عفوًا أيها
الدفتر الكبير. "الكذبة الثالثة" فاقت كل التوقعات.
لماذا "الكذبة الثالثة" أفضل أجزاء ثُلاثية التوأم؟
قد يعترض
الكثير من القُرّاء على أن الجزء الثالث من ثُلاثية التوأم للكاتبة أغوتا كريستوف
"الكذبة الثالثة" هو أفضل أجزاء الثُلاثية. دعونا نتفق أولًا على أن كل
جزء من أجزاء المجموعة يُمكن أن يكون عملًا مُستقلًا مُنفصلًا عن الأجزاء الأخرى.
لكن كل جُزء في نفس الوقت مُرتبط ببقية الأجزاء. هذا تحديدًا ما يمنح الثُلاثية
ميزة حيوية للغاية؛ ألا وهي أنها لا تتأثر غالبًا بتفاوت مستوى أجزائها، لأن
ببساطة يُمكن للقارئ أن يحذف الجزء الذي وجده سيئًا ويكتفي باعتبارها ثُنائية، أو
حتى يكتفي برواية "الدفتر الكبير".مُراجعة الجزء الأول "الدفتر الكبير"
إذًا لماذا رأيت "الكذبة الثالثة" أفضل أجزاء ثُلاثية التوأم على الرغم من قوة وبراعة
جُزئها الأول؟
"الكذبة
الثالثة" كعمل مُستقل
السبب الرئيس
الذي يُميّز الجزء الثالث هو التحوّل في أسلوب سرد الرواية، وإتاحة بعضًا من
الكتابة الشاعرية التأمّلية الفلسفية التي تصف المشاعر. ولهذا قامت الكاتبة
باستخدام أسلوب ضمير المُتكلم لتسمح الكاتبة أخيرًا للقارئ بالتفاعل مع شخصيات
القصة بشكل دراماتيكي مُبهر.
اختفت القسوة
الباردة التي غزت أرواحنا في الجزء الأول "الدفتر الكبير" وأشرقت علينا
شمس الشجن والحنين في الجزء الثالث "الكذبة الثالثة". ولّد ذلك ارتباطًا
وثيقًا بين القارئ وبين شخصية الرواي المُتكلم، وصرنا نرى الأمور بشكل إنساني. نعم
ما زالت هناك بعض القسوة وبعض الألم وكثير من الكآبة. لكننا أصبحنا نرى ذلك من
خلال بُعد إنساني. نلمس الندم في قلوب البشر بعد أن أنهكها الانتظار، ونشاهد آثار
الوجع على أرواحهم التي شاخت. تُبدّد مشاعر الحُب والكُره والشجن والحنين
والاشتياق في هذه الرواية بعضًا من البرودة القارسة التي أوجعتنا بها في الجزئين
السابقين.
إن أكثر ما
يُميّز رواية "الكذبة الثالثة" إنسانيتها، هذه الإنسانية التي جعلتنا
نشعر بالأمان وببعض الاطمئنان رغم الوجع الذي لم ينتهي!
براعة مُذهلة لحالة نفسية
السبب الآخر –في
رأيي- هو البراعة المذهلة في وصف الحالة النفسية للتوأم. سارت أغوتا في الرواية
ببطليها في خطين متوازيين التقيا في نهايةٍ طالما بحثا عنها طويلًا. قبل أن يُدركا
–في أسى-أن الحياة لا تفتأ تُفسد أغلب أحلام البشر.
أحقًا تُهمّك الحقيقة؟
في نهاية
الرواية؛ أنت –كقارئ- أمام ثلاثة احتمالات، أو رُبّما أكثر. لن تُخبرك أغوتا بالاحتمال
الصحيح، بل رُبّما تُزيّف احتمالاتها كلها، فلا يتبقّى لك أي شيء. مُجرد سراب. هل
هي الحقيقة أم الوهم؟ تترك لك الكاتبة الاختيار، وهي تعرف أن أي اختيار لن يحمل
معه سوى الأسى!
"الكذبة
الثالثة" – ربط الأحداث مع "الدفتر الكبير" - محتوى مخفي
الفقرة التالية بها محتوى مخفي لوجود حرق لأحداث الرواية، ولمن أراد قراته؛ يُمكنكم الضغط على زر الإظهار.
