random
أخبار ساخنة

مُراجعة كتاب - رسائل سيلفيا بلاث - 1940-1963



 

   

حسنًا... كتاب عن أدب الرسائل؛ بالتأكيد ليس كتابًا لكل قارئ!

 


نعم أنا مهووس بأدب الرسائل، ومن يتابعني قد يعلم ذلك عندما صرّحت عن هذا في مقالي "خطابات من زمن فات - عن هواية أصبحت بلا روح" لكن ما قرأته في كتاب رسائل سيلفيا بلاث أصابني باندهاش بالغ، لم أتخيّل كمّ البوح الذي يسكن هذه الطفلة/الفتاة/المرأة! كمّ هائل من الرسائل والتفاصيل. سيلفيا بلاث تتنفّس الكتابة بكل صورها وأشكالها. حتى أكاد أشعر بأنها لا تجيد التعبير عن مشاعرها إلا على الورق. ولكن هذا غير صحيح. سيلفيا عاشت الحُب واستمتعت به وعانت منه!

 

سيلفيا... تلك المرأة التي شعرت بالوحدة فلجأت إلى الورق لتبوح من خلاله لكل من حولها... أمها / خالتها / عمتها / أخيها / صديقاتها / أصدقائها / مُعلماتها حتى طبيبتها. نثرت روحها في نصوصها التي تمثّلت في كمّ ضخم من الرسائل، بالإضافة إلى مذكراتها ومقالاتها قصصها وأشعارها، فبقيت حيّة فيها كما أرادت!

 

 

طفولة مُشرقة... على الورق!

  

أعترف أنني مُعجب جدًا بفترة طفولتها ومُراهقتها، فعلى الرغم من موت أبيها في سن الثامنة، وكفاح أمها في عملها والذي لم يكن ليكفي ليوفّر لهم معيشة جيدة، عملت سيلفيا في أوقات فراغها وفي عطلات الصيف في المزارع المجاورة وأيضًا كجليسة أطفال وكانت فخورة بذلك. تعلّمت أساليب التدبير والتوفير، وهذا أثّر على حياتها بأكملها وكأنها كانت في فترة إعداد مُبكّر لما ستواجهه في الحياة. وخلق من سيلفيا شخصية مُعتدة بنفسها. اعتمادها على نفسها مُبهر سواء ويستحق الاحترام، بل والتأمّل في واقع الأمر.

 


أعمل هذا الصيف في مزرعة في بلدة مجاورة. إنها وظيفتي الأولى وأنا مقتنعة تمامًا بأنني أقوم بأفضل ما يمكنني فعله. إن رحلة الدراجة التي تبلغ مسافتها عشرة أميال بالإضافة إلى قطف الفاصوليا لمدة ثمان ساعات وحمل صناديق الفجل وإزالة الحشائش والذرة لمدة ستة أيام في الأسبوع تجعل من الصعب الاسترخاء، ولكن وجود الأشخاص الذين أعمل معهم -الزنوج والمشردين والأولاد والبنات ممن هم في عمري- يستحق الأجر المنخفض. أستيقظ في السادسة صباحًا وآوي إلى فراشي في التاسعة ليلًا، وأُصبح مُغطاة بالأوساخ خلال يومي. لكنني فقط أبتسم عندما ينظر إليّ معارفي من ذوي الياقات البيض في فزع غير مصدقين عندما أخبرهم عن اضطراري لنقع يديّ في المُبيّض لتنظيفهما.




   



  

سيلفيا كانت فتاة مليئة بالنشاط والحيوية بشكل مدهش، لدرجة أنه يُخيّل لي أنها لم تكن تملك أي وقت فراغ إطلاقًا، تشترك بشكل دائم في المُعسكرات المُختلفة صيفًا وشتاء، تعمل في المزارع مع أطفال آخرين، بالإضافة إلى كتاباتها للرسائل أو الشعر أو القصص. باختصار... كانت طفولة سيلفيا مُشرقة... حيّة... نابضة بالحياة

 

 

لا شك أن سيلفيا كانت مُبدعة منذ صغرها، وهي التي نُشرت أول قصائدها في صحيفة هيرالد بوسطن هام 1941، حين كان عمرها تسع سنوات فقط! لكن لاحقًا رُفِضَت أعمالها الأدبية عشرات المرات، لكنها لم تنفكّ عن إعادة المحاولة حتى نُشرت لها أخيرًا مقالات وقصص، والتي كانت تتكسّب منها. لأنها كانت تؤمن وبشدة بجودة ما تكتبه، حتى أنها -حسب إفادة زوجها- لم تتخلّص أي مسودة لها على الإطلاق، كانت تحتفظ بهم من أجل تقديمها لاحقًا بشكل مُختلف.

