نمر جميعًا
بصدمات مختلفة في رحلة حياتنا، تختلف شدتها وحدّتها وتأثيرها من شخص لآخر،
حدث مُفجع يطيح بحالة الأمان لدينا، خلل في التوازن النفسي يجعلنا في حالة
نفسية غير مُستقرة، تؤثر على قدرتنا على اتخاذ القرارات المناسبة.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل نستطيع الوثوق في قدرتنا وقوانا العقلية في مواجهة ومقاومة آثار تلك الصدمة؟
تبدو الإجابة غاية في السهولة، لكنها ليست كذلك على الإطلاق، فمشاعر مثل
الألم والحزن والفقد والكرب والرعب والكبت والعجز كلها مشاعر لا يستطيع
المرء الهروب منها، سيكون بعضًا منها أو كلها حاضرة في يوم ما في حياتنا،
مخفية بمهارة في ثنايا الزمن. نظن كثيرًا أننا قادرون على مواجهة الصعاب
والمصائب، لكننا عندما نواجهها حقًا، وفي لحظة الصدمة ندرك حينها كم نحن
ضعفاء!
فمهما كان عمر الانسان الذي يواجه الصدمة، فلا
يقلل ذلك من وقع الألم النفسي عليه حين حدوثها، التعرض للأحداث المروعة مثل وقوع حرب
أو عمليات الإبادة الجماعية، أو عمليات الإجلاء القسري والنزوح، أو الكوارث الطبيعية
بما تحمله من مشاهد موت ودمار. أو حتى الأحداث
المؤلمة على المستوى الشخصي مثل فقدان الأهل أو شخص عزيز أو التعرض لعنف أو اعتداء
ما، وأحداث غيرها قد تبدو أقل مأساوية … لكنها كلها قد تضع الواحد منا في حالة من
العجز الشديد الذي يمنعه من تجاوز تلك المحن وتسبب له أزمات نفسية عميقة.
يقول الله تعالى ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۞ ﴾ [البقرة: 156-157]]
ويقول النبي صلى الله عليه وسلّم في حديثه الشريف (إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى) رواه البخاري
لاشك أن الإيمان القوي لهو من أفضل
العلاجات النفسية التي تفيد أثناء مواجهتنا مصائب مُفجعة، لكن من قال أن الصبر شيء سهل؟!، إن الشدائد والمصائب نوع من
أنواع الابتلاءات التي تزلزل النفس قد يفقد معها الناس رشدهم وتوازنهم، ولعل أخطر
مرحلة يمر بها الإنسان أثناء مواجهة تلك الصدمات هي اللحظات الأولى من الصدمة… تلك
اللحظة الحرجة.
تكمن أهمية وخطورة
الفترة التي تعقب الصدمة، في أنها قد تكون مؤشرًا مهمًا في التنبؤ بشدة اضطرابات
ما بعض الصدمة والذي يُعرف بمصطلح PTSD – Posttraumatic stress disorder،، تظهر هذه الاضطرابات كرد فعل على
التغيرات الكيميائية في الدماغ بعد التعرض لأحداث مؤلمة. نعتقد خطئٍا بأن شخصًا ما قويّ سيكون قادرًا على تحمّل الصدمة،
أو أن نقول لمن يمر بصدمة ” كن رجلًا واثبت في هذا الموقف، وكأن الأمر بمثل
هذه البساطة، إلا أن هذا ليس صحيحًا للأسف. فكم من مرة وجدنا شخصا ناضجا ورزينا
لكنه أثناء الكارثة لا يستطيع احتمال وقعها عليه، وكم من مرة صادفنا فيها إناسًا
ظنناهم أول من سيفقد عقله في حالة المرور بصدمة أو كارثة، إلا أننا نتفاجأ بأنهم
أكثرنا ثباتًا وتماسكًا! إذن علينا أن نعرف أن متلازمة اضطرابات ما بعد الصدمة لا
تنتج نتيجة لخلل أو ضعف في الشخصية.
