أكتب في محاولةٍ للفهم أو لعلّها
محاولة للهرب من ظُلمةٍ لا أرغب في العودة إليها مرة أخرى - تجربتي"عندما لا أكتب". يتعثّر القلم في محاولته للعثور على كلمات تمنحه القوة
للوصول إلى نهاية الصفحة. كعجوز تتخلّى عنه رغبته في البقاء لكنّه يتمسّك بأملٍ
واهٍ بأن ينتهي يومه الأخير في هدوء!
إن كنت مسكونًا بالكتابة حقًا،
وإن كانت الحروف تتوق إلى الخلاص لتنسكب على الورق، فلماذا أشعر بأن الحروف لا
تطاوعني؟ وكأنها متواطئة ضدّي مع... مع... لم أعد أعرف مع من؟ أهذه نظرية مؤامرة
أتوهّمها؟ أتكون متواطئة مع نفسي ضد نفسي!
أكاد أشعر بالكلمات تضطرم داخلي،
تتخبّط صارخة بأصوات أسمعها في رأسي كأصوات الفاريين من حرب ما! تُرى من أي حرب
تفرّ كلماتي؟ أو من أي حرب أفرّ أنا؟
لعلّها تهرب من هواجسي التي تطاردني
في كل ليلة، والتي تأتيني ثائرةً من أعماقي، لتقضّ عليّ مضجعي، وتسلب منّي راحة
البال في سكينة الليل.
أرقٌ مُتكرّر يداهمني وسط نومي فينأى النوم عن عقلي المُترنّح من سُكرة الوَسَن. أنصت في إذعانٍ
لأصوات يتردد صداها في ذهني بشكلٍ موجع، يزداد طنينها مع مرور الدقائق.
خليط من مُفردات مُتناثرة ذات دلالات مُبهمة، وحوارات كاملة بين أشخاص أعرف بعضهم وأكثرهم مجهولين. مئات من القصص والحكايات والاعترافات، مرثيات مؤلمة وأناشيد مُبهجة، مُجادلات ومُشاحنات ومحاكمات تقضي بضرورة وقوع الحرب فورًا! شخصيات بأسماء أعرفها دون أن يخبرونني بها، وكأنني جزء منهم أو هم جزء مني! أو كأنني وسيطٌ روحيّ أنقل تواصلًا مزعومًا بين أرواح تسكنني وبين أشخاص تقرأني!
خليط من مُفردات مُتناثرة ذات دلالات مُبهمة، وحوارات كاملة بين أشخاص أعرف بعضهم وأكثرهم مجهولين. مئات من القصص والحكايات والاعترافات، مرثيات مؤلمة وأناشيد مُبهجة، مُجادلات ومُشاحنات ومحاكمات تقضي بضرورة وقوع الحرب فورًا! شخصيات بأسماء أعرفها دون أن يخبرونني بها، وكأنني جزء منهم أو هم جزء مني! أو كأنني وسيطٌ روحيّ أنقل تواصلًا مزعومًا بين أرواح تسكنني وبين أشخاص تقرأني!
أنهض عازمًا على الكتابة للقيام بدوري
الذي لم أختره
أكتب وأكتب
متوتر... مرتبك... مضطرب...
أكتب وأكتب
مُشوّش... مُشتّت... مُنزعج...
أكتب وأكتب وأكتب وأكتب...
لا حروف... لا كلمات...
أحدّق في الصفحة البيضاء في رهبة، يفزعني
بياضها البادي أمامي... كمحيط هائل يبتلع كل الألوان. أجزع... أبحث عن نقطةٍ سوداءٍ
أتعلّق بها خشية أن يبتلعني البياض أيضًا. حينها أنتبه إلى أن الأصوات في عقلي قد
خَفَت صداها، وصرتُ أسمعها كهسيس على بعد مئات الأمتار. أستمسك ببعضٍ مما علَق بذاكرتي
منذ أن صحوت فأكتشفُ أن كل التفاصيل قد تلاشت مثلما تتلاشى آثار الأقدام على
الرمال.
موجة من عدم اليقين تعتريني.
أشردُ... هل كانت هناك صرخات في رأسي
حقًا؟ هل كان هناك شيئًا لأكتبه؟ هل هناك كلمات تسكنني بالفعل؟ هل امتصها بياض
صفحة؟ هل مازلت نائمًا! ليتني كذلك.
ما زلت أسأل نفسي كل يوم، هل مازلت
أستطيع الكتابة حقًا؟ وإن كانت الإجابة بنعم، فمتى ينكسر قلمي، ويجفّ مدادي، وتموت
كلماتي؟ وهل سيصنع ذلك فارقًا؟ يتلبّسني هاجس الموت قبل الحياة، والغاية قبل
الوسيلة، والنتيجة قبل الفعل. ويبدو أن الكلمات تهرب مني خشية مآلها، وما صراخها
داخلي إلا لعذابها بين أنين البقاء محبوسة في ضلوعي، وبين فزعها من نهاية غير
متوقعة على يديّ!
هل ثمة عدالة شعرية فيما أمر به؟ هل
تُعذّبني روح الكلمات التي قتلتها من قبل؟ تضطرم داخلي صارخة للخروج، وحين محاولتي
لكتابتها تتمنّع هاربةً في خبثٍ تاركة إياي في حلقة لا تنتهي من المحاولات.
أعترف بأنني اغتلت آلاف الكلمات على
مر السنين؛ عندما وأدتُ الكثير مما تمنّت النفس قوله في الماضي قبل أن يمضي!
لكن الكتابة كانت ومازالت ليست عن إرادة
منّي! الدليل؟ ها أنا أتعثّر كي أكتب صفحةً واحدةً رغم رغبتي العارمة في الكتابة،
فمن المذنب فينا... الزمن؟ ... أنا؟ ... الكلمات؟
رُبّما حوّل الزمن ربيع روحي إلى خريفٌ مُبكّر...
رٌبّما أنا من فقدت القدرة على الكتابة...
رُبّما ليست الكلمات هي التي عزفت عن
قلمي...
لعلّها فقط ضلّت طريقها إلى الخروج.
أحمد فؤاد
1 تموز يوليو 2020