random
أخبار ساخنة

مُراجعة رواية "متاهة الأرواح" - كارلوس زافون

 
    

من مدخل سحريّ ولجنا المتاهة، متاهة مليئة بقصص مُتشعّبة، تتشابك مصائر أبطالها لترسم لنا حكاية تمتد عبر الزمن.

  

نهاية لا تكتمل!

دخلنا عالم مقبرة الكُتب المنسيّة من بوابة خلّابة تُسمّى "ظل الريح" - ذلك الكتاب الذي اختار دانيال قبل أن يختاره! علقنا مبهورين بكُل من عالم برشلونة القوطي الذي تنهشه نار الحرب الأهلية، وبعالم برشلونة الخفيّ الذي أنقذه من الضياع في ذاكرة البشر؛ الكُتّاب المنسيين: خوليان كاراكس ودافيد مارتين وفيكتور ماتايكس. رافقنا دانيال رحلة اكتشاف الحقيقة صُحبة ملاكه الحارس فيرمين والذي أرسله سجين السماء من غياهب الظلام. وعشنا في مكتبة سيمبري -التي تصارع كل آثار الزمن – أوقاتًا مُبهجة ومؤلمة على حدٍ سواء. كرهنا فوميرو وإندايا وفاييس، وبكينا على نوريا وإيزابيلا وكريستينا. وارتبكنا مع أليثيا ولياندرو. أحببنا صوفيا وفيرنانديتو، وتعاطفنا مع ميغيل وبارغاس وبيدرو فيدال.

  

لكن الرحلة آن لها أن تنتهي، أو بالأحرى حان وقت خروجنا منها! فالحكايات أبدًا لا تكتمل حتى وإن انتهت! بقينا طويلًا هائمين في متاهة الأرواح نبحث مع ساكنيها عن الحقيقة، لنخرج في النهاية من المتاهة غير واثقين إن كُنّا قد أدركنا الحقيقة حقًا أم أننا اختلقناها في خيالنا.

     

  



   

 

الحبكة

 

مع الصفحات الأولى لرواية "متاهة الأرواح" تبدأ الإثارة النابعة بالأساس من الرغبة العارمة في نفس كُل قارئ لسلسلة مقبرة الكُتب المنسية في ربط الخيوط المفقودة التي يُمسك بها على مدار ثلاث روايات سابقة "ظل الريح" – "لعبة الملاك" – "سجين السماء". لكننا نُباغَت بمُفاجأة أخيرة أعدّها لنا الكاتب كارلوس زافون.

تقودنا هذه المرّة شخصية جديدة تمامًا وهي أليثيا المُحقّقة التي تكوّن مع ضابط شرطة؛ فريقًا يقوم بشكل سريّ بتحقيق واستقصاء واسع -بصُحبة القارئ – في محاولة البحث عن الحقيقة لاستكشاف الألغاز التي ملأت حكايتنا. ومع القصة الجديدة بشخصياتها التي لا نعرف أكثرها تتشابك خيوطها مع خيوط قصتنا الأساسية في نقاط محوريّة تقودنا بعد حوالي 500 صفحة إلى مدخل جديد لمقبرة الكُتب المنسية لنعود مرة أخرى -إلى دانيال وفيرمين وعائلة سيمبري ودافيد مارتين وإيزابيلا لنسلك معهم طريقًا واحدًا وأخيرًا يؤدي بنا إلى مخرج المتاهة.

 

  

الشخصيات

  

يُقدّم لنا كارلوس زافون في هذه الرواية شخصيات مُميّزة في رسمها، ومُركَّبة في تكوينها. صحيح أن هناك تفاوت في قوة صناعة الشخصيات إلا أن أغلبها تتميّز بحضور عالٍ. نستطيع بكل وضوح أن نرى براعة الكاتب من خلال تفاصيل الشخصيات المُدهشة. حيث تظهر كُل شخصية بخصوصيتها المُتفرّدة. تصرّفات كُل شخصية تكشف عمّا هو غير مكتوب. اهتمام لافت بكل حركة أو نظرة أو التفاته.


