random
أخبار ساخنة

مُراجعة كتاب – مُغالطات لغوية -الطريق الثالث إلى فصحى جديدة - عادل مصطفى


 

      


لم أقرأ من قبل كتابًا يتحدث عن اللغة العربية وقضاياها وتاريخها ومشاكلها مكتوب بهذه السلاسة. أبدع الكاتب د. عادل مصطفى في عرض وجهة نظره في بحثه المتعمّق والشائك عن اللغة وذلك بأسلوب ساحر جذّاب، ولغة فخمة جذلة لا تخلو من عذوبة.

 

   

يُبحر بنا الكاتب في بحر بحثه، منذ نشأة اللغة العربية من أرض جزيرة العرب؛ نجد والحجاز ومنطقة الفرات، ويوضّح بأسلوبه المُبسّط أصل اللغة ولهجاتها المختلفة والفصحى المُشتركة، وتاريخ جمع المادة اللغوية وظهور النُحاة بتعدّد مدارسهم، ودورهم في حفظ اللغة ثم دور المُتطرّفين منهم -النُحاة- في قتلها فيما بعد!

ويتعمّق بنا في بحثه فيثير في عقل القارئ عاصفة من التساؤلات تخص نشأة اللغة وأصلها إن كانت توقيفًا أم اصطلاحًا، وعن طبيعة اللغة وارتباطها بعلم المنطق، والتغيّر اللغوي اللازم من أجل إعادة الحيوية لها.

  

كما تطرّق إلى مشكلة ازدواجية اللغة بين العاميّة والفصحى، وأخيرًا أفرد فصلًا كاملًا – وهو أكثر الفصول قوة- عن تعريب العلم وأهمية هذا الأمر وخطورته.

لكنه لا يترك القارئ في حيرة من أمره وإنما يُبسّط الأمور ويفكك صعوبتها ويُدلّل على صواب بعض آرائه وعلى خطأ بعضها الآخر بشكل تحليلي ماتع؛ تغدوا معه الأفكار سهلة الفهم، خاصة أنه ربطها مع العلوم الإنسانية الأخرى مثل علم الاجتماع والنفس مُستشهدًا بالعديد من الكُتب والأبحاث وتقارير لمجامع اللغة العربية المختلفة ولعلماء أجلّاء من علماء اللغة. ولم يقصر استشهاداته على حقبة زمنية محددة، وإنما جمعها على امتداد مساحة زمنية تبدأ منذ نشأة اللغة وحتى عام إصدار الكتاب في 2010.

  


سيكون هذا الخيط وصْل ما بينك وبين الماضي فعُدْ إليه، عُد إلى نفسك؛ فلا شيء ينشأ من لاشيء، ولن يعتمد مستقبل أمرك إلا على ماضيك الذي كنتَ فيه، وحاضرك الذي أنت عليه.

أندريه جيد: ثيسيوس 


  

يرى الكاتب أن اللغة العربية في الأصل ليست -بمعنًى ما- لغةً واحدة، بل هي المجموع الجبري للغة العربية المشتركة ولهجات القبائل الموثقة. وأنها بعد الفتوحات بسطت ظلها على أصقاعٍ متراميةٍ من الأرض، وقضت على لغاتٍ قديمةٍ فيها (كالسريانية واليونانية والقبطية … إلخ) بعد أن نُقِل إليها، بالترجمة والتعريب، عصارة هذه اللغات وخبرات أهلها الذين أَسلموا واستَعرَبوا؛ فصارت العربية في أدبها وعلومها نتاج كل هذه الأمم، وصارت، من حيث الرصيد العلمي والحضاري، مجموعًا جبريٍّا لعدَّة لغاتٍ عريقة! 

وأنَّها صِينَتْ، برغم التوسع الجغرافي، من التفتُّت إلى لغاتٍ منفصلة؛ بفضل كتابٍ جامعٍ وعقيدةٍ موحدة وعلماء أفذاذ؛ فامتد بها الأجل أكثر من سبعة عشر قرنًا من الزمن محتفظةً بأسسها ونحوها وجذرها الثلاثي، وهي مزية لم تُتح لأي لغة من اللغات.

  

 


   

كما عرض ثمار جهود النُحاة الحلوة وعواقبها المحمودة، إلا أنه تطرق إلى أخطائهم المثيرة للجدل، والذي تسبّب التطرّف فيها إلى انفصال النحو عن اللغة، خاصة بعد أن أصبح النُحاة من الأعاجم غير العرب، مما تسبب في خصومة ثقافية بين الثقافتين العربية (المُتمثلة في الشُعراء) والأعجمية (المُتمثلة في النُحاة)، ودلّل عليه بالصراع الشهير بين الفرزدق الشاعر وبين عبدالله بن أبي إسحاق النحويّ. وساق عدة أمثلة مثل رأي العقاد في أخطاء النُحاة في تخطئة الشعر العربي، ورأي د. علي الوردي بابتعاد القواعد النحوية بتعقيداتها المُتشعّبة عن السليقة مما جعلها قواعد اصطناعية.

  

 إن لغةً لا تسقى بماء العلوم هي لغةٌ في طريقها إلى الموت.

