random
أخبار ساخنة

هل تستطيع قراءة هذا المقال؟




ليس هناك خدعة ما، أنا فعلًا أتساءل إن كُنت -أيها القارئ- تستطيع قراءة هذه المقال كاملًا أم لا. قد يبدو لك تساؤلي سخيفًا لكنك إن عرفت سببه، قد تتفق معي فيما ذهبت إليه؛ بل ولعلّك ترسل هذا المقال لصديق لك لتسأله نفس السؤال.



عندما بدأت بكتابة مقالاتي، كنت أنشرها بين الأصدقاء ليعطوني رأيهم فيها، لاحظت أن أقل من نصفهم فقط هم من يقومون بالرد عليّ، بينما يُثني نصف هذا النصف (الربع) على ما أكتب، دون محاولة التطرق إلى ما هو مكتوب. أما من يناقشني في موضوع المقال فأقل من عُشر من أرسلت لهم!

في البداية ظننت أن ضيق الوقت هو السبب في عدم استطاعة إطلاع الكثير منهم على ما كتبت، وفكّرت أنهم بالتأكيد يعانون -مثلي- من تزايد الالتزامات والضغوطات المحيطة بنا في الحياة. وخمّنت أن بعضهم قد فضّل أن يمسك العصا من المنتصف فيمدح ما كتبته رغم أنه لم يقرأه بالأساس! ولأنني أُقدّر لهم رغبتهم الصادقة في دعمي؛ فقد اتّبعت مبدأ الراحل د. أحمد خالد توفيق " دعني أخدعك... دعني أنخدع"، فشكرتهم على قراءتهم فنصحوني أن أستمر لأنهم معجبون بما أكتب!

بمرور الوقت، لاحظت أن جميع من لم يرد على مقالي من فئة أصدقائي ومعارفي؛ والذين توقعت أنهم مشغولين بمشاكل الحياة الكثيرة، لاحظت أنهم موجودين بشكل مستمر على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة. فقررت أن أبدأ في متابعة رد فعلهم بتمعّن مع المقالات التي نشرتها لاحقًا، فوجدت تجاهلًا تامًا لمناقشة محتوى المقال أو حتى تعقيبًا عليه؛ وذلك رغم تفاعلهم مع أي منشور لي بخلاف المقالات. وبسبب وجودهم وتفاعلهم المكثف على منصات التواصل الاجتماعي، ولأن أذواق الناس تتباين؛ فقد ظننت أن ما أقدمه لا يروق لهم أو لا يناسب أذواقهم.

Photo by freestocks.org from Pexels


اعتقدت في ذلك حتى قابلت أحد هؤلاء الأصدقاء. في أثناء حديثنا تطرقنا إلى مناقشة موضوع ما، كان متحمسًا جدًا تجاه ذلك الموضوع. توقّف عن الكلام وهو ينظر لي في توجّس ثم سألني عن سبب صمتي وابتسامتي، فأخبرته بأنني قد كتبت عن ذلك الموضوع منذ بضعة أسابيع وأرسلت له المقال، والغريب أنه قام حينها بالضغط على زر الإعجاب دون أي تعليق على المحتوى، والذي كان من الواضح أنه لم يقرأه. اعتذر لي وهو يشعر بالحرج، لكن الفضول كان ينهشني كي أعرف لماذا لا يقرأ مقالًا يثير اهتمامه بالفعل ويناسبه تمامًا. فسألته عن ذلك فرد أنه لا وقت لديه للقراءة، فهو يقضي وقتًا طويلًا في العمل قبل أن يعود إلى المنزل مُرهقًا ليتناول العشاء ثم يجلس أمام التلفاز رغم أنه ذهنيًا لا يعرف ما يدور على شاشته، حتى يغلبه النعاس فينام بضعة ساعات ثم يصحو ليبدأ اليوم التالي بنفس الروتين.

  
فاجأته بأنني لاحظت وجوده شبه الدائم على منصة من منصات التواصل الاجتماعي الشهيرة صباحًا ومساء، وأنه يشارك بشكل مُكثّف سواء بنشر منشورات أو بالتعليق على منشورات الآخرين والتفاعل معها. فأجاب بأن متابعة المنشورات أو التعليق عليها لا يستهلك الكثير من الوقت، فهو لا يقضي سوى ساعة أو ساعتين على الأكثر على هذه المنصّة! نظرت له مُطوّلًا قبل أن أوضّح له بأن المقال لن تستغرق قراءته أكثر من خمس عشرة دقيقة فقط.