يربط أغلب الشخصيات خيط واحد ألا وهو الخسارة من الحرب. كُل شخصية في الرواية لوثتها الحرب بشكل أو بآخر، وتركت داخل كُل منها ندوبًا لا تزول. الجميع أدرك حجم الخسارة التي ألمّت به بسبب الحرب، ومدى التحوّل الذي طرأ على نفسه، لكن كُلٍ منهم اختلف في طريقة التأقلم مع هذا التحوّل. هناك من استغل الفرصة لإطلاق أسوأ ما فيه من أجل إشباع حُب السيطرة، وهناك من أعجبه تشوّه روحه بالشر وراق له احتقار نقاء قلوب الآخرين، وهناك من يحاول مقاومة القُبح الذي يحاول أن ينهش في بقايا بياض قلوبهم. الرواية مليئة باللحظات الحزينة، والمشاهد الأيقونية المُلهِمة والتي تدعو القارئ للتوقف في بعض الأحيان لتأمّلها.


   

سنجد كثير من أبطال رواية "متاهة الأرواح" يملكون أرواحًا مُتناقضة تتباين درجة براءتها، حائرة بين ضفّتي الخير والشرّ. بعضهم يتصارعون للفوز على مقعد في الجحيم وآخرون تُحتمَل الحياة بوجود أمثالهم.

  

  


   

برع كارلوس أيضًا في خلق ثنائيات مُتنوعة وجذّابة، تحمل كُل ثنائية منها عُمقًا مُختلفًا، وبفضل الاعتماد على الحوار -الذي يُشبه سيناريو الأفلام- بات القارئ ينتظر كُل ثُنائية لمتابعة المعركة الكلامية الدسمة بين الشخصيتين، ويبحث بين السطور أو في ملامح الشخصيات عمّا تركه الكاتب للقارئ كي يدركه بنفسه.

 

من أجمل الثنائيات كانت فيرمين/دانيال – أليثيا/بارغاس- وأفضلهم على الإطلاق -في رأيي- أليثيا/لياندرو وهي تُمثّل أعقد العلاقات في الرواية وأعمقها تركيبًا وأكثرها اكتمالًا.

 

 

مُخطّط شخصيات سلسلة مقبرة الكُتب المنسيّة - (خريطة ذهنية) 

  



   

   

مثالي... أكثر من اللازم!

 

لا يمكننا أن نُنكر الإبداع الذي قدّمه الكاتب كارلوس زافون في هذه الرواية، والذي كاد أن يصل إلى درجة الإتقان. لكن يبدو أن هذا الإبداع أغوى المؤلف فتخطّى ميزان الإتقان. أو كما يُقال "زاد الملح في الطبخة ففسدت".


حاول زافون أن يُقدّم رواية مثالية لكنه لم ينجح في ذلك كما رأيت للأسباب التالية:

 

رغبة كارلوس زافون في تقديم جزء رابع ضخم لإرضاء القُرّاء الذين انتقدوه بعد رواية "سجين السماء" التي جاءت قصيرة وفقيرة الأحداث مُقارنة ببقية أعداد السلسلة - جاءت بنتيجة عكسيّة، حيث امتلأت رواية "متاهة الأرواح" بإسهاب واضح من أجل زيادة الأحداث حتى وإن كان ذلك لا يخدم القصة الأصلية. 

 

محاولة تقديم عمل حركي مثير ومُبهر (على الطريقة الهليودية) والتركيز على هذا الجانب، أثّر بشدة في الجانب الأدبي للرواية الذي نلاحظ انخفاضه، ولم ينجح في الحفاظ على كلا الجانبين على طول الرواية مثلما فعل في رائعته "لعبة الملاك".

