random
أخبار ساخنة

مُراجعة رواية قاف قاتل سين سعيد - عبد الله البصيص

 


    


لن أخبرك بأنك ستكون شخصًا آخر بعد أن تقرأ هذه الرواية، لكنني أحذرك بأنك قد تعود لتصبح نفس الشخص الذي كُنته في الماضي!
 



 
   

اعتراف لم يعد مفيدًا


أعترف أنني تعرّضت لخداع عبد الله البصيص. نصب لي كمينًا في بداية الرواية، فتقدّمت ببطءٍ يشبه بُطء بداية الرواية؛ أتحسّس الكلمات في طريقي أثناء تعرّفي على عالمها. اعتراني شعور بأن المديح الذي سمعته عن الكتاب مُبالغ فيه، فأهملت حذري وتقدّمت أفكّر في بداية خيط الجريمة لتَزِلّ قدمي بين السطور دون أن انتبه!

كان ذلك عندما بدأت التسجيلات، فأدركت حينها أنني انتقلت عبر بوابتها السحرية إلى عالم فيه منّي أكثر مما في الرواية! كُلّما تقدّمت في القراءة كُلّما اجتاحني حنين عظيم إلى الماضي، وأجدني أترك الكتاب شاردًا في فضاء الغُرفة التي لا أرى فيها إلا غرفة عرفتها منذ خمسة وعشرون عامًا! أختنق فأخرج إلى الشرفة أنظر إلى السماء، أبحث بين الغيوم عن قبس نورٍ هارب يُمسّد روحي فلا أجد. تبللني حبّات المطر في محاولة أخيرة لتغسل رواسب من الماضي كنت أظنني قد برأت منها!

تلازمني كلمات البصيص التي جاءت على لسان بطله

ثم راحت الأيام تفعل الذي تفعله دائمًا... تأخذ كل اللحظات وتمضي.
   
ولم أعرف إن كان يواسيني الكاتب بها أم ينكأ بها جرجي!
     
   

مكيدة المُراهقة


هناك لحظات فاصلة في الحياة تُغيّرنا إلى الأبد، نقطة فاصلة بين عالمين... أو زمنين... أو شخصيتين. نقف عاجزين عن العودة إلى ما كُنّا عليه، وأحيانًا رافضين التقدّم أيضًا... في مرحلة المراهقة التي نخرج فيها من عالم الطفولة إلى عالم الكِبار، نقع في براثن مكيدة ليس لها سوى طريق واحد للنجاة منها؛ طريق نحو مستقبل غامض يوحي بتجربة مثيرة ومختلفة. لكن المشكلة تكمن في الوقت الذي نستغرقه كي ندرك أن مرحلة الطفولة لم يعد لنا فيها مكان إلى الأبد.

الطفل الذي يرفض دخول مرحلة المراهقة ويتناقص الأصدقاء من حوله تدريجيًا حتى يجد نفسه وحيدًا... يكافح من أجل أن يمنع تبدّلهم، ومن أجل أن يهزموا الزمن ببراءتهم التي ولّت. عجز عن إيجاد إجابة لسؤال أرهقه "كيف تغيّر كل شيء في لمح ابصر؟" لم يفهم أن الزمن يمر ولا يعود، وأن الحياة تستمر وتيرتها على الرغم من كل محاولاتنا الفاشلة في منع ذلك. ولم يتفطّن إلى أنه مهما كبر سيظل حبنا لفترة الطفولة مزروعًا داخلنا بلا شفاء.

ليس فهد فقط من مر بتلك المشاعر، نحن جميعًأ مررنا بها. للأسف نكتشف بعد مضي السنين، وبعد أن كنا نظن أننا نتغيّر فقط فترة المراهقة؛ نكتشف أننا نتغيّر بشكل مستمر، وليس شرطًا أن نكون مراهقين كي نتجاهل مرور الزمن، فنحن أهملناه في سن الشباب، ثم تغاضينا عن مروره في سن الكهولة، ولا نعترف بأن قطار الحياة قد أشرف على نهايته إلا مُرغمين في سن الشيخوخة.

