هل من الممكن أن يقترن القهر بالحُب؟ أو أن يُبَرّر التَعسّف بالحماية؟
ما الخط الفاصل بين الاحترام والخنوع؟ وبين التقدير والإذعان؟
قد تبدو الإجابة بديهية، لكنها ليست كذلك.
الاستسلام أم الثقة بالنفس؟
قدرتنا على إجابة التساؤلات أعلاه تتوقّف على الثوابت و المعطيات التي استقيناها خلال نشأتنا ثم قسناها بخبراتنا في الحياة، لتتشكّل آرائنا وثقتنا فيها. ولكن... ماذا إن كانت تلك المعطيات خطأ؟ وأن رؤيتنا للعالم ليست سوى رؤية غير صحيحة ترسّخت لدينا من خلال شخص وثقنا فيه أو مثل أعلى لنا؟ ماذا إن كان عقلنا يصرخ بأنه غير متجانس بما نشأ على أنه صحيح؟ منطقي أننا سنحاول التغيير إلى الأفضل - من وجهة نظرنا - لكن ماذا إن كان ذلك معناه أن نكون منبوذين؟ نحاول أن نقنع أنفسنا آلاف المرات أنهم على حق، وذلك كي نخرس الأصوات المدوّية داخلنا التي ترفض ذلك. قد يكون ذلك هو الطريق الأسهل لضمان الوجود داخل المجموعة بأمان، لكن ماذا إن كان من يفرض علينا ذلك مريضًا نفسيًا أو جاهلًا؟
ما بين الاستسلام للضغط و بين المكافحة من أجل السلام الداخلي الذي يتحقق بما تؤمن به، كانت رحلة الدكتورة تارا ويستوفر Dr. Tara Westover ، والتي تقول في نهاية كتابها، أن التحوّل الحقيقي في حياة الإنسان كي تتأصل داخله الثقة بالنفس، تصبح لديه القدرة على اتخاذ القرارات هو التعليم، والذي بالتبعيّة - منطقيًّا- يؤدي إلى استقلال مالي مناسب.
كتاب المُتعلّمة Educated والفائز بجائزة أفضل كتاب لعام 2018 تصنيف المُذكّرات والسِيَر الشخصية، وذلك في استفتاء القُرّاء بموقع جوود ريدز Goodreads التابع لشركة أمازون، والذي رشّحه للقراءة كُل من بيل جيتس والرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما؛ هو عبارة عن مُذكّرات الدكتورة تارا، والتي تسرد فيه حكاياتها مع أسرتها والمحيطين بها، تشرح رحلة حياتها منذ أن كانت طفلة غير مُتعلّمة حتى حصولها على شهادة الدكتوراه من جامعة كامبريدج.
نشأةٌ لا يتمنّاها أحد!
تارا إبنه لأبوين من طائفة المورمون. الأعراض التي تظهر على أبيها توضح أنه يعاني من اضطراب ثنائي القطب bipolar، كما أنه يعاني من حالات بارانويا. يؤمن أبوها بأن الموسسات الحكومية سواء المدارس أو المستشفيات هي وسائل للسيطرة على المواطنين وغسل دماغهم وضمان التحكم فيهم، ودفعه ذلك إلى عدم استخراج أوراق ثبوتية أو شهادات ميلاد لأطفاله، ولم يلحقهم بالمدارس، مُفضّلًا أن يعملوا معه في المزارع، كما أنهم لم يتناولوا أية أدوية أو مُسكّنات أو حتى قاموا بعمليات جراحية، وإنما يتم ذلك في المنزل بطرق بدائية باستخدام الأعشاب، الرجل يؤمن هو زوجته إيمانًا شديدًا أن الألم إرادة الله ولهذا فمن السيء عدم الامتثال لأمره وتخفيف الألم، ناهيك عن شعورهم بالتخلي عن الإيمان بقدرة الله إن استعانا بالأطباء!
الغريب أننا لا نتحدث عن فترة زمنية قديمة، إنما نتحدث عن فترة تترواح ما بين التسعينات حتى يومنا هذا، بل والأغرب أن الأدوية البدائية التي قام بتحضيرها الأب والأم كبديل للعقاقير الطبية، انتشرت انتشار هائلًا وأدرّ ذلك عليهما مالًا وفيرًا يُقدّر بالملايين، حتى أنهم أصبحوا ينافسون برنامج التأمين الصحي لأوباما حينها Obama Care.