تردد قبل أن يخبرني بأنه حتى وإن وجد موضوعًا يثير اهتمامه، فإنه لا يميل إلى قراءة مقالات عنه، بل يلجأ إلى المحتوى المرئي في فيديوهات منصة اليوتيوب، أو المحتوى السمعي مثل البودكاست أو البرامج الإذاعية، أو حتى منشورات الفيسبوك أو تويتر. خُيّل لي أنني فهمت المشكلة لكنني كذّبت حدسي فأخبرته مُعلّلًا أنه قد يكون انسانًا بصريًا أو سمعيًا يُحب متابعة المحتوى المرئي أو الصوتي لأنهما الوسيلتان اللتان يستطيع أن يتلقط من خلالهما المعلومات بشكل أفضل. لكنه أحبطني عندما اكتشفت أن حدسي كان صائبًا.

اعترف لي صديقي أخيرًا أنه يخشى المقالات ويتحاشاها لأنه يراها مُعقّدة تحتاج منه إلى مجهود كبير من أجل التركيز فيها. وبالرغم من أنني أحرص دومًا على استخدام الكلمات البسيطة، إلا أنه أكدّ لي بأنه لا يستطيع فهم بعض الكلمات أو الأساليب إلا بعد قراءتها أكثر من مرة. وهذا لا يعانيه مع منشورات مواقع التواصل الاجتماعي لأنها تستخدم اللغة العاميّة الدارجة، لهذا فهي بسيطة سهلة سريعة الفهم وأقرب إلى النفس.
   
  

   
  

دفعني حديثه ذلك إلى أن أسأل بعض الأصدقاء الآخرين ممن لم يردوا على المقال، أو ممن قام بالإعجاب به دون تعقيب. أتتني الإجابات التي كان قليلها صريحة وكثيرًا منها مختفية بين كلماتهم. كانت إجاباتهم صادمة لي، فأنا لم أتوقع أن يعزف الناس عن القراءة لأنهم لم يعودوا يستطيعون استيعاب مفردات اللغة البسيطة. لكن يبدو أنني كنت ساذجًا؛ فكيف لم أقدّر تفاقم هذه المشكلة مع العديد من التحوّلات التي تحيط بنا في الفترة الأخيرة من تحوّل الصحف الرسمية إلى الكتابة بالعاميّة الدارجة، وانتشار الإعلانات التجارية المكتوبة بلغة عاميّة لكسب مزيدًا من التعاطف والارتباط بالمستهلك والذي أصبحت لغته العربية غريبة عنه.

 إننا نعلم بأن الممارسة لازمة من أجل أن يستمر العقل في إتقان أي عمل ذهني أو أية مهارة مكتسبة. فإن غابت؛ أهملها العقل وتناقص أداؤه فيها. غابت اللغة العربية الفصحى عن آذاننا ثم عن أعيننا فأهملتها عقولنا وأصبحت بعيدة غريبة عنّا. ولا أدري كيف يهملها ويتجاهلها الكثير، رغم أن الله تعالى قد اختارها كي تكون لغة للقرآن، لغة لرسالته الخاتمة إلى أهل الأرض. فكيف نهجر هذه اللغة بإرادتنا؟!


إن كان هذا حال الناضجين، فما هو المستقبل المُتوقّع للجيل القادم. فنظرة واحدة لأطفالنا سندرك مدى الكارثة اللغوية التي نحن على مشارفها بل نحن في قلبها بالفعل. هؤلاء الأطفال سيُحرمون بالكامل من تاريخهم وآثار أجدادهم، سيفقدون إرثهم الثقافي الأدبي والتاريخي والاجتماعي، سيفقدون احترامهم لهويّـتهم عندما يلمسون عزوف آبائهم عن لغتهم وإهمالهم لها. سينسحقون داخل دوّامة العولمة التي ستجعلهم مسوخًا يتحدثون بلغة واحدة دخيلة، وتسري بداخلهم ثقافة شعب آخر.

يقول مصطفى صادق الرافعي رحمه الله:
   

ما ذلَّت لغةُ شعبٍ إلَّا ذلَّ، ولا انحطَّت إلَّا كان أمره في ذهابٍ وإدبارٍ، ومن هذا يفرض الأجنبيُّ المستعمِر لغتَه فرضًا على الأمَّة المستعمَرَة، ويركبهم بها، ويُشعِرهم عظمته فيها، ويستَلحِقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكامًا ثلاثةً في عملٍ واحدٍ: أمَّا الأول فحَبْس لغتهم في لغته سجنًا مؤبَّدًا، وأمَّا الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتل محوًا ونِسيانًا، وأمَّا الثالث فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرُهم مِن بعدها لأمْره تَبَعٌ.- من كتاب وحي القلم


   
   

إن كنت قد وصلت إلى هذا السطر من المقال فأنت تشبهني ولديك الكثير من مخاوفي، لهذا أطلب منك أن تساعدني كي ننشر أي محتوى عربي فصيح بأي شكل من الأشكال، حتى ولو كان منشورًا واحدًا فقط على منصة التواصل الاجتماعي.