لكن هل مرور الزمن هو العامل الوحيد لتغيّرنا؟ يكتشف فهد وعادل وماجد، أن الحياة مراوغة أكثر مما تصوّروا، وأن الزمن ليس فقط هو المسؤول عن تغيّرنا، بل حتى الأحداث التي نمر بها مهما بدت هامشية، إلا أنها قد تُغيّر حياتنا إلى الأبد، وتجبرنا على التأقلم على هذا التغيير، والذي إن رفضناه سنمضي حياتنا تائهين داخل دائرة مُفرغة تبتلعنا من واقعنا في ظلمتها الحالكة.

قد نكون واثقين في قدرتنا على التأقلم مع أي تغيير محتمل، لكن الكاتب يخبرنا بأن كل شيء له ثمن، التأقلم له ثمن، والرفض له ثمن، وحتى الحياة لها ثمن باهظ.
      

داخل القلب... خارج الصندوق

  


  
اختيار عبد البصيص لموضوع روايته كان تغريدًا خارج صندوق الأفكار العربية، وإن كان الكاتب الأمريكي سالينجر قد برع في رسم شخصية المراهق الساخط على كل شيء من حوله مُعبّرًا عن شخصية المراهق الأمريكي في روايته الشهيرة "الحارس في حقل الشوفان"، فإنني أرى أن الكاتب الكويتي عبد الله البصيص قد أبدع في رسم شخصية المُراهق العربي الذي ينتهج منهج (فليذهب كل شيء إلى الجحيم في الخارج... وليبقى كل شيء على ما يرام داخل في المنزل!)

كتب عبد الله عن مرحلة تجاهلها الكثيرون من الكُتّاب العرب، رغم أنها تهمّنا جميعًا لأنها تُسلّط الضوء على طريقة تفكير الشباب في تلك الفترة الحرجة، لحظة الفوران البدني، ومحاولة فرض القوة، وإثبات الذات والسعي إلى مكانة مميزة ذات نفوذ.

هذه المرحلة الحرجة للأسف يُقابلها نوع من الإهمال من طرف الأهالي، لعلّ ذلك يرجع إلى عدم إدراكهم بخروج أبنائهم من عالم الطفولة، فيُرجعون أي تغيّر طارئ يُلاحظونه عليهم إلى براءة طفولية مندثرة، بل وقد لا يصدقّون احتمالية وجود دوافع شريرة لدى أبنائهم حتى وإن أخبرتهم الوقائع بذلك!

نرى في الرواية انطباعات الأهالي الساذجة -عن أبناءهم- والتي كانت إيجابية للغاية على مدار سنوات مراهقتهم. فعلى الرغم من أن المراهقين كانوا بارعين في إخفاء آثارهم خارج المنزل إلا أنه بقليل من الجهد كان من الممكن للأهالي إدراك ما يحاولون أبنائهم إبقاءه مخفيًا عنهم.

إن أكثر ما يحتاجه المُراهق في الحقيقة في هذا العُمر؛ هو التفهّم لما يمر به من تغيّرات عنيفة. 

يحتاج إلى أب صديق لا يقسو عليه حد الكسر، ولا يطارده في الشوارع، ولا يغلق معه باب الحوار. أب يقف على خط التماس بين التغافل والشدّة، بين الصَفْح والعتاب، بين التحفيز والتثبيط. لأن أخطر ما قد يواجه المراهق هو الإهمال والتجاهل، وكان هذا سبب رئيس في التطورات الدرامية التي حدثت لفهد وأصدقائه.
      
   

صَبْوَة كالعنقاء لا تموت


تأثرت بشدة بحنين فهد الجارف إلى مرحلة عمرية لم يعد في استطاعته الاستمرار في الحياة فيها. إلا أنه كان مثلنا جميًعا؛ نكبر في العمر ونحن نخفي توقنا إلى الماضي. هذا الحنين الذي نزداد تعلّقًا به بمرور كل يوم نعيشه.

سؤال فهد الذي دار في عقله وهو يمسك كُرَته الجديدة "ما الذي تغيّر؟"؛ أدمع عينيّ لأنه عاد بي إلى زمن كنت قد سألت فيه نفسي سؤالًا مُشابهًا، ومازلت لا أجد إجابة له حتى اليوم. وأظنني أيضًا قد قمت بما قام به عادل في الرواية... راح يكتب من أجل أن يفهم. لكنني لم أفهم رغم آلاف الكلمات التي كتبتها، إلا أنها ساعدتني في أن ألملم ذكرياتي الصغيرة قبل أن يطالها النسيان، كي أستمد منها بعض الدفء عندما تبرد أطرافي حين انحسار الناس من حولي في مستقبل آت.

