفعل الذي يُعتبر في بيت بين القصرين تمردّ خطير، حتى أنه اُعتبِر خطأ لا يُغتفر للزوجة لمجرد أنها كشفت خيانة زوجها سيء الخُلق، ولم تتستّر عليه لتثأر لكرامتها.

نرى ذهول السيد أحمد عبد الجوّاد من قرار زينب الذي أطار عقله، ونكتشف أن حنقه العارم لم يكن بسبب ذنب ابنه بقدر ما كان بسبب تساؤله:كيف يمكن أن تُقرر امرأة!

"زينب تطالب بالطلاق أو على الأقل توافق عليه. أيهما الرجل وأيهما المرأة. ليس عجيبًا أن ينبذ الإنسان حذاء، أما أن ينبذ حذاء صاحبه!"

لم تقبل زينب بشروط أحمد عبد الجوّاد التي أقرّها بنفسه في البيت، لهذا فقد طار لُبّه واعتبر ما أقدمت عليه زينب وقاحة غير مسبوقة. لكنه تنازل عن مبادئه المُقدّسة للمرة الأولى في حياته من أجل المُحافظة على صديق عُمره محمد عفّت؛ والد زينب.

 

 

نموذج الأنثى القوية الجريئة

 

العوالِم (الراقصات)

 

المجتمع الذكوري لا يقبل أن تخرج المرأة عن طوعه، أو أن يكون لها رأيًا مُستقلًا ولو بشأن حياتها الخاصة. وعلى الرغم من ذلك فإن أكثر ما يثيره ويعجبه هو نموذج المرأة الواثقة والقوية. لهذا فكان نتاج هذه الازدواجية هي الزواج بامرأة خانعة في المنزل تقوم بدور الأم للأولاد والخادمة لزوجها، ثم الاستمتاع بنساء يمكن التملّص منهنّ بسهولة، بالإضافة إلى كونها علاقات سريّة ولا يُحسَب سوء خُلقهن على ذمّته. مثل الراقصات.

ربط نجيب فكرة سوء الأخلاق باستقلالية الرأي للمرأة، فنجد أن المجتمع الذكوري لا يقبل بوجود هذه الاستقلالية للنساء المُحترمات ذوات الأخلاق الحميدة. بل فقط للساقطات أو مُنعدمي التربيةفي رواية بين القصرين، نجد أن جُزء من ترسّخ هذه الفكرة في عقل أحمد عبد الجوّاد هي تجربته السابقة بـهنيّةأم ياسين، ويُمكننا أن نلاحظ الأثر البالغ لهذه التجربة على صرامته في تعامله مع أهل بيته. وعلى الرغم من أن هناك شخصيات أنثوية مثل زينب أو حرم المرحوم شوكت تجمع ما بين الاستقلالية والخُلق القويم، إلا أن أحمد عبد الجواد كان يعتبر تلك النماذج مُجرّد نماذج شاذة تُثبِت القاعدة ليس إلا.

هكذا نرى مزيجًا من الإعجاب والتوجّس من شخصيات مثل جليلة وزبيدة و زنوبة. وكأنه يقف في برزخ بين التقدير والحُب وبين الاشمئزاز والتحقير. لكنه أبدًا لا تمتد قدمه ليخرج من هذا البرزخ ليؤكد أي صفة فيه. هو خليط عجيب يُطمئِن أصحاب النفوس المريضة أمثال أحمد عبد الجواد وأصدقائه.

     




 

اقتباسات




ربما كان في وسع الارادة القوية أن تتيح لنا أكثر من مستقبل واحد ولكننا لن يكون لنا-مهما اوتينا من إرادة- إلا ماض واحد لا مفر منه ولا مهرب

  



أيكون أبي رذيلة أم يكون الفسق فضيلة؟

  

كُل إنسان ملوّث في هذه الحياة ومن يزح الستار يرَ عجبًا.


  


والحق لم يكن السيد مرهوبًا مخوفًا إلّا بين أهله، أما بين سائر الناس من أصدقاء ومعارف وعملاء فهو شخص آخر، له حظه الموفور من المهابة والاحترام، ولكنه شخصية محبوبة قبل كل شيء، ومحبوبة لظرفها قبل أي من سجاياها الحميدة الكثيرة، فلا الناس يعرفون السيد الذي يقيم في بيته، ولا أهل البيت يعرفون السيد الذي يعيش بين الناس.


  


فعندما قال الأب "لا" استقر قوله في أعماق نفسها وآمنت الفتاة إيمانا راسخا أن كل شيء قد انتهى حقا، لا مهرب ولا مراجعة ولا رجاء بنافع، كأن "لا" هذه حركة كونية كاختلاف الليل والنهار، غير مُجدٍ أي اعتراض عليها، ولا محيد عن اتخاذ موقف موافق لها، وعمل هذا الإيمان من ناحيته ـ بشعور وبغير شعور منها ـ على إنهاء كل شيء فانتهى.

  

أعجِب به من رجلٍ يحلُّ لنفسه اللهو الحرام، ويحرِّم على أهله اللهو الحلال!

