إيّـاك أن تكتمل!
من يتابع الساحة الثقافية مؤخرًا لا بُد أنه سيلاحظ أن هناك تغيّرات بارزة في مفهوم الثقافة. تغيّرات تَحَوّلَت معها المعرفة من غاية إلى وسيلة؛ خاصة مع انتشار مفاهيم التواصل الاجتماعي المغلوطة التي تشربّها الجيل الحالي. ولأن هذه الوسائل تُقيّم أداء مُستخدميها من خلال معيار التفاعل، فقد أصبح الظهور المُستمر والمتابعة اليومية وتقديم الجديد، هي مقاييس النجاح الوحيدة في عُرفها، حتى وإن لم يكن للظهور هدفًا أو لم يكن للُمقدَّم معنى. وبدلًا من أن يكون التعلّم والاطلاع والاكتشاف؛ وسائل للثراء المعرفي من أجل تكوين ثقافة الإنسان، أصبح الأهم هو إيجاد طريقًا مُختصَرًا للوصول إلى هذه الثقافة أو إتقان التظاهر بها.
هناك مجموعات من مُستخدمي وسائل التواصل
الاجتماعي، وأعضاء مواقع تقييم الكُتب؛ تُقدّم نفسها كنُخبٍ ثقافية مؤثِّرة؛
مُستدِلّه على أهميتها وتأثيرها بعدد المُتابعين لها أو عدد الإعجابات التي حصلت
عليها منشوراتهم وآرائهم والتي تُظهِر التأييد الواسع من القُرّاء؛ كبُرهان أكيد
لصحتها، وكدلالة واضحة على صوابها.
يتزايد انتشار هذه المجموعات بسبب
التأثير الذي تُضخّمه شبكات التواصل الاجتماعي، فتظهر تلك الآراء -والتي ليست
بالضرورة صحيحة- بمظهر الآراء الموثوقة. ومع تزايد عدد الإعجابات؛ تزداد ثقة أصحاب
تلك الأفكار بها، متغافلين عن أن أحد أهم أسباب هذه الزيادة يرجع إلى الخوارزميات البرمجية التي تتعمّد إخفاء كل ما
يعارض وجهات نظر المُستخدمين، وتعزيز كل ما يماثلها! فتكبر هذه الدائرة باضطراد، لكنها
تظل مُنغلقة على نفسها، ولا تقبل سوى بمن يشاركها أفكارها، وتنبذ كُل من يخالفها
إياها.
ومع الشُهرة الواسعة لهذه المجموعات،
يتهافت الكثير من أجل الانضمام إليها لضمان استقطاب مُتابعة وإعجاب أكبر عدد من أعضائها.
وما بين مُلاطفة وتملّق وانحياز- خوفًا من خسارة دعم الآخرين وفقدان المُتابعين- يتوهّم
البعض كمال كُل ما يُقدّمونه من آراء، فتخفت لديهم الرغبة في التعلّم، وتطغى عليهم
شهوة الظهور في صورة
شخصية المُثقّف الخارق.
هذه الصورة الوهمية والتي خلقتها وسائل
التواصل الاجتماعي، أضرّت بالصورة الذهنية للمُثقّف الحقيقي، كونها أسبغت عليه من
المثالية المتوَقّعَة ما يقارب الكمال، وفرضت عليه بأن يكون مُطّلعًا مُلِمّاً
بكُل المواضيع والأحداث السياسية والتاريخية والاجتماعية والطبيّة والعلمية والفيزيائية
والكيميائية والفلكية! بالإضافة إلى الأعمال الأدبية والنقدية؛ الكلاسيكية منها
والحديثة والمُعاصِرة!
بالتأكيد هُناك من المثقفين من هُم على
دراية معقولة بأغلب المواضيع والأحداث، درايتهم هذه نابعة من بُنية ثقافية متنوعة
من المخزون الثقافي لديهم. هؤلاء المُثقفين يبنون مخزونهم الثقافي من قراءاتهم المتواصلة واطلاعهم
المُستمر والنهِم على مدار أعمارهم. لكن وبسبب فِتنة وسائل التواصل الاجتماعي،
وإغوائها بتوفير المظاهر البرّاقة بكُل سهولة وسُرعة ويُسر، ينجرف القارئ
/المُثقّف/المُطّلِع؛ إلى اِدّعاء العلم، فيكتفي بقشور المعرفة التي تتيح له
التظاهر بهذا الاِدّعاء بكُل مهارة.
للأسف يستغنى الكثير عن المعرفة والنقاش
بالصورة. يتبدّى ذلك في الحرص المُبالَغ فيه في إظهار ثقافتهم من خلال تصوير
كُتبهم، ليظهروا كقُرّاء يقضون جلّ أوقاتهم في الاطلاع. وهكذا تفشّت الرغبة في
استبدال الصورة بالنقاش، فإن طُلِبَ منهم رأيًا في موضوع ما؛ لا يُعبّروا عن آرائه،
وإنما يردّون بصورة غلاف كتاب عن نفس الموضوع، وإذا دخلوا -مُجبَرين- في النقاش،
تجدهم يطلقون الكثير من الأحكام دون أدِلّة -سوى اقتباسات لا تُعبّر إلا عن رأي
كاتبيها- على الرغم من أن الواحد منهم قد يكون غير مُطّلعٍ على رُبع ما اطّلع عليه
الكاتب الذي بحث وقرأ وأعدّ ثم نثر فكره ونشره مُتوقّعًا أن يُناظره من يبحث مثله
في محيطات المعرفة.
هذا النوع من القراءة أو الإطلاع، مجرد
ثقافة فارغة تكترث بصنع قوالب جاهزة وسريعة لتكوين صورة برّاقة، مُتجاهلة وجوب
البحث والتعلم والتأمّل. ثقافة لا تثري المعرفة ولا تُطَوّر الذات، ولا تهتم سوى
بالمظهر؛ سواء أمام النفس أو أمام الآخرين.
إن الثقافة الحقيقية لا تكتمل، بل هي
عملية بناء مُستمرة بلا نهاية. الثقافة ليست مُجرد حشد وحفظ للمعلومات، بل هي سعيّ
دؤوب من أجل الارتقاء بالوعي والأحاسيس والأخلاق. هي رغبة صادقة من النفس لمعرفة
الحقيقة وإدراك محاولات التدليس في الحياة وتفنيدها. هي اجتهاد دائم من أجل إقامة
علاقات أفضل مع الآخرين من خلال استيعاب اختلافاتهم وتباينهم.
القارئ أو المُثقف الحقيقي هو من يحاور
ولكن بوعي، ويتساءل لكن برهبة، ويعلن عن آرائه لكن بتواضع.
إن من يقرأ بحق؛ يدرك أنه مع كل كلمة
يقرأها؛ يزداد معها جَهْله بِمِقدار ما يَتّسِع عِلْمه بها.