 

  


مراهقة واعية ونضوج مُبكر


    

بسبب حياة سيلفيا وقراءتها وحبها للأدب، كانت تمتلك منذ صغرها عقلًا واعيًا أدبيًا مُتأمّلًا، كان لها آراءً جديرة بالاحترام وتكشف عن مدى فطنتها. كانت ترفض الحرب والعنصرية والزيف الاجتماعي

 

تتحدث عن الحرب وهي في الصف العاشر بالمرحلة الثانوية، وما تنقله الصحف عن الفظائع التي تحدث في أماكن الحرب في العالم.

  




تلفت الصحف والإذاعة انتباهي إلى الأمور اليومية العاجلة، لكن بما أنني لا أراها ولا أختبرها فهي ليست حقيقية بالنسبة لي. عندما يعيش المرء في منزل مريح طوال حياته من الصعب أن يفهم أن الآخرين يعيشون بشكل مختلف.

  

تتحدث عن زيف المجتمع الأمريكي من حولها بالتركيز على مظاهر الناس بدلًا من أرواحهم.

  




في كل يوم يتم غزو العالم الداخلي لعقولنا وأرواحنا. في كل منزل هناك جهاز راديو، نعم إنه يبقينا على اتصال بالعالم، ولكن هناك الكثير من الدراما التي لا قيمة لها والموسيقى السيئة التي تتسلل عبر الأثير لتنويم أولئك الذين هم بالفعل أكثر كسلًا من التفكير بأنفسهم. والتلفزيون! أصبح هدف أكثر الأُسر فقرًا هنا امتلاك التلفزيون، الجلوس حول الشاشة ومشاهدة مباريات البيسبول وكرة القدم. من السهل جدًا إغلاق باب الفكر والتحوّل إلى حالة حالمة وغير واعية بهذه الترفيهات التي تخدر ذكائنا الإبداعي. أُفضّل قراءة الكتب وخلق الصور في ذهني بدلًا من أن أترك لشخص آخر مهمة التفكير.

  

  



   

رغبت سيلفيا بلاث دومًا في مواعدة الشباب من الرجال أثناء مراهقتها، كانت رغبتها هذه كونها ترى الفتيات حمقاوات تافهات لا يتحدثن سوى عن الأزياء والممثلات وهكذا أمور. ورأت أن الفتيان والرجال أكثر عُمقًا في الفِكر. وكأنها كانت تريد بنقاشها معهم أن تُعبّر عن شخصيتها وتحاول التصريح بأنها نِدًّا لأفضل العقول. وعلى الرغم من اطلاعها وإلمامها الثقافي وتفكيرها العميق، إلا أنها كانت تعاني من ضعف الثقة بنفسها. قد يكون ذلك تعزّز باتهام بعض الفتيات لها بأنها غير جميلة وأن الرجال لا يرغبون بها، رُبما خلق ذلك داخلها شكّاً في نفسها دفعها إلى نقاش الرجال من أجل أن تثبت لهم أنها مُختلفة وذات عقل جدير بالإعجاب.

   

 

على الهامش

 

  

من الأمور التي أدهشتني حديثها عن مدى سوء المعيشة في المملكة المتحدة سواء في لندن أو كامبريدج - أو أوروبا بشكل عام، مقارنة بأمريكا. مثلًا؛ لكم أن تتخيلوا أن أكثر البيوت آنذاك لم يكن بها ثلاجات لحفظ الطعام.

اندهشت أيضًا من القذارة التي كانت تصف بها الشوارع أو حتى المباني والشقق التي كانت في أوروبا والمملكة المتحدة تحديدًا مقارنة بنظافة الولايات المُتحدة الأمريكية.

 

تقول:

  



لا يُمكنك تخيّل مدى قتامة إنجلترا في الشتاء! يتعيّن علينا تسخين الماء بنار الفحم إذا أردنا ذلك في غضون ساعتين، وحتى في ذلك الوقت تخرج أنفاسي على هيئة سُحب بيضاء. لا شيء يبقى جافًا ونظيفًا. كل شيء يجب إنجازه بيدك، سباكة الأنابيب وحتى تصليح الأسلاك. حفظ الله أمريكا، أرض الكعك اللذيذ، التدفئة المركزية، عصير البرتقال المُثلّج.

  




إنجلترا ليست مكانًا جيدًا لتربية الأطفال، الأسنان سيئة وأطباء الأسنان رديئين. إنه بلد ميت بحق. النظافة أمر نادر هنا. آمل أن يجد تيد الفارق الهائل في أمريكا ويرغب في الاستقرار هناك في نهاية المطاف.