حسنًأ… إن كان
كثير مِنّا على هذا القدر من الضعف أثناء الهزّة النفسية القوية الناتجة عن صدمة ما،
فمن البديهي أن نتساءل هل سنجد بجوارنا من يساعدنا على تخطّي هذه اللحظة؟
أيضًا… تبدو الإجابة على هذا السؤال بسيطة، لكن مع بعض
التفكير في الأمر، أدركت أنه من المهم وجود أحد بجوارنا أثناء المحنة، لكن الأهم أن يكون ذلك
الشخص قادر بالفعل على التخفيف من الألم النفسي الناتج عن المعاناة التي نمر بها. لأننا
قد لا ننتبه إلى أن وجود شخص يجهل كيفية التعامل الصحيحة أو يتعمّد الإساءة إلينا
في تلك الأوقات تحديدًا قد يُعمّق من المشكلة ومن آثار الصدمة لتتحوّل إلى أزمة
نفسية قد تلازمنا مدى الحياة.
نفهم مما سبق
مدى أهمية اللحظات الأولى عند تلقي الصدمات، وأهمية المحافظة على سلامة
عقولنا في
عصرنا الحالي الذي تملؤه ضغوطات الحياة، بالإضافة إلى عدم معرفتنا
بأساليب المساعدة السليمة لأقرب الناس لنا. و من هنا تظهر الأهمية الشديدة
لدورة
الإسعافات النفسيّة الأولية، والدورات المُشابهة لها، فالدورة في الأساس
مُصمّمة
لإعداد الأشخاص العاديين للاهتمام والإعتناء ومحاولة احتواء الأشخاص الذين
تعرضوا
إلى مواقف مُفجعة، وتعليمهم كيفية التعامل مع المصابين عن طريق تقنيات
مُحددة، ، وتقييم الحالات الصعبة منهم وتحديد أولوية المساعدة و تقديم
الدعم النفسي
للمصابين، وفرز الأشخاص الذين يحتاجون بالفعل إلى تدخل طبي نفسي لتسليمهم
للمراكز
المتخصصة، وذلك في الساعات الأولى من الصدمات والكوارث.
مع
التشديد بأن دورة الإسعافات الأولية لا تمنح مجتازها أي درجة علمية، ولا
تجعل منه مُسعفَا ولا تعطيه الحق في تقديم أي علاج نفسي لأي مصاب.
تقدم الدورة
آلية مُكوّنة من خمس مراحل، يُرمز لها باختصار RAPID المرحلة الأولى وهي
التواصل Rapport. المرحلة الثانية تقييم الحالة
النفسية Assessment ، المرحلة الثالثة تحديد الأولوية بين المصابين
Prioritization،
المرحلة الرابعة التدخّل بالمساعدة Intervention، والمرحلة الخامسة
والأخيرة هي التعامل مع المصاب والمتابعة معه وتقديمه للمراكز العلاجية إن
كان يحتاج
إلى ذلك Dispositioning .
أهم هذه المراحل في رأيي الشخصي هي المرحلة
الأولى… التواصل Rapport. والمقصود به إنشاء علاقة
وثيقة بين المُسعف والمُصاب غنية بمشاعر التقدير والتفهّم لمحنته، مما يخلق علاقة
تواصل جيّدة. هذا التواصل أساسه الاستماع الفعّال. مع العلم بأن الاستماع الفعّال ليس هو الإنصات.
إذن ما هي
الطريقة المثلى للاستماع؟ الاستماع هنا يشمل نوعين… الاستماع الفعّال Active listening،يُطلق على هذا النوع من
الاستماع مُصطلح Ha – listening ، ويُقصد به الإنصات مع إظهار التعاطف مع الطرف الآخر
سواء بإصدار همهمات أو بالإيماء بالرأس.
النوع الثاني هو الاستماع المعاكس Reflective listening،
وهو الإنصات إلى كلمات الشخص المصاب واستخراج الفكرة التي تدور في ذهنه، ثم
استخدام كلماته وإعادة صياغتها بشكل مناسب لإعادة إلقائها عليه مرة أخرى مما يعطيه
انطباعًا بأن المُسعف يُقدّر حالته ويتفهّمها، مما يؤدي إلى التخفيف من حالة
التشويش التي يكون عليها عقل المصاب. وتُسمى هذه الطريقة ب Paraphrase.
