مرحبًا بكم في دفتر البشرية الكبير "التاريخ". ذلك التاريخ الذي تُلطّخ الحروب سواده الأعظم.
تُكتب أغلب أحداث
التاريخ بأيادٍي القتلة الملوثة بدماء الأبرياء. تلك الأيادي التي أخفت ببراعة
خسيسة الكثير من فظائع وأهوال ما قاموا به من أفعال دموية بشعة في حق أناس لم تفعل
شيئًا سوى أنهم كانوا فقط يعيشون في سلام لكن حظهم السيء جعلهم في طريق أولئك
السفاحين.
أغوتا كريستوف تكتب ببراعة مذهلة عن قتل الإنسانية في الأرواح التي تعيش وسط الحروب. تكتب أغوتا قصتها بأسلوب جامد خال من المشاعر لا بد أن تشعر معه بالرعب. تفقد المعاني البريئة براءتها، فتصبح النظافة وصمة، والحُب عار، والثقة غباء، والمشاعر حماقة. ومع متابعتنا -كقراء- لكل يوم يمر على الطفلين التوأمين في قصتهما، يعترينا الهلع ونحن نراقب تجرّدهما من براءتهما وتقطّع روابطهما الاجتماعية. ونفطن إلى أن العيش وسط مثل هذه الوحشية والقسوة لا بد أنه سيقتل الروح إلى الأبد.
لكنني اعترضت بشدة على إقحام الكاتبة مشاهد جنسية بذيئة مليئة بعلاقات شاذة من بيدوفيليا وعلاقات مع قاصرات وحتى مع حيوانات. أثار ذلك حفيظتي بشدة رغم أنني أتفهّم رغبتها في إظهار شخصياتها مضطربة نفسيًا بشكل استثنائي بسب الظروف التي يمرون بها، لكنني رأيت أن المكتوب غير منطقي، وعزمت أن أقيّم القصة – وأنا في ربعها الأول وحتى منتصفها- بنجمة واحدة. وعندما انتهيت من القراءة أعطيت نفسي مهلة للتفكير. ووجدتني أفزع وأرتعش وأنا أتذكّر كل ما قرأته عن ويلات الحروب. واسترجعت في ذُعر كل ما قرأته سابقًا عن مذابح وأهوال الحروب.
تذكرت مذبحة اليابان السوداء الشهيرة في الصين "اغتصاب نانجينغ". أو تجارب النازيين الألمان على البشر أو تجارب اليابانيين الكيماوية البشعة على القرى -الوحدة 731- أو مذبحة سربرنيتسا في البوسنة والهرسك (إبادة جماعية لأطفال ونساء وشيوخ مسلمين) على يد الصرب أو ما حدث في ميانمار أو الحرب الأهلية الروسية والكثير من الفظائع الأخرى. كل هذه الفظائع قام بها الإنسان المُعاصر المُتحضّر.
هكذا أدركت الكاتبة
أغوتا لم تُبالغ في روايتها، وأن الحرب من الممكن أن تفعل أكثر من ذلك. يمكنها أن
تقتل المنطق كما تقتل الروح. وأن تنزع الإنسانية التي داخلنا وتجعلنا مسوخًا
كاسرة. يتوحّش الناس مع ازدياد الجوع والفقر والذعر والقتل، حينها لا يُمكن التنبؤ
بأفعالهم، لأن الإنسان المذعور فاقد اليقين يكسر كل منطق، ولنا في مجاعة هولودومور
الأوكرانية دليلًا على ذلك عندما أكل الناس أولادهم.
قد يصمد
الإنسان أمام كل هذه الشدائد الفظيعة إن كان في قلبه إيمان. وقد يكون هذا ما قَصَدتهْ
أغوتا كريستوف في قصتها "الدفتر الكبير". فنستطيع أن نرى أن التفسّخ
والعُهر والجنون وتحجّر القلوب قد أصاب أهل القرية بعد أن فقدوا إيمانهم في الله.
بل إيمانهم في كل شيء من حولهم.