 

النجاح المبهر للشخصيات الرئيسة في الأجزاء السابقة، جعل الكاتب يتكاسل في تطويرهذه الشخصيات فجاءت بعض حواراتها متوقعة ومُكررة وُمفتعلة. قد يكون ذلك بسبب الإطالة الواضحة للكتاب والذي تسبّب في ظهور الشخصيات بشكل باهت في بعض الأحيان وعلى رأسهم شخصية فيرمين والتي كانت في أوج رونقها في رواية "ظل الريح".

 

هذا لا يعني أن الرواية سيئة، بل على العكس هي رواية ماتعة إلى أقصى درجة ومليئة بالإثارة والتشويق، لكن -في رأيي- هناك عدة مشكلات أثّرت بشدة على حبكة الرواية مما أدى إلى ترهّلها في بعض الأماكن، وسألقي الضوء عليها مع العلم بأن النص سيكون مخفيًا لأنه يوجد حرق للأحداث.

 


ثغرات كارثية ومشاهد مُقحمة وأمور أخرى - (نصّ مخفي)




 

 

في ظني أن الكاتب قد يكون تأثر بطلبات دور النشر بأهمية أن يكون العمل مناسبًا لمتطلبات سوق النشر... فسوق عام 2001 ليس هو سوق 2016 – يتضح هذا من اختيار الكاتب شخصية نسائية لتكون بطلة للرواية (للمرة الأولى في السلسلة)، والتركيز على بث القوة والرغبة في تحدي المجتمع في بعض بطلاته مثل إيزابيلا وبيّا على سبيل المثال، وظهور النزعة التخريبية لإظهار الجانب السيء للأبطال وعدم وجود جانب خيّر بشكل كامل، بالإضافة إلى فكرة التركيز على الحركة والإثارة ليصبغها صبغة بوليسية هوليودية. وذلك على عكس رواية ظل الريح ولعبة الملاك حيث كانت الأحداث بها بعض الحركة والمغامرة والبوليسية لكنها كانت محتفظة ببعدها الأدبي.

   


اقتباسات

  


إن الذكريات التي تدفنها في الكتمان هي الذكريات نفسها التي لا تكف عن مطاردتك أبدًا.


      


الحسد غرغرينا الأدباء.


   
الألم الأصدق هو الذي نعيشه بمُفردنا.

    

الكتابة مهنة ينبغي تعلّمها، ولكن من المستحيل تعليمها.

  

لا أحد شهد الحرب بأم العين يُصدّق إلى الآن أن البشر أفضل من الحيوانات الأخرى.

  

القارئ لا يقرأ إلا ما كان مكتوبًا في وجدانه أساسًا.

  

الأمل الذي يحمله كل صانع حكايات في قلبه؛ أن يكون القارئ قد فتح صدره لأحد مخلوقاته الورقيّة وقد منحها جُزءًا من ذاته لتخليدها وإن لبضع دقائق.

  

فتبيّنتُ مع كل يوم يمضي أن لا صلة للأدب الرفيع كُليًا بالخُرافات المُبتذلة من قبيل "الوحيّ" أو "لديك شيءٌ ترويه". للأدب صلاتٌ عديدة بهندسة اللغة وعمران السرد ورسم الحبكة، فضلًا عن الدمغات وألوان الإنشاء، والصورة الفوتوغرافية المتولّدة من الصور الذهنية، والموسيقى التي بإمكانها خلق أوركسترا من الكلمات.

   

   


   

الترجمة

قد تكون قراءة الروايات بلُغتها الأصلية هي أفضل طريقة للاستمتاع بها، لكن قراءة الكلمات بشكل حرفي شيء، وإدراك المعاني والمصطلحات والتشبيهات اللغوية في باطن الكلمات والجُمل أمر آخر. قِلّة هُم من القُرّاء العرب ممن يستطيعون الاستمتاع بالإلمام بكُل تفاصيل الرواية وإدراك المغزى أو الاستعارات التصريحية أو المكنية والألاعيب اللُغوية المخفيّة بعناية في النصوص. 

وهُنا ندرك المجهود الضخم الذي بذله المُترجم معاوية عبد المجيد في ترجمة هذه السلسلة لإخراجها على هذه الصورة الرائعة. حُسن اختيار الكلمات المُناسبة والحرص على بلاغة الأسلوب أضفى مُتعة إضافية لقراءة هذا العمل البديع.