أطلب منك أن تساعد أطفالك في تعلّم الفصحى.. شجّعهم على التعبير عن أنفسهم باستخدام العربية.

اجعل تعلّمهم ممتعًا ... تعلّم أنت معهم... اشتر لهم كتابًا مصوّرًا ثم اقرأه معهم، قم بتحفيزهم بهدية أو بمكافأة... شاركهم واقض وقت التعلّم معهم ولا تترك ذلك للمدرسة فقط، فيجب أن يعرف الطفل أنك تحب لغتك وأن يؤمن بأنك تفتخر بهويّتك.

افتخارك بهويّتك هو المفتاح لقبول طفلك تعلّم اللغة.... تتساءل كيف؟

قد أخبرك عن ذلك في مقال آخر بإذن الله؛ أحكي فيه عن محاولاتي الحثيثة مع ابنتي من أجل زرع حُبّها لهويّتها، رغم كل محاولات الآخرين للسخرية منها... ومِنّي!

أحمد فؤاد - 7 كانون الأول ديسمبر 2019


author-img
أحمد فؤاد

تعليقات

4 تعليقات
إرسال تعليق
  • Linda photo
    Linda7/12/19 12:50 م

    الموضوع فعلا في الصميم ومثلما تعودنا دائما منك بطرح مواضيع جوهرية ونواجهها في حياتنا اليومية حتى لو لم نكن قد دققنا فيها جيدا وبالنشبة لهذا الموضوع للأسف ف إن الكثير من الناس في وقتنا الحالي يعتبرون أن تجاهل اللغة العربية والتركيز على اللغات الأخرى هو قمة التطور والثقافة وهو ما أعترض معه شخصيا مع احترامي لكل الناس بمختلف تفكيرهم
    لذا شكرا جزيلا على جهودك المثابرة والدائمة في الإثراء والنهوض مجددت باللغة العربية لغتنا ولغة القرآن الكريم

    حذف التعليق
    • Ahmad Fouad photo
      Ahmad Fouad8/12/19 8:33 ص

      بالتأكيد نظام العولمة الاستهلاكية الذي نعيشه قد ساعد على ظهور هذا السلوك. لكن الكثير ينبهرون بالوجه البرّاق له دون الانتباه إلى خواء مضمونه.

      شكراً لمروركِ ليندا 🌹

      حذف التعليق
    • Mustafa photo
      Mustafa9/12/19 8:24 ص

      للأسف العالم حولنا يتغير بطريقة غريبة، تكاد لا تستطيع التأقلم حتى يتغير مرة أخرى..
      لغتنا العربية هويتنا؛ وعندما أقول هويتنا فأنا اقصد تلك الكلمة بالمعنى الحرفي. بدون لغتنا سنصبح مجرد "others" لا قيمة لنا ولا مميز.
      فاللغة مسؤوليتنا، وتلقينها وزراعتها في أنفس فلذاتنا مطلب.

      أسلوب المقال سهل ممتع، ولم يأخذ مني أكثر من خمس دقائق قراءة، لذا عندما تخيلت أن هناك شخصاً عربياً لا يستطيع قرائته تيقنت من حجم الكارثة التي تنتظرنا.

      حذف التعليق
      • Ahmad Fouad photo
        Ahmad Fouad9/12/19 10:15 ص

        شكرًا مصطفى على إثرائكِ للمقال برأيك.

        إن تغيّر العالم السريع يجعلنا نغيّر بالتبعية طريقتنا في التعلم أو التعليم بشكل يناسب هذا العصر.

        أصبت عندما وصفتنا بالآخرون، بالفعل.. إن مسح الهوية يلزمه محق للهوية وتعميق الشعور بالاغتراب اللغوي، حينها لا يبقى لمن ضاعت من هويته سوى الانقياد.

        أشكرك لقراءة المقال، وآمل أن تكون قد وجدت فيه كلًا من الفائدة والمتعة.

        مودّة،،،
        أحمد

        حذف التعليق
      google-playkhamsatmostaqltradent