وسط هذه الأحداث نشأت تارا، لكنها للأسف عانت كثيرًا بسبب العنف النفسي والإيذاء البدني لها من قِبَل أخوها ، ذاقت ألوان من القهر على يديه، لكن الأسوأ كان إنكار والديها حدوث ذلك رغم معرفتهم بالحقيقة، بل ومعرفتهم بأنه يقوم ايضًا بإيذاء بقية أخواته وخاصة الإناث منهم، وكان من الواضح أنه أيضًا يعاني من مشاكل عقلية خاصة بعد حادث سيارة أضر بعقله. ولأنه لا يمكن تشخيص حالات الأب أو الإبن بسبب عدم زيارتهم للأطباء فقد كان هذا أمرًا واقعًا عليها، بل ويجب التعامل على أنهم إناس طبيعيين، فقط مطلوب منها شيء واحد فقط. الإذعان الكامل. كادت تصدّق أن ذلك كان بسبب تهيؤات لها وأن ذلك ليس صحيحّا، لولا مُذكّراتها التي كانت توثق فيها مُعاناتها. بعد سنوات من التشتّت والألم النفسي، ومراجعة أطباء نفسيين لوقف سيل الكوابيس التي تداهمها وتدفعها إلى الجنون، عندما أظهرت مُذكّراتها لأحد أخواتها الذي ترك المنزل وحصل على شهادة الدكتوراة أيضًا، صدّق على ما جاء في ما كتبته، بل وأكدّ أنه قد عانى أيضًا من بعض ممارسات قهرية من أخيهم.
الكتاب مؤلم في بعض أجزائه، وفي اعتقادي أنه يتحدث عن العنف الأُسري أكثر مما يتحدث عن التعليم كما تم الترويج للكتاب، لكن تم اختيار عنوان الكتاب educated تماشيًا مع إيمان الكاتبة بأن طريقها للخروج من المعاناة التي عشاتها كان التعلّم والدراسة.
لكن الكتاب مليء بالكثير من الثغرات، مثل الصعوبة الشديدة الالتحاق بجامعة كامبريدج لشخص غير متعلم بالشكل التي وصفته الكاتبة، وصعوبة تصديق الحصول على شهادة الدكتوراة بمثل هذه الصفات، و أيضًا عدم واقعية أن منحة الجامعة تكفي المبالغ التي أنفقتها الكاتبة سواء في التنقل بالطائرة لزيارة بلدها أو السفر إلى البلاد المجاورة أو حتى بقية تكاليف العيش. هناك فجوات بالتأكيد أخفتها الكاتبة ولم تفصح عنها.
هناك أيضًا بعض المغالطات الترويجية، مثل الترويج بأن حياة الأسرة كانت بريّة أو همجية wildness للتدليل على الانعزال التام، وذلك غير صحيح بشكل كامل خاصة مع وجود أجهزة تلفاز وهاتف و كومبيوتر وانترنت آنذاك.
هناك نقطة هامة أود أن أشير إليها، وهي أن الكثير قد يربط العنف والتحكم في الآخرين من قِبل الآباء على الأبناء بالدين، والدعوة على الخروج عن ذلك. الكاتبة لم تشر إلى ذلك، لكن للأسف الشديد نستطيع أن نلاحظ وجود مثل هذه المشاكل والأحداث عندما يجتمع التديّن بالجهل، لأن الجهل حينها يكتسب قوة جبّارة تمنحه قداسة يصعب مواجهته معها.
الكاتبة أضافت بضعة أسطر عن الإسلام وبن لادن، عندما كانت في الأردن، وعبّرت أنها سمعت الناس هناك تقول أن بن لادن لم يكن يفهم الإسلام بشكل صحيح ،في إشارة بأن الدين الإسلامي ليس دينًا يدعو للعنف، وبأن جميع الأديان لا تدعو إلى ذلك، لكن المشكلة تكمن في فهم الناس للدين بشكل صحيح. في رأيي أن هذه الفقرة تم إقحامها على العمل للتسويق أو لكسب جمهور أكبر، لكنها لفتة طيبة على كل حال.
من هم المورمون؟
بقى أن أنوّه أننا كي نفهم دوافع الإيمان الشديد والتحفظ لدى عائلة تارا وأبيها بشكل خاص، يجب أن نعرف أن تارا وعائلتها كانوا يتبعون طائفة المورمون.
المورمون هي مجموعة دينية وثقافية تعتقد بالمورمونية المسيحية، والمرمونية مُنبثقة بالأساس من حركة قدّيسي الأيام الأخيرة، ونشأت كحركة مستقلة عن المذهب البروتستانتي المسيحي، ونشأت الطائفة على يد جوزيف سميث في الفترة 1840 و 1850. الغالبية العظمى من المورمون أعضاء في كنيسة يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة بينما أقلية أعضاء الكنائس المستقلة الأخرى، يعتبر المورمون أنفسهم جزءًا من الديانة المسيحية، رغم أن الطوائف المسيحية لا تعتبرهم منها.