ذكرياتي الصغيرة تقاطعت مع ذكريات عبد الله البصيص... حر الصيف... البيوت ذات الحوش... الحوائط ذات اللون الرملي... وجبة الكاكاو سنيكرز والبيبسي ... الجمعية.. صوت المُكيّف الذي يجبرك على الخمول... الجمعية... مطعم الأرنب الجائع... جهاز الفيديو سوني... مغامرات الفضاء جريندايزر، وبطلي المُفضّل دايسكي... جونكر والحلقة الأخيرة الحزينة. طوفان حنين جارف مليء بذكريات أيقونية، يقذفنا إلى ماضٍ لا يفهمه إلا من عاشه...
















   
  

جسّد الكاتب روح الكويت ببراعة، فجعلني أرى منطقة الفردوس (عين بغزي) بمحافظة الفروانية، بشوارعها وسِككها ومدارسها وساحاتها الترابية. غزل البصيص ذلك بتراث كويتي جميل ينضح بتقاليد وعادات أصيلة مثل القرقيعان والديوانيات ودِلال القهوة العربية والمناسبات الاجتماعية مثل الولائم والمعايدات.

   

  
لهذا كان من الصعب ألا أتأثّر برواية كهذه...رواية تُخاطب الروح فتُحيي فيها الذكريات من تحت الرماد.
    
   

مصفوفة واحدة... زوايا ثلاث... صراعات مُتعددة!


الرواية تُقدّم عدة صراعات مُتشابكة، ومُعقّدة وإن بدت على عكس ذلك. لكنني سأسلّط الضوء على صراعين رئيسين في الرواية.

الصراع الأول بين الصورة المرئية والكلمة المقروءة والكلمة المكتوبة، يُمثّل كل بطل من أبطال الرواية الثلاثة أحد أطراف هذا الصراع، فهد بتسجيلاته المرئية، وعادل بمذكراته المكتوبة، وماجد بقراءته للمكتوب.
  

   
إنه صراع واضح يوضح أزمة ماجد القارئ الذي يحاول أن يجد الترابط الكافي بين الصورة والكلمة من أجل وعي متكامل ضروري للعقل، واستقرار نفسي لازم للنفس. يتصارع كل طرف مع الآخر على هامش الأحداث حتى ندرك مدى أهمية التكامل من أجل الوصول إلى نقطة توازن للانسان.
  
  



يبث الكاتب مخاوفه في نفس بطله ماجد، والذي يخشى من اختزال الصورة للكلمة، مع اتجاه العالم الحديث إلى المحتوى المرئي والذي أثّر وبشدة على المحتوى المكتوب في هذا العصر، وتأثر الجيل الجديد بعواقب تتمثل في إدراك المعاني وترتيب الأفكار. 

إن التطرّف في اعتماد المحتوى المرئي كمصدر وحيد لاستقاء المعلومات أو للترفيه، سينعكس سلبيًا على مستوى اللغة لدى المُتلقي، وسيقوّض مُخيّلة الانسان مقابل صور مُحددة مفروضة عليه من مُقدّمي المحتوى المرئي.

تُرى هل يعود بنا الزمن إلى الوراء؟ هل من الممكن أن نعود إلى العصور القديمة التي كانت فيها الأيقونات والصور هي وسيلة التعلّم والتواصل الوحيدة، عندما كان الناس يجهلون القراءة، وكان تأويل الصور في يد السلطة الدينية أو السياسية؟ أو كما في عصرنا الحالي في يد من يملك المعلومات ومُحركات البحث العملاقة؟

لكن السؤال الأهم... هل ستُجفّف الصورة لغتنا فتنهار هويّتنا؟

سيصل ماجد إلى قناعة ما.... وسيخبرنا عنها في نهاية الرواية.





الصراع الثاني هو صراع الخير والشر، وكيفية التعامل مع الأخطاء التي قد يقع فيها الانسان. ونزاعه الداخلي بين إصرار على الخطأ بارتكاب أخطاء جديدة، وبين ندم ولوم يُحيل الانسان على اختيار جديد، هل يتسبب خطأه في انعزاله تحت وطأة الشعور بالذنب، أم تدفعه التوبة إلى حماية آخرين ممن يتعثّروا في خطأ دون قصد أو في لحظة غضب أو تضحيةً لإنقاذ آخرين!
    


