random
أخبار ساخنة

مُراجعة رواية "لو أن مُسافرًا في ليلة شتاء" - إيتالو كالفينو

     



       
       

النقصان جوهر العالم!

    


هل تعتقد أن كل حكاية يحب أن تكون لها بداية ونهاية؟ إن المعنى النهائي الذي تحيل عليه كل الحكايات له وجهان: استمرارية الحياة وحتميّة الموت.

  

 

بهذه العبارة يختم الكاتب الإيطالي "إتالو كالفينو" الفصل قبل الأخير من روايته الشهيرة "لو أن مُسافرًا في ليلة شتاء" وإذ إنك أيها القارئ ما زلت على قيد الحياة إذن فأنت مُمتن بالتأكيد للنهاية التي اختارها كالفينو لك!

  

وبما أنك أيها القارئ وأنتِ أيتها القارئة كُنتما شُركاء مثلي في بطولة رواية "لو أن مُسافرًا في ليلة شتاء" فدعوني أتحدث عن هذه التجربة القرائية غير المسبوقة، والتي بكل تأكيد تختلف عن تجربة كًل منكما في باطنها رغم اتفاقها في ظاهرها!

 

أما أنت أيها القارئ المُحتمل لهذه الرواية العجيبة فأنصحك أن تقرأ هذه المناقشة، كي تستعد لهذه التجربة إن أقدمت على خوضها.

   

منذ السطر الأول من الرواية والكاتب يُباغتك أيها القارئ بأنه واعٍ لأنماطك القرائية وخبراتك الأدبية المُحتملة، فتصبح مكشوفًا أمامه. ككتاب مفتوح يرى شغفك بروايته التي تمسك بها، ويخبرك بطقوس القراءة التي كنت تظن أنها خفيّة عن أعين الناس. يلمح توتّرك الذي يبدأ في التكثّف داخلك، ويُبصر انعقاد حاجبيك فيُسرع لعقد صفقة معك. أن تكون بطل الرواية، كأنه يدعوك إلى عالم ثلاثي الأبعاد في أحد ألعاب الفيديو.


لابد أنك ستُفكّر مُتوجّسًا في المُقابل المطلوب مقابل هذا العرض المغري، لكنك ستقبل العرض على كل حال وإلا لما كنت أقدمت على قراءة هذه الرواية بالأساس. يُصارحك بأنه نوع من التحدّي واختبار قدرتك على الصبر والاستمرار رغم كل النقصان الذي تمتلئ به الرواية! لكنه يُطمئنك في نبرة لا تشعر معها بالراحة قائلًا: " لا تقلق... المجازفة بالخيبة ليست بالشيء الخطير"

 

 ليس الأمر أنك تنتظر شيئًا بالتحديد من هذا الكتاب. أنت شخص من حيث المبدأ لم يعد ينتظر شيئًا من أي شيء. هناك الكثيرون أكبر منك سنًا أو أصغر يعيشون بانتظار تجارب استثنائية من الرحلات والأحداث ومما يُخبّئة الغد، لكن ليس أنت. أنت تعرف أن أفضل ما ينتظر المرء هو تجنّب الأسوأ. خصوصًا في موضوع الكتب. أنت تتصوّر أنه من حقك أن تمنح نفسك هذه المُتعة الشبابية وهي أن تنتظر شيئًا ما في مجال محصور جدًا مثل مجال الكتب، حيث يمكن أن يخيب ظنّك أو أن يواتيك الحظ، غير أن المجازفة بالخيبة ليست بالشيء الخطير.

 

    

هكذا تقع في الفخ. ومع أولى سطور القصة الأولى ستدرك أنك تحتاج إلى التركيز الشديد، فالغموض الذي يكتنف أولى الفقرات يسلتزم انتباها ضروريًا لرؤية كل التفاصيل خشية أن تفلت إحداها فتتيه في نصّ قد تعصف به الفوضى في أي وقت.

   



تبدأ الرواية في محطة أرتال، قاطرة تنفخ بخار، مكابسها تُغطّي افتتاحية الفصل، سحابة دخان تحجب جزءًا من الفقرة الأولى. صفحات الكتاب مُهتمة مثل نوافذ قطار قديم، وعلى الجُمَل تحطّ سحابة الدخان. 