تفرّعت من طائفة المورمون عدة طوائف أخرى، لكن أهمها هي طائفة المورمون الأصوليين، وهي التي تتبعها عائلة الكاتبة، وتتميز تلك الطائفة بالامتناع عن العلاقات الجنسية قبل الزواج، والامتناع عن العمل يوم الأحد عندما يكون ذلك ممكنًا، أمسيات الأسرة في المنزل والتبشير. تـُحرّمُ كنيسة قديسي الأيام الأخيرة شرب الخمر، وغالبية أتباعها لا يشربون الشاي و القهوة وكل ما يحتوي على الكافيين، كما أنهم لا يدخنون السجائر. وبعض المتشددين من المورمن يمنعون النساء من لبس التنانير القصيرة وسراويل. تشجّع المورمونية على الروابط الأسرية وصلة الرحم وتعطيها مكانة خاصة ويظهر ذلك في تخصيص أمسية السبت والإثنين لِلَم شمل العائلة وعلى أيضًا على إنجاب البنين والأسر الكبيرة. كما أنها كانت توافق على تعدّد الزوجات، وقد تسبب ذلك بمشكلة مع الحكومة الأمريكية، لكن الكنيسة قد أنهت ذلك رسميًا عام 1890، لكن مازال هناك بعض الأقليات الأصولية المورمونية مازالت تمارس ذلك غرب الولايات المتحدة الأمريكية. كما أنهم لا يتسخدمون الصليب رمزًا لهم لاعتقادهم في أن المسيح مازال حيًا*
*المصادر
- Brooke, John L. (1994), The Refiner's Fire: The Making of Mormon Cosmology, 1644–1844, Cambridge: Cambridge University Press .
- Eliason, Eric Alden (2001), Mormons and Mormonism: an introduction to an American world religion, University of Illinois Press .
- Shipps, Jan (1985), Mormonism: The Story of a New Religious Tradition, Chicago: University of Illinois Press
ومن خلال مذكرات الكاتبة نرى أنها لم تكن تشرب الخمر، وكانت ترتدي ملابس محتشمة، ولم تكن تعمل أو تشتري في يوم الأحد، لديها 6 أخوات، إخوانها لديهم عدد كبير من الأطفال، كما أنهم يحرصون على الذهاب إلى الكنيسة بانتظام، وأبيها الذي يتلو المواعظ بصفة مستمرة حتى في المنزل. وكان واضحًا جدًا التزام عائلتها الشديد بتعاليم طائفتها. (على الرغم من بعض الاعتراض من قبلها على ذلك على استحياء وبشكل غير مباشر في الكتاب)
اقتباسات
My life was narrated for me by others. Their voices were forceful, emphatic, absolute. It had never occurred to me that my voice might be as strong as theirs.
Whomever you become, whatever you make yourself into, that is who you always were.
It’s strange how you give the people you love so much power over you, I had written in my journal. But Shawn had more power over me than I could possibly have imagined. He had defined me to myself, and there’s no greater power than that.
The decisions I made after that moment were not the ones she should have made. They were the choices of a changed person, a new self. You could call this selfhood many things. Transformation. Metamorphosis. Falsity. Betrayal. I call it an education.
You can love someone and still choose to say goodbye to them.
You can miss a person every day, and still be glad that they are no longer in your life.
النسخة العربية
قامت مؤخرًا دار مدارك بإصدار النسخة العربية من الكتاب باسم المُتعلّمة، ومن ترجمة الأستاذ خالد الجبيلي المُترجم السوري الكبير والذي ترجّم من قبل روايات شهيرة مثل مزرعة الحيوان لجورج أورويل، وقواعد العشق الأربعون لأليف شافاك، وأورا لكارلوس فوينتس.
لم أقرأ النسخة العربية للأسف، لكن أتوّق لقراءتها قريبًا كونها من ترجمة الأستاذ خالد الجبيلي، وأعِد أن أُحدّث المُراجعة إن قرأتها بإذن الله تعالى.
التقييم النهائي
تقييمي للكتاب متوسط، النصف الأول كان مُملًّا بعض الشيء، مليئًا بالتفاصيل، والتي لا أستطيع أن أنكر أنها مهمة كي نستطيع رؤية الصورة بشكل كامل وشامل، لكنني أظن أن الإسهاب جاء بسبب كون الكتاب هو الأول للكاتبة والذي حاولت فيه حسب ظنّي إخراج الألم المكبوت داخلها كي تستريح بمشاركته مع الجميع، بالإضافة إلى رغبتها بنشر تجربتها التي أثبتت نجاحها في الحصول على درجة الدكتوراة من جامعة عريقة والهروب من عالمها المؤلم رغم كل الظروف التي واجهته، وذلك لتقديم المساعدة المعنوية لكل من يواجه ظروفًا شبيهة بما عانته.
لكن الكتاب في مجمله جميل وممتع ومليء بالتحدي والإرادة، كتاب يثبت بأن كل شيء قابل للتغيير إن امتلكنا الإرادة مع كثير من التوفيق!
تقييم الكتاب 3 من 5
أحمد فؤاد