إنني
أحاول أن أكتب قصصًا حقيقية، أحاول أن أسرد قصتي، ولكنني لا أستطيع، ولا أملك
الجُرأة، لأنها تؤلمني. لذلك أُجمّل كل شيء وأصف الأمور ليس كما جرت بالفعل، بل
كما كُنت أودّ أن تجري
أغوتا كريستوف
منذ بداية رواية
"الكذبة الثالثة" ونحن نشهد معاناة الطفل كلاوس/لوكاس، والذي يجد في
الكتابة مُتنفَّسًا لكل أنواع الكبت والألم والبؤس الذي يملأه. ويتّخذ الأدب
(كتابة القصص) سلاحًا للانتقام ممن تسبّبوا في تعاسته (قبل وصوله إلى منزل الجدّة
حسب الترتيب الزمني في الثُلاثية). لكن عقله الباطن والذي لم يقو على احتمال كل
هذا الشقاء يقوم باستخدام آليات الدفاع النفسي، والتي تتداخل وتتفاقم داخله مع
تقدّمه في العُمر، حتى كاد أن يُصدّقها في النهاية.
تتداخل آليات
الدفاع النفسية في عقل كلاوس/لوكاس، ونجده واقعًا ما بين الإنكار والإقلاب
والإسقاط الوهامي، لكنه يعيش هذه الأوهام على الورق من أجل أن يحافظ -أو هكذا ظن-
على سلامة عقله خلال فترة غيابه الطويلة عن الوطن.
وعلى الرغم من
أنه كتب في دفتره الكبير (في الجزء الأول) "أن على التأليف أن يكون حقيقيًا،
أي يُطابق الواقع، لأن الكلمات التي تصف الأحاسيس تظل مُبهمة." إلا أننا نفهم
أنه كان يكتب ذلك في مذكراته لأنه عاجز عن القيام بهذا في واقعه. صحيح أنه كان
يُجرّد كلماته من المشاعر في قصصه "الدفتر الكبير" إلا أنه على الرغم من
ذلك؛ كان يُجمّل الأحداث التي تؤلمه ولا يكتبها على حقيقتها.
أعتقد
أنك تخلط ما بين الواقع والأدب. أدبك الخاص.
أغوتا كريستوف
هكذا نراه يكتب
–في الدفتر الكبير- أن أمه هي التي سلّمته إلى الجدّة مع أخيه التوأم مُضطرة، وأن
مُبرر تعامل الجدة السيء معه يعود إلى مشكلتها مع أمه. ثم نراه يُعيد الأم مرة
أخرى إلى الجدّة كي تسترده هو وأخيه قبل القصف، ثم ينتقم منها بأن يرفض العودة
إليها ويتجاهلها، بل ويقسو عليها فيقتلها في انفجار مُفاجئ مع أخته الصغيرة، لكنه
يحتفظ بهيكلها مع هيكل أخته الصغيرة (والتي هي سارة أخته الحقيقية من أبيه ولكن من
أنطونيلا)، كما نراه ينتقم من والده فيُفجّره بلغم أرضي.
نفهم أيضًا أن
الطفل المشوّه "ماتياس" في الجزء الثاني "البُرهان" ليس إلا كلاوس/لوكاس
ذاته، ذلك الطفل المُعاق المنبوذ الذي تخلّت عنه أمه وتركته لرجل غريب (إعادة لقصة
تركه صغيرًا وإيداعه لدى شخص آخر ولكن بشكل آخر) ويترسخ داخله اعتقادًا أن هذا
الرجل -والذي يُحبه جدًا- سيتركه في أي وقت، لهذا يقرر –ماتياس- أن ما عاشه من
سنوات قليلة في الحياة هي كافية جدًا له!
أما الأخ
التوأم الآخر لوكاس/كلاوس، والذي يراعي أمه التي ضاع عقلها مع صغيرها (كلاوس/لوكاس)
الذي اختفى منذ وقت طويل. يتحمّل نوبات جنونها وشعور الذنب الذي يفتك بها؛ لاعتقادها
أنها هي من قتلت صغيرها. وعلى الرغم من أنه يعيش معها ويقضي حاجاتها حتى دخوله سن
الكهولة، إلا أنها لا ترى سوى أخيه كلاوس/لوكاس الصغير. هكذا يعيش لوكاس/كلاوس في
كآبة بالغة مع أمه التي لا تراه، ويتنامى داخله كُرهًا لأخيه التوأم الغائب رغم احتياجه
العارم له!
أهناك لوكاس
بالفعل؟ أم هو كلاوس فقط؟ أكلاهما موجود؟ أم أنهما مُجرد وهم على الورق؟
صحيح أن
الكاتبة تركت الأمر غامضًا ومفتوحًا لاحتمالات كثيرة، إلا أنها تركت طرف خيط يقودنا
إلى الخروج من هذه المتاهة.
اتبع ضمير
المتكلم (في الجزء الثالث) وستجد الحقيقة في الفقرة التي يختفي فيها. تحديدًا في
الفقرة التي يقول فيها ضمير الراوي العليم: "يوقّع الولد المحضر الذي يتضمّن
ثلاث أكاذيب."
