كآخر أشكال المقاومة، يبقى الصوت الذي لا يُمكنهم انتزاعه... صوت الأنين!
كالماء في الصنبور!
كيف يمكننا أن نُعَبّر عن الألم الذي يحيا داخلنا؟ يقولون إن الكتابة مُتنفّس جيّد للتعبير عن الألم. إلا أن كل من كتبوا لم تنجح كلماتهم في محو معاناتهم حتى وإن مرّت على تلك المعاناة سنوات طويلة. لأن الوجع القابع في أعماق النفس لا يزول.
يبقى الإنسان دائمًا وحيدًا مع ألمه مهما كتب، مهما عاش، مهما تغيّرت الحياة من حوله. النفس المُنكسرة لا يمكن ترميمها، نعم نستطيع بالإيمان أن نجتاز الحياة، لكن لا شيء كافٍ لرتق الجرح المُتسّع بقدر امتداد الزمن.
غير أننا نستعين بالكتابة من أجل الهرب من سجن البؤس الذي يحيط بنا، نصرخ من خلالها من أجل
أن يرانا الناس فيدركون أننا لسنا على ما يُرام. لكن نكتشف أن مع كل الكلمات التي نكتبها
إلا أن الصوت يبقى في الداخل؛ في أعماق النفس، صوت وحيد مُنفرِد... صوت مُنكسِر.
"صوتٌ مُنْفَرِد" مجموعة قصصية مؤلمة للكاتبة الإيطالية سوزانا تامارو، تتحدث عن القسوة والألم والوجع والانكسار. لكن من زاوية خاصة جدًا، حميمية جدًا. وعلى الرغم من كل القسوة في القصص الخمس، إلا أن الكاتبة لم تعتمد على الصراحة في الحكي، ولا البشاعة في التصوير، ولا الفظاظة في التشبيه، وإنما كانت القسوة منُسابة بين الحروف، تلمسها رغم أنها تمُرّ أمام عينيك مُتخفّية كحدث عابر.
إنها مثل ما قالت على لسان
أحد أبطال قصصها "إنها تنساب كالماء في الصنبور" يتدفق الألم من حولك دون
انتباه، وعندما تدرك أن القصّ ما هو إلا فخّ؛ يكون الوقت قد فات.
أعترف أنني قد وقعت في الفخ، ووجدتني أنسحب
من الواقع لأكون شاهدًا على كل الانكسارات والأسى واليأس الذي يعاني منه أبطال
القصص. بقيت معهم حبيسًاـ أحاول التفكير عبثًا في تقديم أي مساعدة. أرى ردود
أفعالهم المتفاوتة سواء من يحاول الهرب من قُبح ظُلم المُحيطين به. أو من يحاول أن يبادل الجور بالأذى بمبررات يراها منطقية. أو من يحاول الانسحاب
من الحياة لكنه يعجز عن ذلك. أو من يُنكِر كل الوحشية التي تُمارَس ضدّه فيُسمّي
الأشياء بمُسميّات مُغايرة لتساعده على إبقاء روحه ميتة من أجل أن يعيش في هذه الحياة!
اقتباسات
كانت غالبًا ما تستبدل حياتها مع كتبها.
بدا الأمر قليلًا مثلما كنا ونحن أطفال نلعب وندور حول أنفسنا كثيرًا وعيوننا مغلقة، ندور وندور بقوة أسرع ثم نتوقف، وعندما نفتح عيوننا نجد أن كل شيء حولنا لا يزال يدور ولا نعرف بعد أين نحن. هذا ما حدث لي، كنت اجاهد ولم أعرف أين كنت.
عندما نشيخ وتخور قوانا يحدث أنك لا تتوقعين شيئًا آخر، لا تتوقعين سوى الأشياء السيئة فحسب. تبدئين في التفكير في طريقة مختلفة. تمكثين هناك كل الوقت ممدودة تحت الشمس مثل حيوان كسر ظهره. حتى إذا أردتِ التحرك لا تستطيعين، تمكثين هناك وتنتظرين.
