حسنًا... أنا حقًا حزين... حزين لانتهائي من قراءة هذه الرواية. يكفي أن أقول إنني عندما وصلت في قراءتي إلى حوالي 90% من أحداث الرواية؛ راعني ذلك وبدأت في إعداد نفسي لمرثاة فراقها.
قد يكون من الطبيعي أن نحزن لفراق رواية أحببناها وقضينا مع شخصياتها أوقاتًا سعيدة أو تعيسة، لكن قِلّة من الروايات هي ما تجعلنا نغتمّ عندما تنتهي رحلتنا معها، وتلتاع قلوبنا حقًا من ألم فراقها، ذلك لأنها في الواقع تسكن القلب ونجد أنفسنا نتماهى معها. تلمس أوتارًا في أرواحنا فتُحيي فينا ما ظننا أنه لم يعد فينا طالما قبع طويلًا في ظُلمتنا الداخلية!
الرواية مليئة بالشجن والأسى والوحشة، لكنها غنيّة بالسكينة والعذوبة والجمال. خليط عجيب من الحزن النبيل أو الألم الجميل أو الأسى الرائع.
هذا الخليط الذي رأيناه في روح رواية مادونا صاحبة المعطف الفرو، والذي تذكرتها بشدة وأنا أقرأ هذه الرواية. هو نفس الخليط الذي جعلنا نتجرع الألم بأناةٍ عندما قرأنا خطاب نوريا مونفورت في رواية ظل الريح، أو عندما حكت لنا ماريا مارجريتا عن قصتها في رواية راوية الأفلام. أو عندما استمعنا إلى حكايات الطفل ديدا في رواية شجرتي شجرة البرتقال الرائعة. من قرأ هذه الروايات سيفهم ما قصدته بكل تأكيد.
رواية صدى الأرواح، ليست رواية بوليسية كما ظلمها البعض حين صنّفها، الرواية نفسية فلسفية بحتة، بينما جاءت القصة البوليسية كمُحرك للأحداث. لهذا فمن الطبيعي أن تنسى القصة البوليسية وتنسى هدف الدكتور عادل شكري في محاولاته للكشف عن القاتل، بل حتى تزهد في معرفة هويّته إن لم تكن قد عرفته بالفعل. لماذا؟ لأنك أصبحت بالكامل جزءًا من الرواية... أنت قطعة من الأحجية فمرحبًا بك في حلقة الأرواح.
اسأل نفسك بعد أن تصل إلى منتصف الرواية أو حتى نهايتها، ما هي الأرواح التي كانت تتردد صداها؟ إن كانت روح حامد إبراهيم تتردد صداها داخل عادل شكري، ألا ترى أن روح عادل شكري ذاتها تتردد داخل شخص تعرفه جيّدًا؟ شخص يشبهك... نعم هو أنت أيها القارئ. أرأيت كيف تورطت في الأمر!
عندما تسكنك التفاصيل
نغرق في التفاصيل منذ الصفحة الأولى وحتى الصفحة الأخيرة، نشرب الشاي المُختمر بلون العقيق عشرات المرات، ولعلنا نشعر بجفاف العين بسبب سحابات الدخان التي لا تنتهي، لابد هنا من شعر بالبرد أغلب أوقات الرواية، وقد يكون مثلي قد تمنى أن يغزو البرد القارس عالمه ليتماهى في النص أكثر. سنمشي في شوارع حمص القديمة، ونأكل مأكولاتها الشهية. لن ندخل غرفة واحدة أو نخطو في شارع واحد إلا ونراه بكلمات تُجبر الخيال على أن يحيل الواقع من حولنا إلى مشاهد سنيمائية مُتقنة. لنجد أنفسنا في النهاية قد تماهينا أكثر من اللازم. ألا يسمع أحدكم مثلي موسيقى ريتشارد فاغنر أو أصوات تشيللو تصدح من حوله؟
قد يكون القراء قد تماهوا مع شخصية عادل شكري، وقد يكونوا قد رأوا أن الكاتب أبدع في وصف شخصية حامد إبراهيم كمريض نفسي (وقد فعل ذلك بكل براعة)، إلا أنني لم أصدق أن جميع المراجعات التي كُتبت عن الرواية لم تذكر تعطي شخصية أساسية حقها في الرواية رغم عِظم دورها فيها. إنها أمل.
أمل... روعةٌ منسيّة
أمل هي النقطة التي تبدأ وتنتهي عندها كل الخيوط، هي ليست الحلقة الأساسية فقط كما جاء على لسان عادل، وليست الحلقة الأضعف كما ادّعَت هي بلسانها، بل أنها موجودة وبقوة في أغلب أثير الرواية رغم ظهورها القصير.