لا تكن
عاطفيًا... كُل شيء يموت.
أغوتا كريستوف
قد يغضب
القُرّاء لاكتشافهم أن الأحداث التي جاءت في كُلٍ من الجزء الأول "الدفتر الكبير"
والجزء الثاني "البُرهان" هي مجرد قصص مُختلَقة كتبها لوكاس للتنفيس عن
ألمه، أو من أجل إقناع نفسه بحقيقة تخفف من تعاسته. نعم هي صدمة بالفعل؛ لكن إن فكرنا مليًّا سنجد أن
هذا الغضب داخلنا ناجم عن الخوف!خوفنا كقُراء! أو كبشر. خوفنا من كشف زيف الواقع الذي نعيش فيه أو
بالأحرى حقيقته!
نحن نفعل - بشكل
أو بآخر وبدرجات متفاوتة – ما فعله لوكاس. تختلق
عقولنا أحداثًا في الماضي لم تحدث، ونختلق ذكرياتً لم نمر بها. تتآمر عقولنا علينا
فتسحب من الكثير من ذكرياتنا كل الألم الذي مررنا به، تُجمّل الماضي وتقنعنا بأن
أخطاءنا كانت لأسباب ودوافع غير التي ظنناها آنذك. إننا نكذب ونُصدّق الكذبة كلما
استمرينا في ترديدها.
إن كان الأدب
كذبة، فحياتنا كذبة أكبر نقوم باختراعها بكل براعة. نحن بارعون في تزييف حقيقتنا
أمام الآخرين. بل أمام أنفسنا.
تستطيع أيها
القارئ أن تغضب، لكن كُن مُمتنًا لترف الغضب الذي تشعر به، فأغوتا كريستوف وأخاها
لم يملكا هذا الترف، ولم يكن أمامها سوى الأدب كي يتمكنوا –من خلاله- من مواصلة الحياة بعد كل البشاعة
التي تعرضوا لها أثناء الحرب.
رواية
"الكذبة الثالثة" هي مِسك الختام لثُلاثية التوأم، وهي بلا شك أجمل كذبة
قرأتها في حياتي!
تقييمي للرواية
4 من 5
أحمد فؤاد
السادس من
كانون الأول ديسمبر 2020
" إنني
أحاول أن أكتب قصصًا حقيقية، أحاول أن أسرد قصتي، ولكنني لا أستطيع، ولا أملك
الجُرأة، لأنها تؤلمني. لذلك أُجمّل كل شيء وأصف الأمور ليس كما جرت بالفعل، بل
كما كُنت أودّ أن تجري"
منذ بداية رواية
"الكذبة الثالثة" ونحن نشهد معاناة الطفل كلاوس/لوكاس، والذي يجد في
الكتابة مُتنفَّسًا لكل أنواع الكبت والألم والبؤس الذي يملأه. ويتّخذ الأدب
(كتابة القصص) سلاحًا للانتقام ممن تسبّبوا في تعاسته (قبل وصوله إلى منزل الجدّة
حسب الترتيب الزمني في الثُلاثية). لكن عقله الباطن والذي لم يقو على احتمال كل
هذا الشقاء يقوم باستخدام آليات الدفاع النفسي، والتي تتداخل وتتفاقم داخله مع
تقدّمه في العُمر، حتى كاد أن يُصدّقها في النهاية.
تتداخل آليات
الدفاع النفسية في عقل كلاوس/لوكاس، ونجده واقعًا ما بين الإنكار والإقلاب
والإسقاط الوهامي، لكنه يعيش هذه الأوهام على الورق من أجل أن يحافظ -أو هكذا ظن-
على سلامة عقله خلال فترة غيابه الطويلة عن الوطن.
وعلى الرغم من
أنه كتب في دفتره الكبير (في الجزء الأول) "أن على التأليف أن يكون حقيقيًا،
أي يُطابق الواقع، لأن الكلمات التي تصف الأحاسيس تظل مُبهمة." إلا أننا نفهم
أنه كان يكتب ذلك في مذكراته لأنه عاجز عن القيام بهذا في واقعه. صحيح أنه كان
يُجرّد كلماته من المشاعر في قصصه "الدفتر الكبير" إلا أنه على الرغم من
ذلك؛ كان يُجمّل الأحداث التي تؤلمه ولا يكتبها على حقيقتها.