     
   

أرواح سكنت الرواية


نجح عبد الله البصيص برسم شخصيات تعاطفنا مع بعضها وتحاملنا على بعضها الآخر، هناك بعض الأخطاء البسيطة –في نظري الشخصي- في تركيب شخصية أو اثنتين؛ وفي تبرير دوافعها، إلا أن أغلب الشخصيات كانت ممتعة مُقنعة.
     
   
فهد - كان يرغب فقط أن يظل عاديًا!

يقول مصطفى صادق الرافعي – إن الطفولة تكبر فينا ولا ندري، وقد فاجأ الزمن فهد -على حين غُرّة- بانتهاء مرحلة الطفولة، ورغم مقاومته العبثية لقانون الواقع، إلا أنه رضخ في نهاية الأمر إلى قبول الأمر ظاهريًا بعد أن ظل الطفل يعيش داخله منزويًا في الظل.
    

ماجد – عند الاختيار كان مجرد انسان!

يقول عباس محمود العقاد – الصدمات نوعان: نوع يفتح الرأس ونوع يفتح العقل. لم يشفع لماجد حُبّه للهدوء؛ أن تعصف به المفاجآت كعقاب على ميله للعزلة والانغماس في القراءة. تتشابه شخصية ماجد مع القارئ في تعاطفه مع فهد والشعور بالحنين الجارف لفترة الطفولة، وفي محاولاته لكشف غموض اللغز الذي يبحث عن حلّ له. لم تكن الشخصية مُحرّكة للأحداث وليس لها بصمة مميزة، وإنما انحصر دورها في دور ربط الأحداث ببعضها، مع تأثّر واضح-ومُبرَّر- بشخصية عمّه.

    
سعيد جونكر – السماء مأوى الطيبين

تقول هيلين كيلر- لولا القلوب الطيبة، لكانت الحياة قاسية لا تُطاق. شخصية لابد أن تتعاطف معها مهما كان دورها قصير في الرواية.

    
عادل - إذا فهمنا الخطأ وجدنا العذر


يقول أندرو كارنيغي – لا بأس أن نبكي قليلًا وربما كثيرًا، فبعض الدروس لا نستوعبها إلا وجعًا. أما عادل فقد احتاج أكثر من ذلك كي يستطيع استيعاب الأمر واستنباط وسيلة دائمة للتأقلم، فهل يستطيع الوصول إلى سلام نفسي؟ هل يمكن أن ينقل الدرس إلى الأجيال التالية؟ هذا ما سنعرفه بنهاية الرواية، أو بالأحرى ما لن نعرفه!

ملحوظة هناك خطأ ما وجدته في تركيب شخصية عادل، تحديدًا في نقطة المخدرات (لن أستطيع الشرح كي لا أحرق الاحداث) لكن هذه النقطة تحديدًا تبدو شاذة عن الشخصية، هذا إن لم يتعمّد الكاتب ذلك.

   
شِلّة الأصدقاء

يقول غازي القصيبي – سنوات المراهقة في حياة كل انسان، هي سنوات ضائعة لا معنى لها مسروقة من الطفولة والرجولة معًا.

صوّر عبد الله البصيص أفراد مجموعة من الأصدقاء في سنّ المراهقة، تُحرّكم هرمونات مُحفّزة لُحب السيطرة والتناحر، مُغيّبة عقولهم، مُنذرة أي فرد منهم بالطرد الفوري من الشِلّة -الـ(رَبْع)، مُلوّحة بتنمّر مرتقب لكل من يحاول اتّباع المنطق أو كل من ظهر عليه بادرة نُضج!

كانت التصوير رائعًا رغم ألمه. بالتأكيد هناك الكثير ممن لديهم ذكريات عن تفاصيل مثل التي صوّرها الكاتب، سواء كان في صف الطرف الأضعف أو في صف الطرف الأقوى أو ممن كان مجرد شاهد عيان! كيف يمكن السيطرة على من في هذا العمر؟ في رأيي أن المشكلة الرئيسة فيهم أنهم يحاولون الهرب بكل اندفاع من مرحلة الطفولة ليثبتوا رجولتهم، غير مُعترفين بالحالة الانتقالية التي يمرون بها، وكأنهم يرفضون الإقرار بمُراهقتهم. وقد صدق الراحل أحمد خالد توفيق عندما قال " المُراهق الذي يعتبر نفسه مُراهقًا، قد وضع قدميه على أولى درجات النُضج."