مشاهدها قصيرة؟
أيها السادة... كيف لم تلاحظوا روعة تصوير مشهد مقابلة عادل مع أمل؟ هذا المشهد الذي قرأته أكثر من مرة، وتفحّصته وتابعت كل تحولات أمل منذ قبل لحظة اللقاء وحتى نهايته. من فضلكم.. أعيدوا قراءة هذا الفصل رقم 18... تأمّلوا التفاصيل... انظروا إلى قسمات وجهها، إلى تصفيفة شعرها، إلى الملابس التي ترتديها، تأملوا طريقة وقفتها بل وجلستها، تابعوا حركة الحاجبين، أنصتوا لتغيّر طبقة الصوت. ذوبان القناع الشمعي، انهيار الجليد في عيونها، الدفء الذي ملأ صوتها. أكاد أجزم أن هذا اللقاء كان حقيقيًا... هذا مشهد سنيمائي بامتياز، وأراه أفضل مشهد في الرواية من ناحية التجسيد.
ستجدون أمل في كل مكان... في ثنايا الروايا، في تدوينات حامد، في حديث عادل عنها، في لقائه معها، في أحاديث الأخ والضابط. ستجد روحها في شوارع حلب ودمشق، حتى في الشقة التي زارها عادل قُبيل النهاية ستجد طيف أمل فيها (الطنافس)! أمل انعكاس واضح وحيوي في أغلب أحداث الرواية.
حتى النهاية كانت أمل حاضرة في ذهنك أيها القارئ... لا تنكر هذا أرجوك.
حسنًا... في الحقيقة؛ أنا مُتحيّز لأمل وبكل شدة.
مناقشة النهاية... وسلبية واحدة - (نص مخفيّ)
اقتباسات
أولئك المعتوهون، هل يظنون أن من الممكن الهروب من التعاسة!؟ البشر مجبولون بالتعاسة وليس بالإمكان التخلص منها
هل من الجائز أن يحاول الإنسان أن يلعب دور الله؟
هل يحق لك أو لأي أحد آخر محاسبة غيره من الناس وبقسوة؟ هل يحق للناس أصلًا محاسبة بعضهم البعض؟
ما بين ملل الأقنعة وألم الحقائق فلتقتنص ساعتين فقط نوقف فهم الحياة؛ فلتهرب من أوجاعك وديونك، غربتك وأقنعتك ولتستمع قليلًا لصدى الأرواح من حولك.
لكل انسان غابته، وعليه وحده، وحده فقط أن يكتشفها.
لماذا وجدت نفسي في هذا الموضع؟ لماذا تقاطعت حياتي مع هذه الحيوات البائسة؟ لأكون شاهدًا فقط؟ شاهدًا صامتًا وحزينًا وعاجزًا؟
الحقائق مخبوءة عادةً تحت ركام من التفاصيل التي تبدو تافهة ولا معنى لها أحيانًا.
هل يوجد مخلوق على وجه الأرض يشعر بشعور اسمه الندم سوى الإنسان؟
التقييم النهائي
من أجمل الروايات العربية الحديثة التي قد قرأتها، وأجمل ما فيها هو السرد وجمال التفاصيل، بشكل أجبر القارئ على قبول الملل بل وحُب العيش فيه والتماهي معه! لغة عربية ممتازة ورائعة، أثرتني مفردات عديدة مميزة أعترف بأنني لم أكن أعرفها من قبل.
أكرر ما قلته سابقًا بأن بعض الروايات العربية رائعة وينقصها فقط الاحتفاء المناسب، ذلك الاحتفاء الذي يُظِهر الكثير من الروايات الغربية المترجمة بصفة أسطورية لا تستحقها. وإن كنت قد احتفيت من قبل برواية قاف قاتل سين سعيد للكاتب عبد الله البصيص؛ كرواية من أفضل الروايات العربية في الفترة الأخيرة، فاليوم أحتفي أيضًا وبكل حماس برواية صدى الأرواح للكاتب عبد الخالق كلاليب؛ كرواية ساحرة وآسرة ومن أجمل ما قرأت في الإصدارات العربية مؤخرًا.
ها أنا أنهيت مرثاتي... والآن سألملم بقايا ما فاض مني على الورق، وأصنع منه تذكارًا لينضم إلى بقية الروايات التي لامست قلبي.
أحمد فؤاد
11 حزيران يونيو 2020