ما هو سِر شَغفنا بالاقتباسات؟
"هل
شغفُ القراء باقتباسات الروايات هو ما جعلها أداةُ دعائية مؤثّرة؟ أم أن المختصّين
في تسويق الكتب هم من ساهموا في نشر هذه الثقافة بين القُرّاء أملًا في سرعة إنجاز
مهامهم في بيع الكُتب، بل وتوظيف القُرّاء كمساعدين متطوّعين لن يطلبوا أجرًا
مقابل خدماتهم؟"
هكذا تساءل الروائي المصري أحمد القرملاوي في
مقاله الأخير في جريدة العرب اللندنية بعنوان "الاقتباسات.. خاتم ذهبي في جوف
سمكة مقلية" رابط المقال. وهو سؤال جدير بالتأمل نظرًا لانتشار ظاهرة نشر
اقتباسات الكُتب وخاصة الروايات الأدبية منها في الفترة الأخيرة. والتي ساهمت
سهولة النشر على منصات التواصل الاجتماعي في تزايدها.
لماذا نقتبس؟
من الواضح أن اهتمام القُرّاء باختيار الاقتباسات الأدبية الخلّابة قد أثار انتباه الكُتّاب والمؤلفين بأهمية تلك الاقتباسات في تداول اسمائهم أو أسماء أعمالهم الأدبية، وهو ما شجّع دور النشر على استغلال الأمر في التسويق لأعمالها المنشورة عن طريق التشجيع على الاقتباسات مُستغِلَّة سهولة انتقالها بين القُرّاء عن طريق منصات التواصل الاجتماعي. دفع ذلك الكُتّاب والمؤلفين إلى محاولة تطعيم نصوصهم بأكبر قدر من القطع النصيّة القصيرة التي يسهل اقتباسها. لكن المشكلة أن هذا الاهتمام قد تحوّل لدى البعض منهم إلى هوس بصناعة الجمُل التي قد تغري القارئ باصطيادها، وذلك على حساب بُنية النص وخلق الحبكة وتشكيل الشخصيات. فيضيع المضمون ويُفقَد المعنى من أجل أساليب جمالية مُصطنعة مليئة بمُحسنات ينفر منها القارئ.
لكن بعيدًا عن محاولات الدفاع المستميتة عن وجهات
النظر المُختلفة في هذه القضية، يبقى السؤال الأهم مَنسيًّا: "ما هو سر شغف
القُرّاء بالاقتباسات؟"
لعلّها براعة الكاتب!
لا شك أن للاقتباسات سحرٌ أخّاذٌ له وقعٌ في
النفس ومكانٌ في الذاكرة. ذلك لأن فعل الاقتباس -والذي هو اختيار فقرة ما محددة من
النص والاستشهاد بها- هو فعل يُعبّر عن إعجاب القارئ وتأثّره بما قرأ، أو عن
تماهيه مع النص وانجذابه لحروفٍ لمست منطقة ما في روحه فأنارت له ما كان مُظلمًا.
إن هذا الإعجاب يُماثل حيرة الافتتان بمعزوفة موسيقية تدغدغ المشاعر حتى وإن كانت
تُسمَع للمرة الأولى، ويشبه شهقة الانبهار أمام روعة الطبيعة الخلّابة التي تُشهِدنا
على عظمة إبداع الخالق.
إن كان الإنسان يستطيع أن يلتقط صورة ليحتفظ
بروعة مشهد أذهله، وإن كان باستطاعته تسجيل مقطع موسيقي أبهره فيُبقيه معه ليعيد
الاستماع إليه عشرات المرات. فلِمَ لا يُمكنه اقتباس النصوص التي فتنته وسحرته
وألهمته.
إن الاقتباس في الواقع هو تذكار يحمله القارئ
من فرط إعجابه به. وهو ردّ فعلٍ فطريّ طبيعيّ غير مُتعمّد يرسم تواصلًا بين طرفين
لا يجمعهما المكان ولا الزمان بل تجمعهما صفحات كتاب.
لعلّه التأويل!