     

ضاد البصيص!

اللغة لدى البصيص قوية عميقة بلاغية، لابد أن تشعر بالمتعة أثناء قراءتها، ويبدو أن ذلك تحديدّا قد سَبّب لي مشكلة! أحسست أن اللغة كانت اقوى مما يحتمل النص، أو أنه ليس مُوظفًا بشكل سلس...

عبد الله البصيص يملك قلمًا مُذهلًا وقادر على رسم تعبيرات بلاغية ممتازة. لكنني رأيته تعدى ذلك فأرهقني كقارئ. هذا ليس انتقاصًا من قدرته بل على العكس تمامًا، قصدت أن هذه القوة شتّتني في محاولة التعايش مع الأسلوب مُبتعدًا عن الأحداث نفسها. وأظنه انحاز إلى شاعريته كشاعر كثيرًا في التركيز على اللغة.

ظهر ذلك بشكل واضح في بلاغة اللغة التي تحدث بها فهد والتي هي غير مبررة في رأيي، لأنها جاءت متكلفة بشكل غير منطقي بالنسبة للإنسان العادي عندما يتحدث. فلو كانت التسجيلات مكتوبة في شكل خطابات لكان ذلك مفهومًا لأن الإنسان يبدع في الكتابة ويُجمّل ما يكتبه ويُعدّل عليه، بينما لا يفعل ذلك عند التحدث. وأنا لا أقصد أن يستخدم الكاتب العاميّة في التسجيلات، وأنا ضد ذلك في الواقع.

التبرير الوحيد الذي قد يكون في صف الكاتب في هذه النقطة، أن يكون ماجد قد كتب القصة كلها في النهاية، وصاغ التسجيلات بأسلوبه هو وليس بأسلوب فهد. هكذا يكون الأمر منطقيًا.

     

عناوين وتسجيلات وروح جميلة


العناوين... اهتم الكاتب بالعناوين، وصرّح بذلك على لسان أحد أبطاله... كل شيء كان له عنوان في النص... التسجيلات، المُذكّرات، المحاضر، الفصول، الأفكار. أن تأتي بهذا العدد الضخم من العناوين لهو مجهود رهيب في رأيي.
   

التسجيلات... جاءت فكرة التسجيلات رائعة، ذكرتني بشكل ما برواية 13 reasons why، باختلاف المضمون والحبكة بالطبع، لكنني أحبب الفكرة حقًا. المشكلة التي واجهتها في التسجيلات كانت في شرح التصوير (شرح كيفية ظهور الأشخاص أو السيارات من حول فهد، وصف جلساته وسكناته) أفهم أن هذه التفاصيل تعزز الجانب المرئي في مُخيّلة القارئ، لكنها جاءت –في رأيي- مُعقدة ومربكة للغاية ولم أستطع التفاعل معها رغم محاولاتي العديدة.
     

أعجبني جمال روح عبد الله البصيص في تفصيلة الضابط العراقي الشريف الذي يساعد الأسرة الكويتية، لينتصر لفكرة أن الشعوب لا يمكن أن تُحاسَب على فعل شرذمة من المخطئين والحمقى، وأنه ليس من العدل أن نُحاكم الصالح بجريرة الطالح.

     


وهج أصيل... بريق مُستحَق

لدي اعتقاد بأن الروايات الغربية على الرغم من جودتها الرائعة، إلا أن الكثير من وهجها مُستمَدّ من قراءات نقدية للقُرّاء والنُقّاد؛ يُجمّلون القبيح، ويوضّحون المخفي، ويكملون الناقص، ويفصحون عن رمزيات لو تركوها لظل النص غير مفهوم قابعًا في ظلام النسيان. ولهذا تأتي الروايات العربية -الجيّد منها- ضعيفة الصيت رغم روعتها.

مشكلة الروايات العربية –أتحدث عن الجيّد منها فقط- أن النقد في بلادنا العربية جاف جدًا، حاد جدّا، أكاديميّ جدًا؛ ينظر إلى النص بنظرة الجرّاح إلى الجسد المُسجى أمامه على طاولة العلاج، غافلًا عن روح النص ورمزياته وما هو مُختفي بين سطوره. وعندما يحدث يذلك –ودون أن يقصد الناقد- يموت النص بين يديه!

