random
أخبار ساخنة

مُراجعة كتاب "الأدب والغرابة" - عبد الفتاح كيليطو


   

   

 

في كل مرة أقرأ لعبد الفتاح كيليطو، أشعر بأنني أقرأ بعين ثالثة!


 

مُغامرة في عالم الأدب

   

اختيار الكُتب التي نرغب في قراءتها قد لا يكون أمرًا سهلًا. تعترينا الحيرة ونحاول أن نوازن بين رغبتنا في المُتعة وتعطّشنا للمعرفة. وإن اخترنا مجالًا ما للقراءة فيه، فسنجد أن التردد يُصعّب من قرارنا. القراءة الأدبية مُمتعة لكن الأكثر متعة هو عملية تفكيك نصوصها والغوص في معانيها وإدراك جمالياتها. لكن من أي حقبة زمنية سنختار الكتاب أو الكاتب الذي سيصحبنا معه في تلك الرحلة؟ الزمن الكلاسيكي أم الحديث أم المُعاصر؟


ماذا إن كان هناك من يجمع لك كل ذلك في كتاب واحد!


هذا ما وجدته في كتابات عبد الفتاح كيليطو في كتبه التي تتحدث عن الأدب العربي واللغة العربية. وعليه فقد أصبحت أقرأ أي كتاب له يتحدث عن الأدب دون النظر المُسبق إلى مضمونه أو مدى رضا القُرّاء عنه، ذلك لأن القراءة لهذا الكاتب هي مُتعة في حد ذاتها. كل كتاب له هو مغامرة في عالم الأدب. مغامرة مثيرة نرى فيها الكُتب التي قرأناها من قبل بشكل مُختلف غير الذي ألفناها به. يُعلّمنا كيفية إعادة النظر في النصّ، بل وفي كل كلمة. أن نربط بين الكُتب وبعضها، وبين الكُتّاب وبعضهم. أن نوازن بين أن نعتبر الكتاب أو النصّ كعمل أدبي مُستقل دون أن نغفل مكانه في وسط نسيج الأدب العربي الكامل!

وهكذا نستطيع أن نتبيّن المدلولات المُهمَلة في الكلمات التي قرأناها مئات المرات. نُجرّب الدلالات ونُركّب مضمونًا تلو آخر في سياقات النص التاريخي والاجتماعي؛ مع من أجل الوصول لمعنى أعمق قد يكون قد خفي علينا أثناء قراءاتنا السابقة.

 



سأل أحد الطلبة في المغرب رولان بارت "ما فائدة البنيوية بالنسبة لبلد من العالم الثالث؟" قد يبدو السؤال مشاكسًا مُستفزًا، ولكنه مع ذلك في محله لأنه يضع ظاهرة فكرية في سياق تاريخي معين وحيز مُحدّد. سؤال يختلف عن السؤال الساذج الذي كنا نتداوله في الماضي "ما فائدة الأدب؟"

أخذت تطفو داخلي فكرة إعادة النظر في المقررات المناهج وطرق التدريس، ومع مرور الأيام تغيّرت نظرتي إلى الأدب: لم أعد أقرأ كما كنت أفعل في السابق، وعندما تتغيّر القراءة؛ تتغيّر الكتابة لا محالة.

 

   

   

عن الكتاب


مفاهيم وتحليل

   

الكتاب ينقسم لقسمين: الأول يهتم بتوضيح بعض المفاهيم: النص، الأدب، النوع، السرد، تاريخ الأدب. أما القسم الثاني فيهتم بتحليل بعض المؤلفات الكلاسيكية: أسرار البلاغة، مقامات الحريري، مقامات الزمخشري، مُلحة الإعراب، حكاية السندباد. ثم عرض لنا لكاتب الكثير من المُلاحظات المنهجية على الأدب الكلاسيكي، ومقارنات البلاغة عبر العصور والثقافات.

 



يعتقد عبد الفتاح كيليطو أن دراسة الأدب الكلاسيكي ليس مسألة تقنية أو موضة منهجية، لكن السؤال يندرج تحت سؤال آخر وهو "ما هي علاقتنا بالأدب الكلاسيكي؟" فالطريقة التي نتناول بها النصوص القديمة ترتكز على نمط وعلى تعريفات تختلف درجة وضوحها بحسب الباحثين، والباحث يعتمد -شاء أم أبى- على تعريفات دارجة للأدب، وعلى مفاهيم سائدة في الدراسات الأدبية العربية، مثل مفهوم الفرد المُبدع – مفهوم التعبير – مفهوم تلاحم أجزاء النص.


     



إننا نتخيّل أحيانًا أنه تكفي معرفة العربية لكي نفهم النصوص الكلاسيكية. هذا التخيل ليس صحيحًا كل الصحة. القاموس وحده لا ينفع في تقريب المسافة بين شاعر كالوأواء وابن سُكرة وقارئ القرن العشرين. لا بُد من معرفة شيء آخر ليتم اللقاء، ذلك لأن هناك مجموعة عناصر (المُتكلّم – الخطاب – المُخاطَب – النَّسق) يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار لفهم النصوص الكلاسيكية، لأن المؤلِّف الكلاسيكي بالأساس يُخاطب مُعاصريه.