مولع الإنسان بالاختزال. يبحث عن المعنى الساكن في باطن الكلمات، ويستكشف المغزى الكامن في جوهر الأحاديث. لديه هاجس يلازمه بضرورة التأويل مهما كان ما يسمعه أو يقرأه واضحًا. يسكنه الشكّ في المضمون ويرتاب في أن يفوته ما قد خُفي عنه.
في الماضي؛ شغف الإنسان العربي بالشعر كصيغة قصيرة مُختزَلة، تحمل المعنى وتخفيه، وتُظهِر المدلول وتواريه، وتنقل المغزى وتحافظ عليه. استغنى -في فترة من الزمن- بالشعر عن الكتابة واستخدمه لنقل تراثه نظرًا لسهولة حفظه وبقاء أثره في الذاكرة. فضمّن في أبيات الشعر كُل مكونات بيئته ومكنونات نفسه. ورغم فصاحة الإنسان العربي ونجاحه المُبهر في استخدام الشعر، إلا أن محاولاته العديدة في فك طلاسم سحر بيانه بمُسميّات العَروض والموازين والسجع، لم تنجح بشكل مُطلق في تفسير إغواء الكلمات له.
ثُم ظهرت القصّة القصيرة ثم القصّة القصيرة
جدًا ثم الومضة، ظهر كُلا منها ليرسم نهجًا بعيدًا عن التكلّف في استخدام المُحسّنات
البلاغية والموسيقية في النصّ. جاءت كأشكال جديدة للاختزال، واتخذت من فن السرد
النثري سبيلًا مُبتكرًا للوصول إلى عرش الأدب بُخطى لا تحيد عن هدفها. أغرت الجميع
بقدراتها الهائلة على التكثيف، وبتمكّنها المُدهش في استحداث احتمالات تأويل
لامُتناهية لنصوصها. افتُتِن بها الكُتّاب كوسيلة بارعة للمراوغة بمدلولات نصوصهم
المخفية بعناية فيها. بينما أُعجِب بها القُرّاء باعتبارها أُحجية تستفزهم وتدفعهم
للبحث عن المعنى بين الكلمات، أو إلى إدراك عدة معانٍ تُناسب جميعها النص حسب
طريقة قراءتها!
لعلّه الولع بالمنمنمات!
جُبِلَ الإنسان على حُب الأشياء الصغيرة. إن وقع في العِشق؛ صَغَّر اسم
محبوبه هيامًا. وإن أراد تودّدًا اخترع لكل اسم يُحبّه اسم تدليل. إن التصغير له أثر
عجيب على النفس، يُدغدغ المشاعر ويُقرّب المسافات ويكسر الحواجز.
رُبّما يرجع ذلك لحُبه الكامن داخله تجاه
الأطفال لحكمة إلهية تُساعده في تنشئة الأبناء واحتمال مشقة تربيتهم. أو قد تكون
رغبة التصغير المُتأصّلة في الإنسان تعكس رغبته الجامحة في ضمّ أو امتلاك كُل ما
يميل إليه، فتتجسّد كتوق محموم للاندماج فيه.
لكن هذه الرغبة المحمومة قد امتدت لشتى
المجالات، فنجد أن المنحوتات والمُجسّمات المُصغّرة (الماكيت Maquette) على سبيل المثال هي الأغلى ثمنًا وقيمة بل
الأكثر تطلّبًا للإتقان من أجل صنعها.
على ضوء هذه الفكرة يمكننا أن نستنبط أن
القارئ يرغب في تصغير شيء ما في العمل الأدبي وخاصة الرواية الأدبية من أجل
الاحتفاظ به. اقتباس يغنيه عن تذكر أحداث الرواية بأكملها... جزء يستبقيه معه من
الكتاب كتذكار بسيط يُثير فيه زوبعة من المشاعر والأحاسيس بمُجرد العودة إليه في
أي وقت لقراءته. إنه مفتاح يُمكنه أن يُحيي فيه بقايا الرواية الأدبية الكامنة
داخله وسط تفاصيل لا متناهية في هذه الحياة.
