تتهمني ابنتي
-ذات العشر سنوات- دائمًا كلما حاولت التحدث معها عن اللغة العربية وأهميتها،
بأنني شخص قديم جدًا وبأنني مُتعلقٌ بزمن ولّى واندثر، وأصبح من ذكريات التاريخ.
وبأنني شخصٌ عتيق لا أجاري العصر الجديد بأفكاره البرّاقة المثيرة. تدّعي بأنني من
عالم بالأبيض والأسود بينما العالم من حولنا مُبهر بالألوان. وتعجّبَت من تعلّقي
الغريب بلغة لم تستطع أن تصمد أمام التطوّر العالمي الذي نعيشه.
صارحتني
بأنها لا تحب اللغة العربية، فهي لغة لا تخاطبها ولا تجد فيها ما يحيط بها في
العالم. لغة لا تُقدّر ذكاءها وحُبّها للمغامرة والانطلاق. أفضت لي أنها لا تجد في
قراءة اللغة العربية أي متعة، لأنها لا تجد ما يناسبها فيها، فهي إما تخاطب طفل في
سن صغير جدًا، وإما تحاور ناضجين مثلي. لغة لا تجد في كتبها بهجة الحياة؛ فلا
أغلفة جذّابة، ولا أفكار عصرية، ولا محتوى ممتع مقارنة بالكتب الإنجليزية. ثم
أوضحت لي أن تعلّقي بالعربية يرجع كونها لغة قديمة تُناسب الكبار –وأنا منهم- والذين
تعدّوا مرحلة الشباب ولا يريدون من الحياة سوى الابتعاد عن ضجيجها والتنعّم
بالهدوء، وأن إصرار الكِبار على إرغام الصغار على القراءة بالعربية سيزيدهم نفورًا
وستأتي محاولاتهم حتمًا بنتائج عكسية!
بالعادة...
أنا لا أحب التورط معها في الحديث إلا بعد أن أستمع إلى كل ما لديها أولًا، لهذا تركتها
تتحدث بينما راح عقلي يُفكّر بسرعة خارقة كي أجد مخرجًا للمأزق الذي وقعت فيه. فأنا
أعرف بأن أي وسيلة – سوى الإقناع- لإجبار الانسان على تبنّي أي وجهة نظر هي مجرد
وهم، بل أن هذا هو الطريق الأكيد لزرع كراهية الشيء داخل الانسان وخاصة الطفل.
تأمّلت
حماسها في كلماتها والذي زاد من وجعي، لأنها -بذكائها الفطري- وضعت يدها على لُب
المشكلة التي نعاني منها منذ سنوات، لكنها لم تدرك بالطبع مدى عمق المشكلة، فالأمر
يتعدى حدود التغافل عن تطوير أدب الأطفال أو اليافعين إلى حدود إهمال تطوير اللغة
العربية نفسها.
أُلقي نظرة
سريعة على الكتب المرصوصة على رف مكتبها، الكثير منها بالإنجليزية وبعضها
بالعربية، تأسر ألوان وأشكال الكتب الأجنبية عيناي، وتجبرها على الإعجاب بها،
بينما تقف نظيرتها العربية جوارها باهتة تتسوّل نظرات يائسة، فأغلبها قد استُلهِمت
ألوانها من مثيلتها الأجنبية، بل وليس فقط الألوان بل أن أجملها شكلًا ومحتوى غالبًا
هي ما تكون بالأساس مُترجمة من الإنجليزية.
أؤمن بأن
أغلفة الكُتب تـُشبه ابتسامات البشر، فعندما أرى غُلافًا جذّابًا فأنا في الحقيقة
أتخيّله يبتسم لي، يدعوني لاقتنائه، لتمضية وقتًا مُسلّيًا ومفيدًا معه. أما
الأغلفة الرديئة تُشبه الابتسامة الصفراء كعنوان وجه مُتجهّم. وفكّرت إن كانت
ابتسامة الانسان في وجه أخيه صدقة، فلِمَ لا يتصدّق علينا المصممين ودور النشر
بغُلاف يبتسم لنا بكل حميمية!
أتذكّر في
الصيف الماضي عندما اصطحبتها إلى المكتبة لشراء كتاب، وكنت قد اتفقت معها أن تشتري
كتابًا عربيًا تلك المرة. رضخت لشروطي رغم استيائها الواضح، فحاولت تلطيف الوضع
بأن وعدتها بأنني لن أجبرها على شراء ما لا تحبه، وتعهّدت أمامها بأن أساعدها في
اختيار قصة ممتعة. وافقت على مضض ورافقتني بلا حماس تقريبًا. لكنني كنت أثق في
نفسي... أكثر من اللازم في الواقع!
سألت مُشرفة
المكتبة عن قسم الكتب العربية لليافعين فأشارت إلي ركنٍ منزوٍ. تقدّمت بخطوات
واثقة إلى ركن الكتب، وشعرت مع نظرات استطلاعي له بأن كل خطوة تُقرّبني إليه يتسرّب
معها جزءً من ثقتي!
