لا أفلح أبدًا في الإجابة على السؤال السنوي التقليدي الذي ينهمر علينا جميعًا كالسيل في نهاية كل عام "ما هي الدروس المُستفادة من العام الذي انقضى؟".
يتكرر هذا السؤال أيضًا بعد كل تجربة نَمُرّ بها؛ لا يهم إن كانت ناجحة أو فاشلة، مُبهجة أو مؤلمة، ممتعة أو مُملّة، المُهم أن تجيب على السؤال. لا تقلق بشأن ما ستكتبه لأن في الغالب لن يقرأه سواك! بيد أنك مُجبر على الإجابة. لأنكِ إن لم تكتب فسيعتبرونك فاشلًا لا تقف على أخطائك فتتعلم منها، أما إن كتبت فلا بد أنك تظن نفسك فيلسوفًا تتعالى عليهم!
الحقيقة أنني أكره هذا السؤال لهذا أتهرّب دومًا من الإجابة عليه، ولعلّ كُرهي له يعود إلى سنوات الدراسة. فنظامنا التعليمي استخدم هذا السؤال بشكل مُفرِط في كل المواد التي كُنّا ندرسها حتى أُصبتُ بحساسية شديدة منه! ذلك لأنه كان يُقيّم مدى فهم الطُلاب بمقدار حفظهم. ولأن الله لم يمنّ عليّ بموهبة الحفظ، فقد كُنت حينها -في نظر النظام التعليمي- مُتكاسلًا.
أيام دراستي
الثانوية كانت الرواية المُقرّرة للدراسة هي رواية "أوقات صعبة" للكاتب
الإنجليزي تشارلز ديكنز. أتذكر أنني كُنت مُطالبًا بالإجابة عن أسئلة على شاكلة "من
قائل هذه العبارة؟" و "متى حدث هذا اللقاء؟" و "من تزوج
من؟" و "اذكر ما استفدت من قراءة الرواية؟".
رفضت الأسئلة
من حيث المبدأ. رأيت -حينها- أنها أسئلة مُهينة -بشكل ما- للأدب وللقراءة الأدبية.
أنا أريد نقاشًا عن الرواية، وأسئلة عن رأيي في الشخصيات أو الأحداث، لا أريد أن
أحفظ كل ما جاء بالرواية بهدف الإجابة عنه فقط. ولأن الكثير أخبرني أيضًا أن علوم
الاجتماع والمنطق وعلم النفس تعتمد على الحفظ فقط. هكذا تركت هذا ورائي وقفزت إلى التخصّص
العلمي (رياضيات وعلوم) رغم عشقي لعلم النفس والذي واصلت قراءته بعيدًا عن
الدراسة.
أذكر أن قريبًا لي -رحمه الله- كان مُعالجًا نفسيًا حاصل على الدكتوراة ويُدرّس بالجامعة. كنت
أزوره في مكتبه وأتأمّل مكتبته الضخمة. كنت أحب التحدث معه عن كُتب علم النفس رغم
حداثة عمري حينها، كان حوارًا غريبًا بين مُراهق في الرابعة عشر من عمره، وبين أستاذ
جامعي في الخامسة والستين. كان يُبدي تعجّبه من معرفتي بأمور علم النفس وأفكارها
الرئيسة. عندما نصحني بالتخصص الأدبي في الثانوية لدراسة علم النفس. أخبرته أنني لا
أريد دراسته فاضطر إلى حفظ الكُتب، هكذا سأكرهه بالنهاية، فقط أحب أن أقرأ لأفهم.
أذكر أيضًا
أثناء دراستي للشعر في مادة اللغة العربية، لم يهتم أحد برأيي -حينها- في الأبيات الشعرية
التي كُنّا ندرسها في مقررنا المدرسي، ولا بذائقتي فيها ولا بانتقادي لبعض المدارس
النقدية التي رأيت في أشعارهم المُقررة تعارضًا مع أعمال أخرى لهم خارج المنهج. أما
الصور الجمالية والبلاغية؛ فكنت كُلّما حاولت إظهار بعض تلك الصور -من وجهة نظري
بمنظور مختلف عن المنهج- أُقابَل بالسخرية. لأنه غير مسموح سوى بالمكتوب في
الكتاب.
هكذا أخفيتُ عن
زملائي وعن مُعلمي؛ نفوري من شعر مدرسة الديوان الشِعرية، وعن تحفّظي على بعض أشعار
مدرسة الإحياء، وعن انحيازي لشُعراء مدرسة أبولو وشُعراء المهجر والمدرسة القلمية.
أما في مادة التاريخ -التي كُنت أحبها بشدة- فكان
سؤال "ما هي الدروس المُستفادة؟" حاضرًا في كل صفحة تقريبًا. معاهدات أو
قوانين أو حروب. ولأنني لست بارعًا في الحفظ فقد كنت أحاول المراوغة. أجبت مُعلّمي
حين سألني ذات يوم عن الدروس المستفادة من معاهدة شهيرة؛ أجبته "لماذا؟".
حدّق فيّ ثم أجاب في نفاد صبر "حتى نتعلم من أخطائنا" أجبته بعناد مراهق
"لكن كل المعاهدات تُخرَق في النهاية. لا أحد يتعلّم". قال "تتعلّم
أنت؛ لعلّك تستطيع تغيير التاريخ في المستقبل، فقط احفظ هذا الآن لتنجح في
الاختبار"
يومها انبهرت -في سذاجة- بإمكانية استطاعتي تغيير التاريخ، وصوّر لي خيالي أن جيلنا
الحالي سيتعلّم من كل الدروس المستفادة التي ندرسها في أحداث التاريخ الموثّقة في
الكُتب، غير أنني لم أكن أعرف حينها أن التاريخ يكتبه المنتصرون، وأن آلام الشعوب
لا يُكتَب عنها في كُتب التاريخ، ولا في دروسها المُستفادة.
أما الآن؛ وعلى
الرغم من إدراكي -بعدما نضجت- لأهمية التعلّم من جميع التجارب التي نمرّ بها في
حياتنا؛ أُفكّر أحيانًا في أن هذه الدروس التي نستخلصها ونكتب عنها في كل مناسبة، هي
مجرد أمر عبثي تمامًا، لأننا في الواقع نُكرر نفس الأخطاء في كثير من الأحيان! غير
أن ذلك قد لا يكون شيئًا سيئًا بالضرورة. تكرار الخطأ قد يدفعنا إلى البحث عن وسائل
أفضل للنجاح. والإنسان الناجح هو من يستخدم أخطاءه بإيجابية ويحوّلها إلى خبرة
إدراكية مُتراكمة تضمن له التطوّر والارتقاء.
لكن في رأيي أن
النجاح ليس دومًا هو معيار الإنسان الوحيد الدال على ارتقائه. فكثير من نجاحات
البشر قامت على مبدأ "الغاية تُبرر الوسيلة". لكن المعيار الحقيقي للنجاح
المُشرّف؛ هو أن ننجح دون أن نتنازل عن مبادئنا التي تتساقط -هذه الأيام- كأوراق
الخريف، وأن نسعى في نجاحنا أن نكون أكثر إنسانية مع من حولنا.
حسنًا... إن
كان لا بد من الإجابة عن هذا السؤال؛ فإجابتي بسيطة جدًا.
الدرس
المُستفاد من حياتي؛ هو أن أحاول أن أبقى إنسانًا!