من أسوأ نتائج الحرب
العالمية الثانية -أكثر الحروب دموية في تاريخ البشرية - 50-85 مليون قتيل- أنها
أطلقت أعنف وأقوى وأشرس موجة إلحادية في تاريخ البشرية. كانت القسوة الوحشية التي
سادت العالم وبخاصة في أوروبا الشرقية من العنف أنها أحدث دويّاً هائلًا في عقيدة
البشر تجاه الدين، بعد أن صار سفك الدماء يجري بلا مبرر، واغتصاب النساء قبل حرقهم
هو مجرد عرض طبيعي لاجتياح أي قرية. قُرى بأكملها حُرِقت بمن فيها -عجائز أو نساء
أو أطفال- اما الرجال فكانوا يُؤسرون ويعملون في البرد الشديد وبدون تغذية مناسبة فيستمرون
في العمل الشاق حتى الموت حرفيًا. وأصبحت المقابر الجماعية أكثر من أن تُعدّ وتُحصى.
كان السؤال الأعظم
الذي دار في رؤوس الجميع القوي والضعيف منهم؛ "أين الله؟". سؤال لم يستطع
حتى رجال الدين حينها الرد عليه وسط أصعب محنة عاناها البشر. رجال الدين كانوا
يعرفون أن الإيمان يسهل على الإنسان عندما يكون آمنًا في بيته، لكن عندما يحلّ الجنون
ويصبح القتل أمرًا اعتياديًا، وعندما تُغتصب النساء والأطفال أمام ذويهم ثم
يُحرقون أمام أعينهم، وعندما تُدمّر بيوت الله ويُقتل رجال الدين، حينها يكون
الإيمان صعبًا للغاية.
زلزلة عظيمة
ألمّت بأوروبا حتى فقد السواد الأعظم منهم إيمانهم بما فيها رجال الدين أنفسهم.
وهو يعيشون يوميًا فظائعًا وأهوالًا وبشاعةً رهيبة.
وعندما يفقد
الإنسان إيمانه يتخلّى عن إنسانيته ويتحوّل إلى حيوان يجاهد لشحذ كل الشر داخله
ليتسلّح به أمام هذه الوحشية العنيفة التي تحيط به. لتصبح شريعة الغاب هي الغالبة
وتكون الفوضى حاضرة في أبهى صورها!
ما هي الحكمة من
كل هذا؟ لا نعرف. هو أمر غيبيّ تمامًا. أمر غير مفهوم، حتى أنه أثار دهشة الملائكة
من قبلنا.
قال الله تعالى
في كتابه الكريم:
"وَإِذْ
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)"
وسط مآسي الحرب
وفظائعها مِن قتل ونهب وتدمير وتشريد. نعم... حينها من الممكن أن يبيع الناس
أولادهم (وهناك من يبيعونهم حتى اليوم بالمناسبة بدون حروب). نعم... من الممكن أن نستوعب
كيف يقتل الأولاد آبائهم بكل برود. نعم... من الممكن أن نفهم لماذا تحاول إنسانة
مقبلة على الموت المحتم -مقتولة أو جائعة- أن تقضي رغبتها بأي طريقة قبل الموت -ولو
كانت شاذة- بعد أن صارت وحيدة في بلد لم يعد فيه رجال.
نعم في الحرب يُمكن أن يسقط المنطق أو بالأحرى يمكن أن يسقط الإنسان.
رواية الدفتر الكبير رواية مُزعجة صادمة مروّعة. تخلق داخلنا فزعًا من الحروب ومآلها. تحذرنا من ألا نفقد إنسانيتنا. تصرخ في وجوهنا بأن نظل مُتكاتفين لأن هذا فقط هو ملاذنا الأخير من الضياع.
الترجمة كانت
في أبهى ما يكون. وهي للمُترجم المغربي محمد آيت حنّا.
تقييمي النهائي
للرواية 3 من 5
أحمد فؤاد
28 تشرين الثاني نوفمبر 2020