    





من المُفارقات أن أحد أكثر الأسباب العملية لشوقي للعودة إلى أمريكا، هو ما كنت أسخر منه سابقًا؛ الثلاجات، الغسالات، الماء الساخن، والأفران التي تنجز أكثر من حرق الجزء العلوي للفطيرة وترك قاعها.

  

 

أيضًا تتحدث عن الأدب في إنجلترا:

   




لقد مات الأدب في إنجلترا، قُتل على يد الأكاديميين.

  

أعجبني أيضًا مُعتزل يادو المُخصص للعملية الإبداعية، وهو معتزل على مساحة 400 فدان في ساراتوغا سبيرنغز، نيويورك. يُقدّم هذا المُعتزَل خدمة للمبدعين ورعاية العملية الإبداعية من خلال توفير بيئة هادئة وداعمة لهم

 

   


 

تيد هيوز – هذا الحُب فيه سُم قاتل!

 

    




   

كان لقاء الشاعر الإنجليزي تيد هيوز (شاعر البلاط الملكي) هو حجر الزاوية في حياة سيلفيا بلاث، فكما حمل إليها كل سعادة الدنيا إلا أنه بالنهاية كان فيه عذابها وسبب انتحارها. أحبّت سيلفيا تيد حُبًّا عميقًا ولم تستطع حتى بعد خيانته لها أن تتوقف عن حُبّه، كانت تعشقه بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ورغم كل ما سببه لها من آلام إلا أنها فشلت أن تكرهه.

 

تقول سيلفيا بلاث أول زواجهما في رسالة إلى زوجها تيد:

   




أنا كُلّي لك وأنت ذلك العالم الذي أمشي فيه، وأفكر إذا حدث لك مكروه ذات يوم سأنتحر حقاً...

  

تُرى أكانت تتنبأ بحالها؟

  

  

 




  

هوجم تيد هيوز بشدة وقسوة من القُرّاء والمُثقفين بعد انتحار سيلفيا بلاث، خاصة بعد نشر رسائلها ومذكراتها، واتهمه الجميع بأنه السبب الحقيقي وراء انتحارها، خاصة أنه لم يكن خائناً لها فحسب، بل تنصّل من تربية أولاده وعبّر عن عدم رغبته في إنجاب طفله الثاني نيكولاس (انتحر نيكولاس عام 2009). ماطل تيد هيوز كثيرًا في مساعدة سيلفيا في الإنفاق على طفليها، بالإضافة إلى معايرته لها وإيلامه لها بما يعرفه عن مرضها ونوبات اكتئابها، مما زاد من تعاستها وبدّد ثقتها في نفسها قبل أن تلجأ إلى الانتحار.

 

سكت تيد هيوز عن كل تلك الاتهامات فترة طويلة قبل أن يخرج بمجموعته "رسائل عيد الميلاد" عام 1998 (قبل أشهر من وفاته) ليهدي قسمها الأول إلى زوجته الراحلة. وقرر أن يضع رده النهائي من مذكرات وقصائد وأشياء لم يعلن عنها، تشمل ما يخص علاقته بسيلفيا بلاث؛ وذلك في صندوق مُغلق بالشمع حمله بنفسه إلى جورجيا وأوصى بعدم فتحه قبل عام 2023

 

تقول سيفيا:

  



أعتقد أنني كنت مذنبة، إذ فقدت نفسي بحبي لتيد بدلاً من أن أجدها، وهذا هو السبب أن الخوف كان يقبع خلف حبي الغامر له، الكتابة، والطفلين. كنت دائماً أخشى هجره لي، وعليه فقد أصبحت متعلقة به أكثر فأكثر، وجعلت منه أباً ومعبوداً.

  

قد يظن البعض أن تيد هيوز مُتهم بالفعل وأنه غير مسؤول عمّا آل إليه حال سيلفيا، لكن انتحار عشيقته آسيا ويلفل (تزوجها بعد موت سيلفيا) بسبب خيانته لها أيضًا، جاء مريبًا خاصة أنها انتحرت بنفس الطريقة التي انتحرت بها سيلفيا بلاث أي باستخدام بالغاز، بل والأسوأ أنها انتحرت مع ابنتها ذات الأربع سنوات، مما يزرع الريبة في نفوسنا تجاه قدرة هذا الرجل في التأثير النفسي على من يعرفه من النساء.

   



  

يقول تيد هيوز:

   



نعتقد أننا نكتب لنمتع الآخرين، لكننا في واقع الأمر، نكتب لنقول شيئاً نرغب بشدة في مشاركتهم إياه، هذه الرغبة الغريبة هي لغز حقيقي، لماذا لا نكتفي بالصمت؟ من أين تأتي الحاجة الملحة إلى الثرثرة؟ لماذا يجب على البشر أن يعترفوا؟ ربما لولا هذه الاعترافات السرية لما وجدت القصيدة، لما وجدت القصة، لما وجد الكاتب نفسه.

