للصباح سحر غامض يُغلّف أوّله. لعلّه يبدأ مع
الضوء الذي يصبغ فيه السماء في هدوء مُطَمْئِن، أو مع النسمات الأولى التي تحمل عبير
الصُبح الذي يتنفّس. عندما تتسلّل نسمات وقت الغداة إلى الروح كأنها تغسلها
فتُبرئها من كل ضيق. أو رُبّما يظهر أثره وقت الضُحى عندما تلمس الشمس الأرض بأشعتها
السحرية؛ فتدُبّ الحياة في كل شيء بشكل تدريجي حتى يضج العالم بصخبها.
أسير على قدميّ في صباحي الشتوي المُشرق البارد
أتأمّل بدايات يومي، وأمرّ بجوار بعض البيوت "الفيلات"، التي لا يزال أهلها
نائمين في هذا الوقت المُبكّر. أرى بعض العاملين والبُستانيين يلاطفون زهور حدائق هذه
البيوت، كُل منهم بخرطوم ماء؛ فتحييهم مُبتهجة بقطرات تحمل لها الحياة. تثير هذه
اللقطة حنيني وتُهيّج ذكرياتي فتسرقني إحداها من الواقع إلى الماضي البعيد.
أتذكّر جارين في السبعينيات من عمرهما، كانا يجاوروننا
في الشاليه -منذ عشرين عام- على شاطئ البحر المتوسط في أحد مُنتجعات الساحل
الشمالي. ورغم أنني كُنت أحب الاستيقاظ مُبكرًا، لكنني لاحظت أنني مهما بكّرت في
موعد استيقاظي أجدهما جالسين في حديقتهما أمام الشاليه يشربان الشاي بابتسامات
راضية، حتى ظننت أنهما ينامان في مكانها! بعد أن أُلقي التحيّة عليهما ويهدونني
تحية أبهى؛ تزيد صباحي بهجة بطيبتها. أجلس في حديقتنا وحدي -لأن كل أهلي نائمين- وأتأمّلهما
-عبر السور العُشبي المُفرّغ الذي يفصل بيننا- يُطالعان البحر في هدوء على وقع
أنغام زقزقة العصافير، وبين الحين والآخر يقوم أحدهما -بالتبادل- بتقليم بعض
النباتات أو سقاية العشب! أثمل بنسيم البحر العليل المُعبّق برائحة اليود. فأغرق بعينيّ
في زُرقتي البحر والسماء مُعجبًا بمدى انسجامهما بلونهما الأزرق وقطع البياض
المُتناثر فيهما موجًا كان أو غيمًا! وألمح الجاران يوشوشان زهور حديقتهما
الصغيرة!
يأتي الناس إلى المُنتجع للاستجمام وللاسترخاء،
لذا فهم يستعينون بخدمات البُستاني من أجل أن يجعل حدائقهم مُزهرة ومُرحّبة بهم كي
يقضوا فيها أوقاتًا هانئة. لكن جاراي وعلى عكس الجميع لم يستعينا ببُستاني قط! تعجّبت
يوم عرفت هذه المعلومة ذلك لأن حديقتهما كانت دومًا مختلفة عن بقية حدائق الشاليهات
في المُنتجع. كانت حديقة غنّاء آسرة أخّاذة. يقولون إن الزهور تشعر باهتمام من
يرعاها بل وتتجاوب طرديًا معه، وأنا -في ذاك الحين- لم أعرف أبدًا أن كان ذلك
صحيحًا أم لا، لكن بعد أن مرّت سنوات العُمر، تأكّدت أن هناك رابطاً ما في ثنايا اهتمام
المرء بالزهور. رُبّما كانت حديقتهما رائعة لأنها كانت الوحيدة التي لا يسقيها أو
يُهذّبها البُستاني "الجنايني " بشكل آلي.
أفكّر اليوم فيهما.. ويبدو لي -الآن- أنهما
لم يأتيا أبدًا للاستجمام... ولكن من أجل أن يُمارسا الحياة. ولكني لم أعرف بعد من
كان يستمد الحياة من الآخر. الزهور أم الجارين؟!
"احترس يا أستاذ"
أجفل على الصيحة وأنتبه إلى رذاذ الماء الذي
كاد أن يصيبني من مرشّة ماء.
"صباحك مُبهج" أقولها عفويًا وأنا ألوّح
بيدي إلى البُستاني الذي يقف في حديقة أحد البيوت. أُبصر ابتسامته فأهديه بمثلها. تتكوّن
ملامحه تدريجيًا في عيني كي تحتّل صورة جاري وتعيدها إلى غياهب صندوق ذكرياتي مرة
أخرى.
اُكمل طريقي وأنا أفكّر؛ تُرى كيف يشعر أصحاب
هذا البيت حين الجلوس في حديقتهم؟ أيستشعرون جمالها؟ أيشعرون بحياة الزهور فيها؟
أم يعتبرونها مُجرد مشهد اصطناعي كأنهم في حضرة لوحة زيتية بديعة!
وانتبهت إلى أن كل من أعرفه ممن يُحب الزهور
أو يهتم بها يحمل داخله روحًا عذبة لطيفة حلوة. وبدا أن هناك تأثيرًا للزهور على
نفس الإنسان، وكأنها تُهذّب روحه وتهبه شيئًا من جمالها الربّاني.
تساءلت وبقي سؤالي مُعلّقًا طويلًا في سماء يومي؛ "كيف نغفل عن ممارسة الحياة... الحقيقية؟"