يقولون إن أفضل الروايات هي التي لا يُمكن تلخيصها، وهذا الأمر لا يتعارض مع الفكرة السابقة. إن كان أثر الرواية يبقى دائمًا في نفس القارئ، فإن أحداثها الكاملة لن تستطيع مقاومة الزمن الذي سيجبره أن ينساها ولو بشكل مؤقت. فالقارئ سينسى تفاصيل الرواية شاء الكاتب أو أبى، هذا لأن العقل يؤرشف كُل ما لا تستخدمه الذاكرة في أيامه الاعتيادية. لكن الاقتباسات -وهي التي يعتبرها القارئ مُجسّمًا مُصغّرًا للكتاب/الرواية- هي الشيء الذي قد يضمن ارتباطًا متواترًا بين القارئ والنص، كُلّما اطلع عليه.
إن الاقتباسات ليست مُجرد تلخيصًا سطحيًا
للكُتب، وإنما هي باب خلفي للعودة إليها أو على الأقل وسيلة لاسترجاع ذكراها
المُحبب في نفس قارئها.
لعلّها الرغبة في التعبير عن الذات!
يقول الكاتب علي الطنطاوي "فكذلك الأدباء كلهم؛ لا يتكلمون إلا عن أنفسهم، ولكنهم إذ يصفون أحلامها وآلامها يصفون أحلام الناس كلهم وآلامهم، فهم تراجمة العواطف، وألسنة القلوب، وصدى الخواطر، حتى ليقول القارئ إذ تمرُّ به آثارهم: ما هذا؟ إن في هذا التعبير عما أحسّ به، إنه وصفٌ لي أنا وحدي . . . وما هو له وحده، إنه وصف لكل نفس بشرية."
إن القراءة عملية بحث صادقة، ومحاولة أمينة
للفهم. بحث عن المعرفة، أو عن المُتعة. ومحاولة لفهم الآخرين، أو حتى فهم أنفسنا.
إنها عملية استكشاف عن مجهول أو شبه مجهول، نحاول فيها سبر أغواره وفهم أسراره
وكشف معانيه. إن القارئ يبحث دومًا في الكُتب -بشكل أو بآخر-عمّا ينقصه؛ من أجل
اكتمال لا يمكن أن يتمّ!
القراءة رحلة سفر طويلة يُقابل خلالها قارئها الكثير من الأفكار، ويُعايش فيها العديد من الشخصيات التي قد تشابه نظيرتها في حياته، فيتعرّف عليهم من وجهات نظر لم يتبناها من قبل، مما يدفعه إلى التعاطف معهم أو إلى الحذر منهم. لكن أعظم ما قد يُدهش القارئ هي أن يجد نفسه وسط حروف النص. قد يُباغته أن يجد في المكتوب ما يصف نفسه ويُعبّر عن ذاته، وهو الذي عاش عُمره كله دون أن يعرف سبيلًا لذلك.
أو قد يرتبك عندما يعثر بين السطور على صورة لروحه العارية التي يخفيها بعناية عن أعين الناس من حوله. وفي كلتا الحالتين يشعر بالنشوة. تعتريه لذةٌ خفيّة عندما يعي بأن هناك من يُماثله أفكاره. وبأن هناك من يشبهه في هذه الحياة حتى وإن كان على الورق!
في الواقع؛ إن كل قارئ يقتبس نصًا، هو في
الحقيقة يحتفظ بُجزءٍ من نفسه عثر عليه في ذلك الاقتباس.
أو لَعلّها لَذّة الوصول!
ينقش الكاتب بمهارته النص. يكتبه بإحساسٍ ويلوّنه بإتقانٍ ويُنمّقه برشاقة. ومثل تلك النصوص يلمع بريقها وسط الكتب، ويتلألأ وميضها في سماء الخلود، ويسطع ألقها بين ألف نصّ.
إن الاقتباسات هي البلّورة السحرية التي يرى فيها القارئ المعنى. هي التعويذة التي يُمكن إسقاطها على كل شيء فتمنحه مغزى مُختلف في كُل مرة. هي الدليل على أن الأدب يؤثّر في حياتنا ونفوسنا ويجعلنا أكثر قدرة على مواجهة قُبح هذه الحياة.
أحمد فؤاد
18 تشرين الأول أكتوبر 2020