     


نعم... قد تتوقّف لحظات عن القراءة قائلًا "مهلًا؛ ما هذا العبث؟" لكنك تُكمل القراءة مدفوعًا بغرابة التجربة وجمال التفاصيل المرصوصة بعناية. ومع تزايد الغموض وتمكّن التشويق منك تعرف أنك لن تستطيع الإفلات من النصّ بسهولة.

 

مع انتهاء القصة الأولى تفهم أنك قد أصبحت مُشاركًا حقيقيًا في الأحداث، حقيقيًا وإن كنت في الحقيقة لا تختار لنفسك شيئًا، لكن هل تظن حقًا أنه من الغريب أن يمتزج الحقيقي بالمجازي هُنا!


قد يزعجك هذا الأمر، خاصة بعد أن تدرك أن الكاتب قد استولى على مساحتك –كقارئ- التي تختبئ فيها دومًا من إسقاطات النصوص. فالقارئ دومًا يشعر بمساحة آمنة عندما يقرأ النص كعين مُبصرة للأحداث دون التدخّل فيها، تمامًا مثلما يُشاهد فيلمًا على شاشة التليفزيون. لكنك الآن بِتّ متورطًا، ولم يعد في استطاعتك التملّص من دور البطولة. لقد خدعك الكاتب وبدلًا من أن يجعلك تُصاحبه في رحلته لتكون شاهدًا عليها؛ أغلق عليك حدود شخصية البطل وحبسك داخلها. أنت الآن أسير يا صديقي وإن لم تنتبه لذلك.

 

لكن انتظر، الأمر ليس بالأمر السيئ. هناك رفقة بانتظارك -وبانتظاركِ؛ إن كُنتِ أنثى- وصدّقني ستحُب "لودميلّا"؛ أي قارئ سيُحب "لودميلّا" بطبيعة الحال. أما أنتِ أيتها القارئة فثقي أنكِ ستجدين الكثير منكِ في شخصية "لودميلّا" وستُحبّين رحلتكِ وسيفتنكِ تنافس سلاس فلانّري وإغواءات إيرميس مارنا، ومُلاحقة القارئ البطل.

 

سيستغل الكاتب ثراء خبراتك القرائية ليورّطك أكثر في اللعبة، وكُلّما تورطت أكثر ؛كُلّما سألت نفسك: "ماذا أطارد؟ نهايات القصص؟ لكن دعني أسألك: هل أنت على علم بجميع نهايات قصص من حولك في حياتك الحقيقية؟ كم مرة صادفتك قصصًا لم تعرف لها نهاية، واضطررت لتجاهلها ثم استمرت حياتك بعدها؟ هل لنا أن نقول أن الإطلاع الكامل وهم؟ إن الحياة لا تعطينا دومًا نهايات لجميع الأحداث التي تتقاطع مع حياتنا.

  

إذن لماذا تشعر بالغضب تجاه كالفينو الآن؟

حسنًا... قد تكون القصص المبتورة قد أثارت سخطك، لكن الكاتب منحك في نهاية الكتاب مكافأة على صبرك كقارئ بطل/كقارئة بطلة على رحلتك المثيرة. لقد وضع النهاية الوحيدة - في الفصل الأخير- لقصتك أنت دونًا عن بقيّة القصص. وأظن أنك –بعد أن عرفت النهاية- راضٍ عنها جدًا!

    

 

رواية مُكتملة بنقصانها!

     




        

رغم أن الرواية يصنّفها البعض كرواية حداثية مُفكّكة، إلا أن هذا التفكك كان ظاهريًا فقط، لأنك إن أمعنت النظر جيّدًا سترى أنه على الرغم من الفوضى والتباين الذي يملأ النص، إلا أن هناك نسقًا مُتكاملًا يضمّ النص بعضه ببعض داخليًا مُتماسكًا بعُقدة وحبكة وشخصيات ونهاية.

 

عُقدة الرواية الأساسية هي عدم اكتمال الكُتب لأسباب مُختلفة، والحبكة كانت في تصاعد الأحداث من خلال البحث عن هذه الأسباب من خلال رحلة بها لمحة من الفانتازيا ولمحة من الدستوبيا ولمحات من مشاعر الحب بدرجات مُختلفة، حتى ظهرت نقطة التنوير المُتمثّلة في اكتشاف سبب عدم اكتمال القصص المذكورة في الروايةـ لتأتي النهاية في الفصل الأخير لتسدل الستار على مسرحية ممتعة متكاملة في رأيي.