"أعتقد
أنك تخلط ما بين الواقع والأدب. أدبك الخاص"
هكذا نراه يكتب
–في الدفتر الكبير- أن أمه هي التي سلّمته إلى الجدّة مع أخيه التوأم مُضطرة، وأن
مُبرر تعامل الجدة السيء معه يعود إلى مشكلتها مع أمه. ثم نراه يُعيد الأم مرة
أخرى إلى الجدّة كي تسترده هو وأخيه قبل القصف، ثم ينتقم منها بأن يرفض العودة
إليها ويتجاهلها، بل ويقسو عليها فيقتلها في انفجار مُفاجئ مع أخته الصغيرة، لكنه
يحتفظ بهيكلها مع هيكل أخته الصغيرة (والتي هي سارة أخته الحقيقية من أبيه ولكن من
أنطونيلا)، كما نراه ينتقم من والده فيُفجّره بلغم أرضي.
نفهم أيضًا أن
الطفل المشوّه "ماتياس" في الجزء الثاني "البُرهان" ليس إلا كلاوس/لوكاس
ذاته، ذلك الطفل المُعاق المنبوذ الذي تخلّت عنه أمه وتركته لرجل غريب (إعادة قصة
تركه صغيرًا وإيداعه لدى شخص آخر ولكن بشكل آخر) ويترسخ داخله اعتقادًا أن هذا
الرجل -والذي يُحبه جدًا- سيتركه في أي وقت، لهذا يقرر –ماتياس- أن ما عاشه من
سنوات قليلة في الحياة هي كافية جدًا له!
أما الأخ
التوأم الآخر لوكاس/كلاوس، والذي يراعي أمه التي ضاع عقلها مع صغيرها (كلاوس/لوكاس)
الذي اختفى منذ وقت طويل. يتحمّل نوبات جنونها وشعور الذنب الذي يفتك بها؛ لاعتقادها
أنها هي من قتلت صغيرها. وعلى الرغم من أنه يعيش معها ويقضي حاجاتها حتى دخوله سن
الكهولة، إلا أنها لا ترى سوى أخيه كلاوس/لوكاس الصغير. هكذا يعيش لوكاس/كلاوس في
كآبة بالغة مع أمه التي لا تراه، ويتنامى داخله كُرهًا لأخيه التوأم الغائب رغم احتياجه
العارم له!
أهناك لوكاس
بالفعل؟ أم هو كلاوس فقط؟ أكلاهما موجود؟ أم أنهما مُجرد وهم على الورق؟
صحيح أن
الكاتبة تركت الأمر غامضًا ومفتوحًا لاحتمالات كثيرة، إلا أنها تركت طرف خيط يقودنا
إلى الخروج من هذه المتاهة.
اتبع ضمير
المتكلم (في الجزء الثالث) وستجد الحقيقة في الفقرة التي يختفي فيها. تحديدًا في
الفقرة التي يقول فيها ضمير الراوي العليم: "يوقّع الولد المحضر الذي يتضمّن
ثلاث أكاذيب."
تعقيب أخير
لا تكن
عاطفيًا... كُل شيء يموت.
قد يغضب
القُرّاء بأن الأحداث التي جاءت في كُلٍ من الجزء الأول "الدفتر الكبير"
والجزء الثاني "البُرهان" هي مجرد قصص مُختلَقة كتبها لوكاس للتنفيس عن
ألمه، أو من أجل إقناع نفسه بحقيقة تخفف من تعاسته. لكن إن فكرنا مليًّا سنجد أن
هذا الغضب ناجم عن الخوف!خوف القُراء! خوفهم من كشف زيف الواقع الذي نعيش فيه أو
بالأحرى حقيقته!
نحن نفعل -بشكل
أو بآخر وبدرجات متفاوتة – ما فعله لوكاس. تختلق
عقولنا أحداثًا في الماضي لم تحدث، ونختلق ذكرياتً لم نمر بها. تتآمر عقولنا علينا
فتسحب من الكثير من ذكرياتنا كل الألم الذي مررنا به، تُجمّل الماضي وتقنعنا بأن
أخطاءنا كانت لأسباب ودوافع غير التي ظنناها آنذك. إننا نكذب ونُصدّق الكذبة كلما
استمرينا في ترديدها.
إن كان الأدب
كذبة، فحياتنا كذبة أكبر نقوم باختراعها بكل براعة. نحن بارعون في تزييف حقيقتنا
أمام الآخرين. بل أمام أنفسنا.
تستطيع أيها
القارئ أن تغضب، لكن كُن مُمتنًا لترف الغضب الذي تشعر به، فأغوتا كريستوف وأخاها
لم يكن أمامها سوى الأدب كي يتمكنوا –من خلاله- من مواصلة الحياة بعد كل البشاعة
التي تعرضوا لها أثناء الحرب.