random
أخبار ساخنة

نُقطةٌ سوداءٌ في مُحيطٍ أبيض

        

هل ينسى الإنسان ذنوبه بمرور الأيام؟
   
 

محال أن ينسى المرء ذنوبه، وإنما يختلف وقع الذنوب على الناس. فالمُخطئون ينقسمون إلى قسمين، قسم مُقرٌ بجُرمِه مُصرّ عليه -في نفسه- وإن كان مُشينًا، مُنكِرًا له أمام البشر، يُبرر لنفسه سوء خلقه ودناءة فعله وقُبح خطيئته، يختلق في رأسه أسبابًا مُزيّفةً؛ يصنع من مُبرراته الباطلة سِتارًا بينه وبين نفسه، فيظن أنه في منأى عن وجع الضمير وعذاب الذكرى. يتجاهل الأمر كُلّما مرّ على باله، وكأنه كان مُجرّد شاهد على الحدث وليس متورّطُا فيه!

يتصوّر الكثير أن مثل هؤلاء الذين يُنكرون آثامهم الفائتة قد ماتت ضمائرهم، وأن إصرارهم واستمرارهم في ارتكابهم السقطات، هو نتيجة موت قلوبهم مما يوقف شعورهم عن وخز الضمير. لكنني أرى غير ذلك.

ففي رأيي أن الضمير لا يموت حتى في نفوس المُجرمين، وإنما يحملُ الآثمُ سِرَّه بينه وبين نفسه، ولا يُظهر ذلك أبدًا أمام أقرب الأقربين له. لكنه يرى حقيقة أمره في عيون الأسوياء من حوله، ويعلم قدر نفسه في عيون من أجرم في حقوقهم حتى وإن كانوا على جهل بجريمته. يستشعر حقارته فيزيد في ارتكاب جرائم أخرى في حقوق آخرين، يرى في ذنوبه المُتكررة راحةً وسلوى لقلبه الرذيل تُنسيه ذكرى آثامه السابقة، تمامًا مثلما يرى السكير في الخمر راحةً زائفة لصحّةِ بَدَنِه وعقله.

     
أما القسم الآخر فَهُم التائبون. هُم من أتوا بإثمٍ في وقت ما من ماضيهم، فتابوا عنه لاحقًا؛ إلا أن بَصْمَته بقيت في قلوبهم طول العمر. فمهما أصلحوا من نفوسهم وراعوا الله في معاملاتهم، يبقى أثر جريرتهم مريرًا كالعلقم في حلوقهم لا يزول. تُطاردهم وجوه من ظلموهم فتقُد مضاجعهم في جوف الليل، وتتمنّى نفوسهم لو أنهم ما اقترفوا ذلك الذنب في يوم من الأيام.

يهرع قلب التائب إلى الله ليغفر له لأنه يعلم أن الله يغفر الذنوب جميعًا، فيشعر مع صِدق توبته بأن الله قد غفر له، لكن المُذنب في حق شخص آخر؛ يعلم بأن هذا الشخص يدعو عليه في سِرّه وعلنه. يعرف بأن هناك مظلومًا يعاني بسبب خطيئته، وأن هناك من دُمِّرت حياته بسبب كذبة أو وشاية أو تفريق بين زوجين أو حرمان من ميراث أو ما هو أكثر من ذلك.

إن هناك من الآثام التي يُمكن للمرء أن يعتذر عنها ويطلب العفو ممن وقع عليه الظلم فيها، لكن هناك آثامًا لا يعرف الناس عن أصاحبها شيئًا بفضل ستر الله عليهم لحكمةٍ لا يعلمها إلا هو. مثل هذا النوع من الآثام يكون عذابه أشدّ على النفس، فالتائب من ذلك الذنب لا يستطيع الاعتراف بجريمته خشية كشف ستر الله عليه، بل وقد يفضح المظلوم أيضًا عن غير قصد. فيبقى مُتكتّمًا -اضطرارًا- على ذنبه، يستشعر -كُلّما تذكّره- وضاعته حين لحظة استذله فيها الشيطان. وقد تُعمّق بعض الآثام العظيمة لديه شعورًا عميقًا بالذنب، فيرى زِلّته نقطة سوداء صارخة وسط بياض توبته وإحسانه وعمله الصالح مهما بَلَغَ حجم هذا البياض ملء المُحيط. فتفسد عنده كل سعادة، ويُفسَد لديه كل شعور بالرضى.
     

      
    
إن كل إنسان لابد وأنه اقترف ذنبًا في حياته، لكن كل إنسان له ميزانه الخاص في تقدير عظمة ذلك الذنب. إن المشكلة تكمن في أن كل واحد منّا يُقدّر الإثم من خلال خليط واسع يشمل تفكيره وخبراته وحُسن تدبيره ومدى إيمانه وقوة معتقداته وقدر فهمه للأمور، لكن يظل هذا التقدير هو تقدير شخصي جدًا لا يأخذ في الحُسبان -أغلب الأحيان- دور هذا الإثم في تحطيم قلوب النفوس البريئة التي ظُلِمَتْ، وتأثير ذلك في حياتهم، والتي قد لا تعود -بسبب بشاعة الإثم- سَويّةً مرة أخرى.

لقد خلق الله تعالى الانسان بخيره وشرّه، وحسناته وسيئاته، وخطئه وصوابه، ودناءته وبراءته. كل ذلك في إطار خلقٍ متين البنية مُعقّد الروابط والأحداث والوقائع. غاية هذا التعقيد عند الله وحده ولحكمةٍ اختصّها لنفسه. لكن أفعالنا جميعها معروضة عليه يوم الحساب. ولا سبيل لنجاتنا سوى أن نأمل عفو الله ومغفرته عن زلاتنا وأخطائنا وآثامنا.
 

إن كُنّا لا ننسى ذنوبًا اقترفناها في حق آخرين، فإننا أيضًا لا ننسى آثامًا وقعت ظُلمًا علينا. قد تتوه عنّا أحيانًا وسط مشاغل الحياة وزخرفها، إلا إنها تبقى قابعةً في ذاكرتنا فتفاجئنا يومًا ما على حين غرّة. تُحيي فينا الذكرى أوقاتًا ظننا أننا نسيناها، وندرك حين التفكّر فيها أننا مُثقلون بآثار ذلك الظُلم، فتتوق النفس إلى التخفّف من ذلك الغمّ والأسى، هربًا من أن تحترق نفوسنا من الكمد والحسرة والغيظ.

     
من الصعب أن يصفح المظلومون عن ظالميهم، لكن إن بلغكم عنهم توبة، فلا تضنوا بصفحكم على التائبين منهم عن أخطائهم في حقوقكم. سامحوا فقط إن تابوا، وليس شرطًا أن يستلزم ذلك المواجهة بين الظالم والمظلوم.

    
سامحوا لوجه الله تعالى؛ فمن يدري؟ لعلّنا نحتاج يوم الحساب إلى صفح شخص آذيناه دون قصد مِنّا في يوم من الأيام.

     
أحمد فؤاد
18 تموز يوليو 2020
google-playkhamsatmostaqltradent