 

إن المتعة في هذه الرواية هي مُتعة المُشاركة والاندماج داخل أحداث وجدت نفسك متورط فيها. تجربة غنيّة ثريّة، تختبر فيها جميع أنواع الرويات كافة (العاطفية، البوليسية، الغامضة، الفانتازيا، الخيال العلمي، اللاتينية، الاجتماعية، السياسية، الجاسوسية، مع لمحات من أدب المُذكِّرات وبعض الإيروتيكية وقليل من الديستوبيا.)

 

ولا تتوقف المُتعة عند حد المُشاركة في الأحداث فحسب، بل تمتد لتشمل مُتعة السرد، والتخيّل، والتشويق، والتحدّي، وحتى مُتعة الإسقاطات التي امتلأت بها الرواية. حتى الملل والإسهاب أضافه الكاتب مُتعمّدًا في جزء من الرواية من أجل إدراج جميع التنويعات الأدبية المُختلفة الأساليب الكتابية المُستخدمة في صناعة النص.

 

من الطبيعي أن يشعر الكثير من القُرّاء أثناء قراتهم للرواية بالغرابة، فهم لم يقرأوا عملًا أدبيًا على هذه الشاكلة من قبل. قد يدفعهم ذلك إلى النفور منها، أو إلى شعورهم بعبثيتها دون إدراك منهم لغايتها الفلسفية المقصودة.


ما هي الغاية إذن؟


ترك لنا كالفينو رأيه ونظرته لأدب الرواية في آخر مُحاضراته. اقرأ معي آخر عبارة خطّها كالفينو بقلمه قبل رحيله عن الحياة:

        

"ها أنا أصل إلى نهاية دفاعي عن الرواية كشبكة واسعة. قد يعترض مُعترِض بالقول أنه كلما مال العمل نحو تعدّية الاحتمالات أكثر؛ كُلّما انفصل عن النواة الواحدة التي هي ذات الكاتب، وانفصل عن نزاهته الذاتية واكتشافه لحقيقته الخاصة به. ولكن مَن نحن؟ مَن هو كل واحد مِنّا إن لم نكن مُركّبًا من تجارب ومعلومات وكتب قرأناها وأشياء مُتخيَّلة؟ كل حياة هي موسوعة، مكتبة، مخزن أشياء، سلسلة من الأساليب، ويُمكن أن يُستبدل كل شيء باستمرار. لكن الجواب الأقرب إلى قلبي رُبّما كان شيئًا آخر. فكّروا بما يُمكن أن يكون عليه الأمر في حالة امتلاك عمل روائي مُتصوّر من خارج الذات، عمل يسمح لنا بالإفلات من منظور الذات الفردية."

 

     

اقتباسات

       

     

من الأفضل عدم معرفة المؤلفين شخصيًا، لأن الشخص الواقعي لا يتطابق أبدًا مع الصورة التي نرسمها له عند قراءة كُتبه. 

        

القراءة هي مُلاقاة شيء وشيك الوجود، ولا أحد يعرف بعدُ ماذا سيكون! 

         



هل أنا الذي أتغيّر باستمرار وأرى أشياء جديدة لم أتفطّن إليها من قبل؟ أم أن القراءة بينة لا يمكن أن تتكرر مرتين؟ في كل مرة أسعى أن أعيش مرة أخرى نفس الأحاسيس التي شعرت بها في قراءة سابقة، أجدني أعيش انطباعات مُختلفة. 

          

تعني القراءة أن تتجرّد من كلّ مقصد آخر، ومن كلّ فكرة مُسبقة، لتكون مُستعدّا لالتقاط صوت يصبح مسموعًا عندما لا تنتظره، صوت يأتي لا يعرف أحد من أين، من مكان ما يتجاوز الكتاب، يتجاوز المؤلف، يتجاوز تقاليد الكتابة.  

    


القراءة هي ثمة شيء غير موجود هناك، شيء مصنوع من كتابة، جسم مادي صلب، لا يمكنك تغييره، ومن خلال ذلك الشيء نواجه شيئًا آخر غير حاضر، شيء ما ينتمي إلى العالم اللامادي، اللامرئي، لأنه لا يمكن بلوغه إلا بالفكر، أو تصوّره.