  

السيد لم يخبر من ألوان الحُب -على وفرة مُغامراته- إلا الحُب العضوي وحُب اللحم والدم. لكنه لم يكن حيوانًا بحتًا، لكنه إلى حيوانيّته وُهِبَ لطافة إحساس ورهافة شعور وولع متغلغل بالغناء والطرب، فسما بالشهوة إلى أسمى ما يمكن أن تسمو إليه في مجالها العضوي. بهذه البواعث العضوية وحدها تزوج أول مرة ثم ثاني مرة.

  



لا أريد أن أعطي ابنتي لاحد ليثير الشٌبهات حول سُمعتي، بل لن تنتقل ابنتي إلى بيت رجل إلا إذا ثبت لدي أن دافعه الأول إلى الزواج منها هو رغبته الخاصة في مُصاهرتي أنا.. أنا.. أنا.

  

أين قلبها من هذا كُله؟!. لا قلب لها، لا يتصوّر وجوده أحد. لا وجود له في الواقع.
  


نجح في التوفيق بين الحيوان المُتهالك على اللذات، وبين الإنسان المُتطلّع إلى المبادئ العالية توفيقًا ائتلافيًا يجمعهما في وحدة مُنسجمة لا يطغى أحد طرفيها على الآخر ويستقل كُل منهما بحياته الخاصة في يُسر وارتياح، كما وُفّق من قبل في الجمع بين التديّن والغواية في وحدة خالية من الإحساس بالذنب والكبت معًا.

  

لم يكن يصدر في وفائه عن إخلاص مُجرد للأخلاق، ولكن -إلى هذا أو قبل هذا- عن رغبته التليدة في أن يظل حائرًا للحُب مُتمتّعًا بالسُمعة العطرة.

  

الأم غريبة ما ابتعدت عن أبنائها، غريبة ولو حلَّت في البيت الذي ولدت فيه.


  
ولكنه هزّ كتفيه استهانة، وكأنما خاف أن تُدلي برأي يتفق أن يكون موافقًا لقراره الذي لم يعلم به أحد فتقوم عندها شُبهة ظن بأنه أخذ برأيها.

  

لا يرضى أن ينشر فوقهم رقابته في يوم خالص السرور، ولا يطيق من ناحية أخرى أن يشهد عن كثب انطلاقهم مع دواعي الفرح. ولم يكن أكره لديه من أن يُرَى بينهم على غير ما عهدوا من وقار صارم. ولو كان الأمر بيده لتمّ الزفاف في صمت شامل.


  


فلعلّ غضبه على ما في ذنب ياسين من تحدٍ لإرادته، واستهانة بوجوده، وتشويه للصورة التي يحب أن يتصوّره بها أبناؤه، كان أضعاف غضبه على الذنب نفسه.


  


ما كان يخلق بزوجة كريمة أن تفضح زوجها مهما تكن الظروف على النحو الذي فضحت به زوجها. لقد أخطأ الزوج لكنها أخطأت خطأ أكبر. زينب تطالب بالطلاق أو على الأقل توافق عليه. أيهما الرجل وأيهما المرأة؟ ليس عجيبًا أن ينبذ الإنسان حذاء، أما أن ينبذ حذاء صاحبه!


  


هل تشعر بوخز الألم الحاد؟ هذا هو الألم حقًا. كُنت تُخدَع أحيانًا فتزعم أنك مُتألّم. كلًا. لم تتألّم قبل اليوم. هذا هو الألم حقًا.


 
  
  

تقييم الرواية

  

تقييمي 4 نجوم

 معيار التقييم:

  • نجمة = لم يعجبني
  • نجمتان = مقبول
  • 3 نجوم = أعجبني
  • 4 نجوم = أعجبني بشدة
  • 5 نجوم = استثنائي

  

  

خاتمة

 

كتب نجيب محفوظ رواية بين القصرينبحسٍ فلسفي رائع وبروح صوفية واضحة وبأسلوب أدبي فريد. تشبيهاته جاءت مُبهرة، ووصفه -رغم إسهابه- كان بديعًا. يجد القارئ نفسه كثيرًا يقرأ التشبيهات -غير المُعتادة حينها- مرتين وربما أكثر من أجل تأملها والاستمتاع بها. لكن هذا لا يعني أن الإسهاب لم يكن مُزعجًا. أيضًا كانت الوقفات والانتقال بين المشاهد كان طويلًا يفقد معه القارئ تركيزه وارتباطه بالأحداث.

رواية بين القصرين من أجمل الروايات العربية موضوعًا ولُغة وفِكرًا. مثّلت مرآة حقيقية لشريحة واسعة من المُجتمع المصري (والمجتمعات العربية المُشابهة)، أجبرت معها القارئ مواجهة الزيف الكائن من حوله في المُجتمع كما أرغمته على إعادة التفكير في تصورات ظنّ الكثير أنها مُعتقدات غير قابلة للمساس بها أو التفكّر فيها. هي رواية كما ينبغي أن تكون.

 

  

أحمد فؤاد
30/9/2022
الثلاثون من سبتمبر أيلول 2022
google-playkhamsatmostaqltradent