ترجمة فاتنة تستحق الاحتفاء بها لأنها بحق تليق برُباعية ساحرة.


شُكرًا معاوية


    

 



   

خاتمة

مع كل هذه السلبيات، تبقى رواية "متاهة الأرواح" واحدة من الروايات الرائعة المليئة بالمُفاجآت والالتواءات غير المتوقعة، والذاخرة بالشخصيات الفريدة والأحداث المُثيرة والتفاصيل المُمتعة. أما "ظل الريح" فتبقى هي دُرّة السلسلة وأفضل ما كُتب فيها من جميع الأوجُه.

 

يُخرجنا كارلوس زافون -أخيرًا- من الباب الضيّق لسلسلة مقبرة الكُتب المنسية – باب "متاهة الأرواح". تاركًا لنا ذكرى عشرات الشخصيات ومئات اللحظات التي بقيت معنا، وكمًّا من الذكريات التي ستصحبنا في حياتنا دون أن ننساها. 


لكننا نتساءل بعد هذا الخروج المثير: أخرجنا حقًا من المتاهة؟!

  

ففي داخل كُل منا متاهة... وفي نفس كُل منا حقيقته الخاصة التي يُقنِع بها روحه. وبين الشكّ واليقين تقبع أرواحنا الحائرة عاجزة -مثلما عجزت أرواح أبطال الرواية- عن إجابة السؤال: هل تعيش أرواحنا وهم الحقيقة أم أنها قد أدْرَكَت حقيقة الوهم؟!

   

  

تقييمي ثلاث نجوم
 
  
   معيار التقييم:

  • نجمة = لم يعجبني
  • نجمتان = مقبول
  • 3 نجوم = أعجبني
  • 4 نجوم = أعجبني بشدة
  • 5 نجوم = استثنائي

   


    

مُراجعة أجزاء السلسلة

     


    أحمد فؤاد
    12 كانون الأول/ديسمبر 2021


    author-img
    أحمد فؤاد

    تعليقات

    4 تعليقات
    إرسال تعليق
    • Reem Bader photo
      Reem Bader14/12/21 12:31 م

      من الأعمال التي سكنتني لوقت طويل جدا و ربما حتى اللحظة. ثمة مشاهد لا تمحى من ذاكرتي عن عالم شطر منه كابوسي تحت أرضي متواري رمادي و غامض. مراجعة دقيقة و متأنية. شكرا لك أ. أحمد

      حذف التعليق
      • Ahmad Fouad photo
        Ahmad Fouad22/12/21 12:28 م

        بالفعل من الأعمال المليئة بالكثير من المشاعر والأحاسيس التي تسكن القارئ أثناء قراءتها ولا تتركه بعدها.

        أشكركِ أ. ريم على تعليقكِ الجميل 🌹

        حذف التعليق
      • Rara photo
        Rara18/12/21 12:10 ص

        ممتاز ممتاز ممتاز،من أفضل المراجعات التي قرأتها في حياتي حتى الآن،مراجعة متقنة لرواية متميزة و دسمة و لا اي احد يقدر على كتابة مراجعة محكمة لرواية صعبة مثل هذه إلا قارئ ضليع و متمكن في عالم القراءة بالبلدي (إنت فصفصت الرواية)،و ذكرت الميزات و العيوب بتوازن شديد و كمان حاولت تفهم دوافع الكاتب و لماذا غير أسلوبه.
        شكرآ جزيلاً لك على هذه المراجعة القيمة.

        حذف التعليق
        • Ahmad Fouad photo
          Ahmad Fouad22/12/21 12:29 م

          ألف شكر على جميل ما كتبت... سعيد جدًا أن مراجعتي قد حازت على إعجابك. آمل أن أكون عند حُسن الظن بي دائمًا

          تحياتي

          حذف التعليق
        google-playkhamsatmostaqltradent