     

   

قبل خطوة واحدة!

 

  

سيلفيا كانت مخلصة بشكل صادق وحقيقي. كل ما كانت تقوم به تفعله بإتقان؛ جميع الأعمال التي قامت بها نفذتها بكفاءة. حتى في الحُب؛ عندما أحبّت زوجها تيد هيوز، أحبّته بكل إخلاص وشغف ووفاء، وعندما خانها وتبرأ منها ومن أطفاله وتركها من أجل عشيقته، جاءت صدمتها بقدر قوة حبها. انكسرت بعمق بعدما تلاعب بنقاط ضعفها ومرضها وعزّز من كراهيتها لنفسه لإيلامها. تعاظمت الشروخ في روحها بعد أن خذلها أحبّ الناس إلى قلبها، وفقدت الثقة حتى في نفسها. غرقت في بحر تعاستها وسقطت في نوبات اكتئاب حادة، رأت فيها أنها لا تستحق الحياة.

 

تُرى هل أرهقت صلابة عزمها صحتها النفسية؟ مَن مِنا غير مُعرّض لذلك؟ الضغط النفسي والعصبي الشديد الذي كانت تمر به سيلفيا باستمرار؛ لا شك أنه أنهكها تمامًا مما عرضها إلى الدخول في نوبات اكتئاب مُتكررة.

 

هناك نقطة يتوقف عندها الإنسان عن القيام بروتينه اليومي، يصيبه الوهن والضعف فجأة بعد إجهاد مُتراكم. يشعر بانعدام معنى كل ما يقوم به، ويعتقد بعبثية كل مجهوداته في مقاومة ضغوطات الحياة. هي في الحقيقة فترة استراحة إجبارية، وكأن وظائف المُخ تقوم بعمل إعادة تشغيل لخلاياه، أو بالأحرى بإعادة معايرتها لتتلاءم مع كل ما يتغيّر في الحياة. إنه نوع من التحديث الضروري الذي يجريه العقل لاستعادة قدرته على التحمّل والاستمرار. هذه الفترة مهمة جدًا، إلا أنها خطيرة جدًا... إما أن يستغلها المرء أو أنها ستقضي عليه.

 

إننا نٌقدّر شجاعة أي إنسان يتصدّى للصعاب التي يواجهها في الحياة. سيلفيا بلاث كانت من هذا النوع المُقاتل. كانت تتعارك مع الحياة وترفض الاستسلام. لكن المُرعب في الأمر هو أن سيلفيا بلاث انتحرت بعد أن كانت في سبيلها للتعافي، أي بمجرد اجتيازها الوقت الأصعب في اكتئابها. كانت قد بدأت محاولتها للتأقلم مُتسلّحة بعزيمتها كي تواجه أحزانها، بل وبدأت في كتابة أعمال أرسلتها إلى قناة بي بي سي، كما كتبت في خطابها الأخير. يبدو أنها وقبل خطوة واحدة من الخروج من نفقها المُظلم انقض عليها ما ظنتّه أنه انتهى! من الواضح أنها تعرضت لهجمة شديدة من الكآبة القهرية لم تنجح في مقاومتها أو الهروب منها.

      



   


 

التقييم النهائي

 

   

كتاب رسائل سيلفيا بلاث، كتاب يجمع ما بين أدب الرسائل وأدب السيرة الذاتية. ليس مكتوبًا بشكل أدبي بليغ، وإنما مجرد رسائل تكتبها شخصية مميزة. بالتأكيد هناك الكثير من التفاصيل التي قد لا تُهم القارئ، إلا أن هناك الكثير مما يمكننا أن نتعلّمه ونتعرّف عليه من خلال تلك الرسائل.


الترجمة جاءت جدًا رائعة، وهي للمُترجمة فاطمة نعيمي.

   



  

كانت سيلفيا بلاث امرأة صلبة. وعلى الرغم من مشاكلها النفسية والعاطفية العميقة التي بدأت منذ وفاة والدها وهي طفلة، لكنها قاومت باستماته كي تستمر قوية.  وعندما وجدت ملجأها الآمن في حُب عمرها تيد هيوز، فتحت له أبواب روحها المُنهكة وارتوت بكل نهم من بئر حُبه المسموم.

  

من المؤلم أن تكون نهاية امرأة بهذه القوة هي الانتحار!

 

تقييمي للكتاب

3 من 5


    

أحمد فؤاد
9 حزيران يونيو 2021

 

google-playkhamsatmostaqltradent