   





إن قابلية القارئ لجملة الأحاسيس التي تريد الرواية تبليغها محدودة جدًا. أولًا لأن قراءته المُتسرعّة في الغالب واللا مُركّزة لا تلتقطُ أو تهمل عددًا من الإشارات والمقاصد الواردة فعلًا في النصّ، وثانيًا لأن هناك دائمًا شيئًا ما جوهريًا يبقى خارج الجملة المكتوبة، بل وأكثر الأشياء التي لا تقولها الرواية هي بالضرورة أكثر من تلك التي تقولها، وصدى المكتوب وحده هو الذي يمكنه الإيهام بقراءة ما هو غير مكتوب.



    





الاستماع إلى شخص يقرأ بصوت مرتفع شيء يختلف تمامًا عن القراءة بصمت، عندما تقرأ أنتَ، بإمكانك أن تتوقّف أو أن تُحلّق ببصرك سريعًا على بعض الجُمَل: أنت الذي تُقرر زمن القراءة. عندما تقرأ، يصبح النص موجودًا أمامك.أنت مجبر على مواجهته. أما عندما تستمع إلى النص من شخص، فيصير النصّ موجودًا وغير موجود، شيئًا لا يمكنك لمسه!



     




هو يواصل المجيء الي هذا المقهى كل مساء ليراها، لينكأ الجرح القديم من جديد، وهي تأتي الي هذا المقهى كل مساء، ربما عمّدا لتوجعه، أو لعلها تأمل في أن تصبح عادة الوجع عنده عادة شأن أي عادة أخري، أن تتخذ طعم العدّم الذي غطي فمها وحياتها لسنوات.



   





بمقدورنا أن نمنع القراءة: لكن في المرسوم الذي يحظر القراءة سيبقى شيءٌ ما مقروءاً، من الحقيقة التي لا نريد لها أبداً أن تُقرأ.



    




وبيتكِ، باعتباره المكان الذي تقرئين فيه، يمكنه أن يدلّنا على المكانة التي تحظى بها الكتب في حياتك، إن كانت دفاعًا تستعملينه لإبقاء العالم الخارجي بعيدًا عنكِ، أو هي حلم تغرقين فيه مثلما يغرق المرء في مخدّر، أو هي جسور تمدّينها نحو الخارج، نحو عالم يُهمّك إلى حد أنكِ تريدين مضاعفة أبعاده وتوسيعها عبر الكتب.



    





أنا أنتظر من قُرّائي أن يقرؤوا في كتبي شيئاً ما لم أكن أعرفه



   




غدًا أيها القارئ وأيتها القارئة، إذا بقيتما معًا، إذا رقدتما في الفراش نفسه مثل زوجين مُستقريّن، سيضيئ كلّ منكما المصباح المجار له ويغرق في قراءة كتابه؛ قراءتان متوازيتان تصاحبان اقتراب النوم؛ أحدكما سيُطفئ النور أولًا إما أنتَ أو أنتِ؛ بعد عودتكما من عالمين منفصلين، ستلتقيان من جديد في لحظة خاطفة يلفكما الظلام حيث تنمحي كل الافتراقات، قبل أن تجذبكما من جديد أحلام مختلفة كلّ إلى ناحية. ولكن لا تسخرا من هذا الأفق الواعد بالانسجام الزوجي: أي صورة أسعد لزوجين بالإمكان مقابلتهما بها؟



   





في القراءة، خُذها عني، ينبغي أن تبقى غافلاً، وفي أقصى درجات التأهب معاً، كما لو أنني شارد الذهن لكني مرهف السمع.


        
      
       

      

التقييم النهائي


     
 

   

 إن رواية "لو أن مُسافرًا في ليلة شتاء" للكاتب الإيطالي "إيتالو كالفينو" ليست رواية لكل قارئ، وهذا ليس استعلاءً، ولكنه إشارة وتنبيه بأن الرواية فريدة من نوعها في تقديم تجربة استثنائية قلّما يجدها القارئ -خاصة القارئ العربي- خلال رحلته القرائية.


شُكر خاص للمُترجم حسام إبراهيم على ترجمته الممتازة لهذا النصّ الصعب.

      


تقييمي النهائي 5 من 5

 

     

أحمد فؤاد

26 آب أغسطس 2020

 

 

google-playkhamsatmostaqltradent