ظننت في
البداية أن هناك خطأ في تصنيف الكتب، لأنني وجدت أغلبها يصلح لسن الخامسة أو السابعة،
وأنها لا تناسب أبدًا سن ابنتي. فوضّحت للمُشرفة أنني قصدت المرحلة العمرية من 10
إلى 14 عام. لكنها أكّدت لي بأنني في المكان الصحيح! طلبت منها أن توجّهني إلى
الركن الخاص بالفئة العمرية التالية، وعندما ذهبنا إلى هناك وجدت أن الكتب فيها
تناسب سن الخامسة عشر وما فوقها!
تصنّعت الجهل
بذلك وتظاهرت بأنني أبحث عن كتاب مناسب لها رغم أن كل ما رأيته كان يفوق إدراكها ومفاهيمها،
لمحت بطرف عيني ابنتي وهي تُقلّب الكتب وعلى وجهها امتعاض لم أخطؤه. عثرت على
كتابين أو ربما ثلاثة، بدا لي أنه من الممكن أن يكونوا مناسبين إن ساعدتها في قراءتهم
وشرح ما يصعب عليها فهمه فيها. رشحت لها مُحبطًا ما وجدته، أمسَكَت بهم، ثم ألقَت
نظره على أغلفتهم سيئة التصميم، قرَأَت النبذة على الغلاف الخلفي لكل منهم، تصفّحت
الكتب لبعض الوقت. لم أسألها عن رأيها، وانسحبت مُتظاهرًا ببحثي عن مزيد من الكتب،
تركتها ما يُقارب من ربع الساعة قبل أن تعيدهم لي وأنا أرى في عيونها التوجس.
فخمّنت أنها كانت متحسّبة أن أجبرها على شراء كتاب منهم.
أخبرتني في
خيبة أمل أنها لم تجد فيهم ما يلائمها، وقالت في إخلاص:
-
صدّقني... أنا لا أتهرّب، لقد حاولت لكن ليس
فيها ما يثير حماستي لقراءتها.
وضعْت الكتب
في مكانها، ثم ابتسمْت لها مؤيّدًا:
-
أتدرين؟ لم أكن لأشتري أيً منهم لو كنت في
مكانكِ.
خرجنا يومها
من المكتبة دون العثور على كتاب يناسبها، ومررنا على بعض المكتبات الأخرى، لينتهي
اليوم دون شراء أي كتاب!
وعلى الرغم من إحباطي يومها، إلا أنني لم أُظهر لها ذلك
على الإطلاق، لأن هدفي كان مساعدتها في أن تحب الكتب وتندمج في قراءتها، والحياة
قد علَّمَتني أن الحب لا ينبت في القلب بالإجبار؛ وإنما بالاختيار الحُر. لهذا
فكنت أعرف أنها لن تُحب أي كتاب إلا إن تناغم محتواه مع ذائقتها.
وكم كنت
سعيدًا عندما أدركت لاحقًا أنني قد كسبت يومها ثقة ابنتي.
اكتشفت ذلك
عندما دخلنا أنا وهي إحدى المكتبات -دون تخطيط مُسبق- أثناء تسوّقنا في أحد المجمعات
التجارية؛ كنت أرغب في شراء كتاب لي. وأثناء بحثي عنه، فوجئت بها تسألني وهي تمسك
بكتاب قصصي... ما رأيك في هذا الكتاب؟ تأمّلت غلافه الجميل المُلوّن ونظرت إلى اسم
المؤلّف الفرنسي الشهير، تصفّحته ووجدت الترجمة ممتازة. ابتسمت لها قائلًا... إن
أعجبكِ سأشتريه لكِ الآن. هزت رأسها موافقة قبل أن أشتريه لها.
سألتني بعد
بضعة أيام... لماذا لا توجد قصصًا جميلة عصرية بأقلام عربية؟ كدت أجيبها بأنه
بالتأكيد هناك الكثير منها، لكنني تراجعت عندما تذكّرت زيارتنا السابقة للمكتبة. فطلبت
منها مُهلة كي أُثبت خطأها، وبأن أبحث لها عن قصة عربية عصرية ممتعة.
كنت أعرف
أنها مُحقّة؛ لأن الكتب الأدبية القصصية الخاصة بفئتها العمرية شحيحة للغاية في
وطننا العربي في عصرنا الحالي. وذلك على عكس أيامي التي كنت أجد فيها وفرة من أجمل
القصص، مثل ألغاز المغامرون الخمسة، وسلسلة رجل المستحيل وملف المستقبل وأعداد
ماوراء الطبيعة، وذلك على سبيل المثال لا الحصر. حتى القصص الجميلة القديمة في تراثنا
العربي لم يتم إعادة كتابتها بأسلوب عصري مناسب لهذا الجيل المتطوّر الذي يتعامل
مع الهواتف والكومبيوتر قبل أن يتم عامان.
وأثناء بحثي
عن مخرج للمأزق الذي أوقعت نفسي فيه، خطرت لي فكرة مدهشة. وعلى الرغم من صعوبتها
إلا أنني قد عزمت على تنفيذها فورًا.
وكانت أولى خطوات التنفيذ هي التوقف عن الانتقاد، بعد أن أدركت أن الانتقاد لن يُصلح العالم.
لكن هذا سأتناوله في مقالي التالي
أحمد فؤاد
16 كانون
الثاني يناير 2020
Book photo created by drobotdean - www.freepik.com