     




يحدث سوء التفاهم عندما نعتمد على نسق حديث أثناء حكمنا على نصوص قديمة ترتكز على نسق مخالف. وهذا يؤدي إلى أحكام لا نقول إنها خاطئة، ولكن في غير محلها. لا ينبغي أن نتوهم أن النسق الكلاسيكي ماثل أمامنا بوضوح بحيث يكفي أن نمد يدنا لاقتناصه. لا بُد من تركيبه وتنظيمه من جديد، وهذا يتطلب منا ألا ننسى المسافة التي تفصلنا عنه، فالسؤال الذي وضعه أبو نواس في الشعر الجاهلي ليس هو وضعه جرير. وسؤال شوقي ليس هو السؤال الذي قد يتبادر إلى ذهن أحدنا اليوم.


     


لم يكن السرد مقبولًا في الثقافة الكلاسيكية إلا عندما يشتمل على حكمة (كليلة ودمنة) أو عِبرة (السرد التاريخي) أو صورة بلاغية ترفع من قدره (المقامات). إذا تعرّى السرد من الحكمة ومن العِبرة ومن البديع فإنه يُرفَض باحتقار. لهذا السبب أُهملت حكايات ألف ليلة وليلة في الثقافة الكلاسيكية.



  

 


   

البلاغة بين الثقافات والأزمنة المُختلفة  

  

في عرض جذّاب، يقارن الكاتب بين البلاغة اليونانية والعربية (المجاز) بين كتابات أرسطو والجرجاني، وكيف أثر تبلور اللغة والبلاغة في جو الديموقراطية في اليونان في كيفية ضرورة إقناع الجمهور وانتزاع موافقته (فن الخطابة). واختلافها عن نشأتها عند العرب، حيث أن أغلب دراسات البلاغة العربية لجأت إلى نماذج من الشعر القديم ونماذج من القرآن الكريم والتي كان فيها أبلغ البيان. كما يتوسّع في الحديث عن الفرق بين العلاقة الأفقية بين العناصر المكونة للنص، وبين العلاقة العمودية بين العناصر والمُتلقي، وهو الأمر الذي اهتم به الجرجاني في كتاب أسرار البلاغة، حيث لم يكتف بالكلام عن المجاز والتشبيه والتمثيل بل اعتنى كذلك بتحليل التأثير الذي تُحققه هذه الصور لدى المُتلقي.

 

 



إننا عادة نتكلم عن البلاغة وكأنها شيء واضح المعالم معروض أمامنا ببساطة وما علينا إلا أن نقتطف ثماره. هذا التصور ينبغي تصحيحه. ذلك أن ما يُسمى البلاغة مغروس في غابة من المعارف والعلوم وليس من الصواب المنهجي دراسة أحد هذه العلوم بمعزل عن العلوم الأخرى. البلاغة لها ارتباطات بالنحو والتفسير وعلم الإعجاز والمنطق وعلم الكلام.

   


         

كما يُقارن بين البلاغة بين اليوم والأمس

 

فيتحدث عن أهمية تبسيط المصطلحات مثل الاستعارة، والكناية، الاستعارة المكنية، مراعاة التنظير، الإرصاد، التجريد، والقول بالموجب. مع إبداء ملاحظته بأن على الرغم من استخدام بعض القراء الحاليين لهذه المصطلحات إلا أنه لا يخفى علينا غروب الدراسات البلاغية في العالم العربي.

 

كما يُنبّهنا إلى أمر هام، ألا وهو أنه إذ اتفقنا على أن البلاغة قد تغمدها الإهمال، فإنه يتعيّن علينا أن نبحث عن "العِلم" الذي عوّض البلاغة في العالم العربي، لأن علمًا لا يندثر إلا عندما يعوضه علم آخر.

 

   




المعاني المُبتذلة تثير في نفوسنا نوعًا من التقزز، أما في العصر الكلاسيكي فقد كان لها شأن آخر. ذلك أن المعنى المُبتذل يلعب دورًا سلبيًا في الأدب الحديث ودورًا إيجابيًا في الأدب القديم. ويرجع ذلك الاختلاف لكون الأدب الحديث يتغيّر بسرعة بينما لم يكن الأدب القديم يتغيّر إلا ببطء شديد.









    

      

    

التقييم النهائي

 

لا يُعلّمنا عبد الفتاح كيليطو كيفية القراءة المُتمعّنة فقط، بل تبلغ المُتعة مداها مع الثراء المعرفي الذي يُقدّمه الكاتب من خلال الإحالات لعشرات الكُتب والمراجع العربية والأجنبية.




يكشف لنا الكاتب في هذا الكتاب "الأدب والغرابة" المُحرّك الذي يدفعنا إلى قراءة الأدب والاستمرار في قراءته، ألا وهو الغرابة. والغرابة هنا تختلف عن مفهوم الدهشة وإن كانت جزء من نشأتها وسببًا في وجودها. إلا أن الاغتراب هو عكس الألفة، وفي الاغتراب دومًا معنى جديد لما قد ألفناه ورُبّما مللناه!

في الواقع؛ فإن كُل شيء غريب يثير فضولنا، والأدب بلا شك ليس استثناء!

 

  

تقييمي النهائي

5 نجوم


   
   
أحمد فؤاد
13 حزيران يونيو 2021



google-playkhamsatmostaqltradent