د. خليل النعيمي  

  

يسير بنا الكاتب بسلاسة في رحلة مُتعمّقة لنفهم التغيّر اللغوي الذي حدث للعربية على مر العصور، كما يناقش بشكل مُبسط ومنطقي لماذا لا يجب علينا الاهتمام كثيرًا بهوّس جُملة "قُل ولا تقُل" ذلك لأنها لا تراعي المستوى الصوابي للغة، مُبيّنًا متى تحديدًا يُمكننا أن تقول في اللغة "هذا خطأ" مُستعرضًا الأسباب الأساسية مثل اللحن وعدم القياس والاستناد إلى الأفصح، وعدم وجود اللفظة في المُعجم ورفض المولَّد. وتناول الكثير من الأمثلة من تصحيح الصحيح أو من الأخطاء المشهورة والتي ليست أخطاءً في نظره، أرفقها بتبريرات وإثباتات حاول أن يكن فيها محايدًا.

 

وضّح أيضًا أن سدّ الفجوة بين العامية والفصحى لا يكون باحتقار العامية، بل بمهادنتها واسترفادها، ورصد فصيحها وترويجه وإدراجه في مناهج التعليم، حتى يأنس النشء بلغتهم التي يدرسونها ولا يعودوا يحسون في دراسة الفصحى أنهم يتعلمون لغةً أجنبية.

   



  

لكن الفصل الأهم في نظري كان فصل "تعريب العلم" بوصفه ضرورة قومية وعلمية ونفسية ولغوية، واعتبر التقاعس عن التعريب هو انتحارٌ جماعي بشع، وتخلٍّ عن أمانةٍ تاريخيةٍ علينا أن نحملها ولا نشفق منها. بل ورأى أن التعريب هو حل حاسم في مواجهة الإرهاب.

نقرأ في هذا الفصل كيف قام الاستعمار بتحويل التدريس في مدارس الطب من العربية إلى الإنجليزية عام 1887 في مصر، وتلتها لسوريا عام 1890، وذلك بعد ربع قرن من تدريس الطب والصيدلة والعلوم الطبيعية الأخرى بالعربية بمستوى راقٍ ومرموق، مما تسبّب في انحدار اللغة العربية في البلدان العربية، ونتج عن ذلك استعمار عقلي بسبب التبعية اللغوية، مما فاقم من عقد النقص تجاه الغرب، وزرع الشك والريبة في نفوس أبناء العربية بلغتهم. كل ذلك دون أن ينسى ذكر التحفظات والصعوبات على مسألة تعريب العلم.

 

التعريب شرط الحداثة والتغريب حياةٌ بالانتساب.

عادل مصطفى

  

التقاعس عن التعريب هو انتحارٌ جماعي بشع، وتخلٍّ عن أمانةٍ تاريخيةٍ علينا أن نحملها ولا نشفق منها.

عادل مصطفى

    


ينهي الكاتب كتابه بسؤال جوهري "هل العربية لُغة صعبة؟"

لكنه يرى أن السؤال الصحيح في هذا المقام هو: هل هي صعوبة مجانية؟ صعوبةٌ بلا مقابل؟!

  

الحق أنها إن كانت صعبةً فإنما هي الصعوبة الناشئة عن الثراء. أو كما يقول: 

 

أنت مع العربية بإزاء وحشٍ خرافي جسيم، لو أمكنك أن تروِّضه وتستأنسه لفعلتَ به الأفاعيل، هي ثروةٌ طائلة تركها لنا الأجداد سادة الأرض في تجليهم، ومن السَّفَه أن نتنازل عنها ببساطة.

عادل مطصفى


    

               

كتاب "مُغالطات لغوية – الطريق الثالث إلى فًصحى جديدة" للكاتب عادل مُصطفى. كتاب رائع يحمل أفكارًا غاية في الأهمية. صحيح أنه لم يُقدّم نموذجًا بديلًا لإصلاح العربية إلا أن مثل هذا النموذج -في رأيي – لا يُمكن أن يُقدّمه فردٌ واحد. غير أن قيمة هذا الكتاب تكمن في عُمق توضيحه للمشكلات وأصولها ومقارنة المذاهب المختلفة فيها بأسلوب سلس جذّاب.

 

أنصح بقراءته بكل تأكيد

 

الكتاب متوفر بشكل مجاني على موقع هنداوي على الرابط التالي: رابط تحميل الكتاب

    


تقييمي 5 من 5


    
  

أحمد فؤاد

29 كانون الأول - ديسمبر 2020
 


 

 


 

 

author-img
أحمد فؤاد

تعليقات

6 تعليقات
إرسال تعليق
  • سلام العالم29/12/20 2:39 م

    مراجعة رائعة جداً للكتاب، تشوقت لقراءته

    حذف التعليق
    • Ahmad Fouad photo
      Ahmad Fouad29/12/20 2:43 م

      أشكرك على المرور... 🌹

      الكتاب فعلًأ يستحق، ولم أكتب سوى القليل في حقّه. أرى أنه لا بد من قراءته.

      حذف التعليق
    • سلمى photo
      سلمى30/12/20 8:19 م

      مراجعة قيمة لكتاب قيم يستحق القراءة ،الكاتب طبيب وفيلسوف له مؤلفات تستحق القراءة لما بها من عمق،أعدك بقراءة الكتاب قريباً
      شكراً أحمد على مراجعتك الجميلةوالمميزة

      حذف التعليق
      • Ahmad Fouad photo
        Ahmad Fouad3/1/21 2:12 م

        أشكركِ سلمى على تعليقكِ الجميل.. الكتاب فعلًا رائع ويستحق القراءة. د. عادل من الكُتّاب الذي يملك لغة ساحرة بالفعل.

        حذف التعليق
      • Samaher photo
        Samaher7/1/21 12:51 م

        مراجعة شيقة جدا وجميلة.. واضح انه كتاب قيّم

        شكرا يا أحمد 🌷

        حذف التعليق
      google-playkhamsatmostaqltradent