"لا أحب
الرسائل"
هكذا قذفها في وجهي بلا ترفُّق، ثم أكمل:
"أنتم يا أصحاب القلم تصنعون من الحبّة قُبّة، فما الداعي لأن أكتب لك كلمات
تشرح لك شعوري تجاهك؛ إن كان باستطاعتي أن أقول لك كلمتين اثنين "أعتز
بصداقتك" هكذا ببساطة وبدون أي تعقيد".
بهتني قوله وعجزت عن الرد السريع كعادتي. انسحبتُ من النقاش مؤقتًا خشية التورّط في سفسطةٍ مُتسرّعة. رغبت أولًا أن ألملم أفكاري التي
تناثرت على إثر الفوضى التي خلّفتها زوبعة رفضه لرسالتي له!
تساءلت في شكّ إن كان صديقي على صواب، وأن
الرسائل والكلمات التي نُعبّر فيها وبها عن مكنون مشاعرنا ما هي إلا فذلكة بلاغية فارغة
لا تضيف معنى ولا تُعزّز مفهومًا. وأن الاقتضاب هو الوسيلة المُثلي للتواصل بين
البشر كونها وسيلة أكثر عملية وأقل إضاعة للوقت. وأن المواساة والرثاء ووصف
المُعاناة هو مجرد إطناب لا طائل منه.
لكنني بعد قليل من التفكير اهتديت إلى أن
الحياة لن تستقيم إن كان صديقي على صواب. أي أن نوجز ونختصر ونقتصد في التصريح بما نشعر به، وأن نجتثّ بذور البوح من أعماقنا، ونُقلّص مساحاتنا المشتركة مع الآخرين، وأن نوئِد داخلنا الكثير من عواطفنا ووجداننا وانطباعاتنا. لا بُد أن يكون الأمر وسطيًا دون
مبالغة في التعبير أو إمحاقًا له. لأن الإنسان لم يُخلَق كي يعيش كرمز وسط مُعادلة
رياضية صارمة، ولا أن يختزل أحاسيسه ومشاعره في كلمة موجزة تُقال في مواعيد
مُحدّدة. إن هذا الاختزال في واقع الأمر ما هو إلا تقليص من مساحته الإنسانيّة الخاصة
التي يتفرّد بها عن بقية المخلوقات.
إن اتخذنا هذا الاختزال كقاعدة حتمية للارتقاء بحياة البشر، إذن فبالقياس سنجد أنفسنا نختزل بقية المشاعر التي نُعبّر عنها، فننزع منها حُسن اللغة وبلاغتها وجمال وصفها، ونحشرها في فعل أو قول واحد بشكل ماديّ بحت. فالجمال لا قيمة له في عالم ماديّ صرف. إن الأمر يتحوّل إلى عملية تفريغ كاملة للغة، فلا بلاغة ولا تورية ولا مجال لما بين السطور، ولا مقام لِمَا يسكن النفوس ويعجز اللسان عن قوله!
وهكذا نستغني عن العشق والوله والولع والشغف
والصبوة والغرام والهيام والمعزّة والهوى والودّ، ما دام يُمكننا أن نقول "أحبك"!
ونلغي من قواميسنا كلمات مثل الأسى والأسف والاستياء والجزع والتعاسة والتبرّم والاكتئاب والجوى والحسرة والشجن والكرب واللوعة والبؤس، ما دام يُمكننا التعبير بكلمة "أنا حزين"
ولتذهب أشعار الرثاء إلى الجحيم، فما الحاجة
إلى التعبير عن ألم الفقد؟ وما الداعي إلى المواساة وتفهّم أسى الآخرين؟ وهكذا يتحوّل
تعاطفنا إلى استنكار، ونعترض على تضييع الوقت في التعبير والبوح رغم أنه في
استطاعتنا أن ينتهي الأمر بكلمة تعزية!
أردت أن أصيح فيه: اذهب يا صديقي إلى أمٍ ثكلى واطلب منها ألا
تُصدّع رأسك بآلام فقدانها لابنها بحجّة أن الناس تموت كل يوم منذ أن بدأ الإنسان
رحلته في الأرض.
أو اذهب إلى أب وأم؛ ابنهما مُغترب في بلاد
بعيدة، واسألهما ألا يزعجاك بأوجاع وحدتهما وعذابات هواجسهما على ابنهما، ورعبهما
أن يضيع منهما في غياهب الحياة أو الموت! أخبرهما بأن الأمر كافٍ أن تقولا
"نحن نعاني"
وعلى نفس المنوال، سنجد أنغام الموسيقى مُجرد
ضوضاء من نفخٍ وطرقٍ وخبطٍ، ويصبح الرسم مجرد بُقع ملوّنة عديمة المعنى. ويصير
الشعر ثرثرة لا تفيد. وتتحوّل العلاقات الحميمية بين الأزواج إلى علاقات حيوانية وليست
عملية احتواء وسكن واندماج روحي كما أرادها خالق الكون.
حينئذ سيكون الحُب الذي أكنّه لأمي، وعشقي
لزوجتي، وتعلّقي ببناتي، وعنايتي بأخواتي، وامتناني لخالاتي وأخوالي، واعتنائي
بأصدقائي، وحزني على رحيل أبي، كل هذه المشاعر ستكون مُعلّبة جاهزة؛ محشورة كل
منها في كلمة واحدة جامدة لكنها سهلة الاستخدام!
نحن لا نريد أصدقاءً يخبروننا أنهم آسفون من
أجلنا، بل نريد أصدقاءً يشاركوننا أحزاننا ويتحدثون معنا وينصتون لبوحنا. فمُحال
أن تختزل كلمة واحدة آلاف المشاعر التي نحملها، وإنما على العكس؛ ستتقلص مساحة
التعبير وتتآكل رحابة الاحتمالات، وتموت الكلمات بجمود معناها، وتوجعنا ببرودتها الجارحة.
ولرُبّما اختلط مغزاها لضياع مضمونها فتصير كلمة الحُب سمجة، والوقاحة أمر عاديّ
والعطف محض سخف.
وخزتني الفِكرة وأشاعت داخلي ضيقًا انقبض له
قلبي. نظرت إلى عينيّ صديقي الواثقتين فعزمت أن أجادله طويلًا كي أوضّح له مغبّة
تفكيره آملًا أن يُغيّر وِجهة نظره.
وفكّرت؛ رُبّما لو كتب الناس ما يجيش في نفوسهم
تجاه من يحبونهم، لما ساد العالم هذا القدر من القسوة التي نعيشها في هذا العصر!