لا أحد يستطيع
الإنكار أن التصنيفات هي أكثر ما يساعد القارئ على حُسن اختياره للكتب التي ينوي
قراءتها. فالقارئ الباحث عن المعرفة يحتاج إلى تبويب يرشده إلى ما يرغب في الإطلاع
عليه والاستفادة منه وسط عالم هائل من الكتب، والذي سيصبح عالما فوضويا من دون
تصنيفات توضّح مواضيع الكتب وتخصّصاتها ولُغتها ومؤلفيها وبلادها.
مدى دقة تصنيفات الكُتب
إن التصنيفات
تكون أمينة جدًا مع القارئ كدليل دقيق يُعتمد عليه في البحث عن الكتب العلمية
والتاريخية والدينية والتعليمية والسيّر الشخصية وكُتب التخصصات المُباشرة (كتب Non fiction). وحتى عن الكتب التي يجمع فيها مؤلفوها
أغلب مقالاتهم على مر سنوات سابقة، والتي تجمع بين الفائدة الفكرية والثقافية وبين
الترويح عن القارئ.
لكنني أرى أن
آلية التصنيفات تفقد دقّتها مع الكتب الروائية (Ficition)، فنلاحظ حالة من الارتباك عند أغلب الجهات
القائمة على التصنيف عند تصنيفها للروايات، مما يُحدث فوضى في اختيار التصنيف
المناسب لكل رواية، وذلك لعدم وجود مرجعية مُحددة لهذا الاختيار، وبذلك يُترك
للناشر أو للنُقاد وضع تصنيفهم المناسب من وجهة نظرهم؛ إما كأسلوب تسويقي أو كمنظور
نقدي أحادي الجانب. مما يؤدي بالنهاية إلى سخط القُرّاء الذين حصلوا على الرواية
بناء على التصنيفات المعروضة على أرفف المكتبات، وذلك إن اكتشفوا أن محتواها يختلف
عن ذلك التصنيف، مما يولّد لديهم شعورًا بتعرضهم للخداع بسبب حيلة تسويقية بارعة،
أو بمحاولةٍ جبرية لفرض الرأي!
تصنيف الرواية تصنيفٌ مُراوغ
إن الروايات
من أصعب الأعمال الأدبية التي يُمكن تصنيفها، لكن بالتأكيد يظل التصنيف العام هامًا
لوصف الإطار الأساسي للرواية، مثل إطار اجتماعي أو تاريخي، سياسي، بوليسي، أسطوريّ،
خيال علمي، رعب، فلسفيّ، نفسيّ أو عاطفيّ. لكن هذا التحديد في حذ ذاته أراه مُخلًّا
جدًا في رأيي.
الرواية عمل أدبيّ
خلّاق يمكنه بشكل مدهش أن يحوي الكثير من التصنيفات المُختلفة معًا، ذلك لأن
الرواية عمل إبداعيّ حيّ، يعيش بأرواح شخصياتها التي تسكننا وإن كانت خيالية.
ولهذا فإن أي رواية هي عبارة عن تجسيد للحياة نفسها. فإن كانت حياة الإنسان ليست جامدة إلى حد يمكننا أن نًصنّف به تجاربه اليومية
بتصنيف واحد، فبديهيّ أن تماثلها الرواية في ذلك.
إن قارننا
على سبيل المثال قصة سقوط غرناطة كآخر مملكة إسلامية تسقط في الاندلس على يد
القشتاليين، من خلال معاهده بين أمير غرناطة الأخير وملك قشتالة، والتسلسل الزمني
للأحداث مرورًأ بطرد المروسكيبن على يد الملك فيليب الثالث، سنجد في كتب التاريخ
الكثير من المعلومات الدقيقة عن أسباب السقوط، وعن مؤامرات ودسائس وحروب وتحالفات
مختلفة، وعن فرمانات نتج عنها كوارث إنسانية مُخيفة. وسنجد في بعض كُتب المؤرخين
عن حالة أهل الأندلس حينها ومصائبهم التي مرّوا بها.
لكننا مع
قراءة رواية مثل رواية ثُلاثية غرناطة، ندرك أننا لن نلمس معاناة أهل الأندلس حقًا
إلا من خلال حكاية الانسان، وتصوير الأحداث الجارية من خلال سرد قصصي لتفاصيل الظروف السياسية والاجتماعية والدينية، وكيفية تعامل
الناس معها ومدى تأثيرها على حياتهم الشخصية، وإلقاء الضوء على ما حدث في الحياة
اليومية للجيل الأول والثاني والثالث.