أجمل ما في الروايات العربية أنها تحمل من ذاكرتنا الجمعية؛ فتكتب عنّا. وتستمد من عاداتنا المشتركة بريقًا يشعّ في عقولنا اندماجًا مع النص. فقط تحتاج من يكتب عنها ويشرح رمزياتها ويكشف جواهر مستترة وسط تراكم الغث من الكتب.

لي بعض التجارب الإيجابية مع الرويات العربية، ووجدت أن لها تأثيرًا رائعًا في النفس، ولا تقل جودتها عن مثيلتها الغربية، سواء في سردها أو تفاصيلها أو لغتها البلاغية أو رمزياتها المذهلة. ورواية قاف قاتل سين سعيد كانت منها.

    
   

اقتباسات


      
كان يؤمن أن الخطأ هو سبيل البشر الوحيد للترقي على صعيد الأخلاق والأفكار.. لولا الخطأ لكانت كل الأشياء على صواب.
     
الذي يلوم الانسان على خطئه، دون أن ينظر إلى ظروفه، كمن يلوم مقياس الحرارة على ارتفاع درجة الحرارة.
     
أريدك أن تعرف شيئًا واحدًا فقط؛ أنك مميز ليس لأنك رأيت شيئًا لم يره أحد من قبلك، بل لأنك الوحيد في هذا العالم الذي يكون أنت. 
     
القراءة فعل يعطي العقل حريته في الفهم، أما الصورة فتجبره، تُقيّده، تسوقه وراءها.
    
إن أثر الكتابة يفوق القراءة. في القراءة نحن نستخدم الكلمات، في الكتابة نصنعها.

    
أن الأفعال السيئة لا تعني أن فاعلها سيئ، ازرع في نفسك القناعة بأن الإنسان الصالح هو الإنسان الذي يؤمن أنه ليس سيئًا..


    

لماذا سن الطفولة هو الأجمل في عُمر الإنسان؟ لأن فهمنا للحياة فيها يكون محصورًا في الأشياء التي تسعدنا فقط، ونترك فهم الأشياء التي تزعجنا لأنها لا تعنينا، كلما كبرنا أصبحنا نريد أن نفهم الأشياء التي تزعجنا في الحياة؛ لنعالجها ونتجنّب فهم الأشياء التي تسعدنا لأننا نقلل من أهميتها، حالتنا لا تكون انعكاسًا لظروفنا، بل نتيجة ما نُفكّر به؛ لهذا تميل وجوه الأطفال إلى ملامح السعادة، وتميل وجوهنا إلى تعبيرات الانزعاج.

     
إن الحنين لا يكون إلا للأشياء التي لا يمكن أن تعود، والشوق لتلك التي تحتمل الرجوع.  لذلك فإن الحنين برودة اليأس والشوق حرارة الرجاء.
   

العقل والمُخيّلة يتبادلان حقيقية الأشياء، والكتابة والقراءة تجعلان الأمر أسهل.
   

الناس لديهم استعداد غريب لتصديق حدوث الشر، وعدم الاكتراث لأخبار الخير.

   
وعي الإنسان يعتمد على مصدرين العقل والمخيّلة، العقل مكون من كلمات، والمخيّلة مكونة من صور. التفكير هو عملية تحويل الكلمات إلى صور أو تحويل الصور إلى كلمات، والفهم هو إيجاد علاقة بين الكلمة التي في العقل مع الصورة التّي في المخيّلة، وهذا ما تفعله عندما تكتب ما تفكّر.
   
   

التقييم النهائي

    



   
هذه الرواية ستظل طويلًا علامة مهمة في عالم الروايات العربية، ليس فقط لقوة اللغة أو لجمال الحبكة أو جودة الشخصيات، وإنما لموضوعها الاستثنائي الذي اقتنصه الكاتب من بحر واقعنا الذي يبدو أن لا أحد يرغب في أن يصطاد منه شيئًا غير تقليدي!

  
تقييمي للرواية 4 من 5

     
   
أحمد فؤاد
15 نيسان أبريل 2020

google-playkhamsatmostaqltradent