الحب يتطلب القوة. لابد أن نتحلى بالشجاعة لنحب.
هل تعرف إن الجبن يقل مع التقدم في السن؟ عندئذ يبدأ المرء بالتفكير في كل الأشياء التي كان يمكنه فعلها ولم يفعلها، ويبدأ في النظر إلى حياته الآمنة والهادئة كأنها سلسلة متصلة من الفراغات والخسائر. كان يمكن أن يكون هناك أشياء كثيرة لكن لم يحدث أي شيء.
إن الحكمة طالما كان المرء بصحة جيدة ليست سوى رصيف ميت، عليه تسير ذهابًا وإيابًا، وستحفظ المشهد عن ظهر قلب. تعرف كيف يبدأ المسير، وكيف سينتهي، وتلك المعرفة ستوهمك بأنك هادئ وقوي، ولكن...ماذا إذا غيرت الرصيف، إذا جريت في مشهد آخر؟ هنا يكمن كل شيء.
أنصِتوا إليهم
نعم شعرتُ بالاختناق. واكتسحتني رغبةً عارمة في البكاء! ليس ضعفًا وإنما هو الشعور بالعجز. العجز عن إنقاذ الأرواح المُعذّبة التي تشاركنا الحياة. سحقني خليط من مشاعر الأسى والهَمّ واللوعة حُزنًا على جميع الأرواح المكسورة التي تزخر بها أوطاننا. والتي تستمر معاناتهم بسبب جهلنا بما يمرون به، أو بسبب تجاهلنا لهم. إنهم بجانبا... جوارنا تمامًا. فقط انظروا جيدًا فيمن حولكم.
إن المُرعب في الأمر أن الانكسار سهل جدًا
لأنه غير مرئي سوى لمن انكسر، والذي غالبًا ما يتظاهر بأن كل شيء على ما يُرام.
انظروا جيدًا من حولكم. ابحثوا في عيون من حولكم. تفحّصوا عيون الأطفال. دقّقوا في ملامح النساء من حولكم؛ أخواتكم وأمهاتكم وزوجاتكم وبناتكم. استحثّوا كبار السن كي يُفضوا إليكم بما يُثقل عليهم ويدفنونه جيدًا في أعماقهم؛ رغم رغبتهم بالبوح.
أنصِتوا إليهم... أنصِتوا إلى الأصوات الضعيفة الواهنة التي تضيع وسط صخب الحياة.
تلك الأصوات المُنفَرِدة لا تطلب منّا
سوى أن نصغي إليها. فقط نصغي؛ حتى وإن لم يكن في استطاعتنا المساعدة.
التقييم النهائي
مجموعة "صوت مُنفرد" للكاتبة الإيطالية سوازانا تامارو، تحوي خمس قصص مؤلمة قاسية موجعة. لكنها جديرة بالقراءة. خاصة أنها تأتي بأشكال سرد متنوعة؛ مثل اليوميات والتحقيقات والراوي العليم والرسائل.
أرى أن أروع القصص هي "تحت الثلج"
– "طفولة" بينما تأتي أقلّهم -فنّيًا- في المستوى "صوت مُفَرِد"
وذلك بسبب عدم اتساق السرد الذي تسبب في تشويش القارئ، مع الإشارة إلى أنها رائعة
في وصف المعاناة.
الترجمة للأستاذة أماني فوزي حبشي، والحقيقة
أنها جاءت رائعة وممتازة إلا في بعض الأماكن في القصة الأخيرة التي شعرت فيها
بترجمة حرفية قد تكون لها مُبرر لم أفطن إليه.
نصيحة أخيرة... لا تقرأوا النبذة المكتوبة على الغلاف الخلفي للكتاب... إنها تحرق أحداث كل شيء في القصص!
تقييمي ثلاث نجوم من خمس.