لماذا الرواية مُختلفة؟
إن الرواية تختلف بحيويتها عن بقية أنواع الكتب الأخرى والتي يكون أغلبها علميّة أو دراسيّة
أو فكريّة تدور أفكارها في إطار إثراء ثقافي في اتجاه واحد بين كاتب واحد وقارئ. أما
الرواية فتحتوي على عدة شخصيات متشابكة مُتفرّعة تتفاعل مع جميع المعطيات
الحياتية. وهذا ما يجعلنا – في رأيي- أكثر ميلًا للرواية والحكاية... فإن كانت
الكُتب غير الروائية تهتم بالحديث إلى عقولنا حصرًا وفي مجالات مُحدّدة بشكل مباشر
وعمليّ وماديّ، فإن الرواية تهتم بالحديث إلى قلوبنا، ودفعنا لرؤية الآخر بتمعّن والتفاعل معه من خلال تقديم تجربة العيش في حيوات
الآخرين بشكل حميم.
المقارنة هنا
ليست معيارًا للأهمية أو المُفاضلة بالطبع. فلكل واحد من النوعين أهميته عند القارئ،
لكن غرضها توضيح مدى صعوبة تحديد تصنيف وحيد للرواية. صحيح أن في كل رواية صِبغةٍ ما تغلب على بقية
الصِبغات فيها، إلا أنها لا تلغي أبدًا الأهمية البالغة لبقيّة الصِبغات الأخرى في
التركيب الروائي.
هذه ليست
دعوة لإلغاء التصنيفات بشكل كامل للأعمال الروائية، إنما دعوة لتنبيه القارئ لمعنى
التصنيف وغايته عند اختيار عمل أدبي روائي لقراءته. حيث أن اعتماد القارئ الكامل
على التصنيف لاختيار رواية ما، قد يكون بمثابة حكم إعدام على الرواية نفسها على
مقصلة رأيه النهائي. لأنه من الظلم وسم رواية بتصنيف واحد. في حين أن الكثير من
الروايات مراوغة عصيّة على التصنيف، كونها مزيج لا يقبل الفصل بين عناصره.
تصنيف وحيد... تصنيفٌ غير مًنصف
كيف يمكن أن
نُصنّف روايات كلاسيكية أو مُعاصرة، أجنبية أو عربية بتصنيفات مُفردة مُحدّدة.
روايات مثل: جنتلمان في موسكو، ظل الريح (مقبرة الكتب المنسية) مئة عام من العزلة،
الجريمة والعقاب، الساعة الخامسة والعشرون، أشياء تتداعى، البريق، أولاد حارتنا،
الطنطورية، من قتل ليلى الحايك، قاف قاتل سين سعيد، صدى الأرواح.
إن كل رواية
مما سبق يمكن أن تكون مثالًا واضحًا يُظهر مدى صعوبة تصنيف العمل الروائي بتصنيف
واحد. وتجعلنا نقف حائرين أمام محاولة التصنيف: هل هذه الرواية اجتماعية أم سياسية
أم فلسفية أم بوليسية أم نفسيّة. ألا تحمل جميعها رمزيةً ما قابلة للتأويل؟ أليس
من الظلم أن تُصنّف كل رواية منهم بتصنيف وحيد؟
نصائح للقارئ
لا تخلق توقعات مُسبقة لروايةٍ بُناء على
تصنيفها
لا تُفسد
تجربتك في قراءة رواية في محاولة الربط بين محتوى الرواية وتصنيفها الذي صُنّفت
به.
لا تحكم على
الرواية بعد قراءتها لمجرد عدم توافقها -في رأيك- مع التصنيف المطبوع عليها، فلا
هذا ذنب الرواية ولا ذنب الكاتب.
اعتبر
التصنيف مُجرد غُلاف مزركش مُبهر يُجمّل شكل الكتاب والرواية، ولا تجعل تأثيره
يمتد إلى ما بعد الغُلاف.
افتح الرواية
وابدأ معها رحلة تتسع إلى آفاق الأمكنة والأزمنة المختلفة.
تخيّل...
تأمّل... استمتع. (اقرأ أيضًا مقالي... كيف تقرأ رواية؟)
واعلم بأن
الرواية الأدبية مثل القارئ، كلاهما أعمق من أن يُحصر في مجرد تصنيف.
أحمد فؤاد
2 يوليو 2020