إذن… ما علاقة الأدب إذن بما سبق؟
عندما كنت
أدرس المادة التعليمية للدورة، قرأت كيف قد تم التأكيد على أهمية التفاعل مع
المصاب، وضرورة إظهار التعاطف معه ووجوب التأكد من أن ذلك الإحساس قد وصله. لكنهم
أشاروا أيضًا إلى ضرورة التمييز بين مفهومين من التعاطفSympathy و Empathy
النوع الأول Sympathy هو بمعنى الشفقة، أو الأسف من أجل الآخرين،
وهذا النوع غير جيد على الإطلاق في التواصل مع الأطراف الأخرى، كما أنه بالتأكيد
سيزداد غضبهم أو يزيد حالتهم سوءا في حال إظهار تلك الشفقة.
النوع الثاني وهو Empathy، ومعناه التعاطف، أي القدرة على فهم الطرف
الآخر وتبنّي وجهة نظره، وتجنّب إطلاق الأحكام، والمشاركة الوجدانية للشعور الذي
يحس به، وهذا هو النوع الموصى به للتعامل مع الآخرين خاصة في أثناء محنتهم.
هناك فيديو قصير رائع مُترجم إلى العربي على موقع يوتيوب أنصح بمشاهدته لشرح الفرق بين Sympathy و Empathy، ستجدون الرابط أدناه:
وماذا عن الرواية؟
خلال رحلة
حياتي… … لم أجد شيئا يحث على التعاطف مع الآخرين
وتعزيز فهم وإدراك معاناتهم، مثلما يفعل أدب الرواية. فنحن عندما نقرأ رواية ما…
فإننا نعزز الجانب الإنساني فينا من خلال تقمّصنا للشخصيات الروائية، حيث نستطيع
العيش بروح تلك الشخصيات والرؤية بعيونهم ومعايشة مخاوفهم وآلامهم.
تلفت انتباهي
دومًا كلمة فوبيا… أو
الرهاب… ومعناه الخوف غير المبرر من شيء ما بشكل غير منطقي، مثل الرهاب من
الأماكن المُغلقة أو من المرتفعات، و قد قرأت عنهم في بعض كتب علم النفس،
بل وقد
رأيت بعيني أشخاصًا أعرفهم كانوا يعانون بعرض الخوف والابتعاد المؤقت عن
الناس temporarily phobic avoidance . كنت أشعر بالأسى من أجلهم، وكنت
أتساءل… كيف يخافون بهذا
الشكل المرضي من أشياء غاية في البساطة لدى أغلب الناس؟ عندما كنت أحاول
مساعدة
أحدهم كان الفشل دومًا من نصيبي فأرجعت ذلك إلى مدى سوء حالتهم التي تجعلهم
غير
راغبين في المساعدة.
كان ذلك قبل أن أقرأ
مصادفة بعض الروايات التي كان أبطالها يعانون من الرهاب أو الفوبيا، عندها أدركت
مُتاخّراً مدى سذاجتي عندما كنت أحاول تقديم المساعدة لهم وأنا لا أفهم ما يدور في
عقولهم! سألت نفسي… كيف كنت أظن أنني سأساعدهم حقًا وأنا لا أعرف كيف يرونني أو
كيف يرون العالم من حولهم؟ جعلتني الرواية في مكانهم، فرأيت ما يرون وخفت مما
يخافون، وعايشت ألمًا وفزعًا على حالهم عندما نظرت إلى العالم من منظورهم.
بل وقد فوجئت بأنواع
من الرهاب التي لم تخطر لي على بال من قبل، مثل الرهاب من الأماكن المفتوحة،
والخوف من سقوط السماء فوق رؤوسهم! مثلما عانت الدكتورة آنا بطلة رواية امرأة في
النافذة للكاتب دان ماللوري، وعرفت أيضًا نوعا غريبا من الرهاب وهو فوبيا
الحمَام… نعم الحمَام… ذلك الطائر اللطيف. بل وفوجئت بأن الخوف من الطيور
يُعتبر في المركز السابع على قائمة الفوبيا على مستوى العالم، ذلك الرهاب الذي
قاسى منه الكهل جونثان بطل رواية الحمامة للكاتب باتريك زوسكيند.
قد يعتقد البعض أن الدورة غير مُهمّة، خاصة
في بلادنا التي تندر فيها الحوادث الكارثية من زلازل وأعاصير وبراكين. لكن في رأيي
أن الهدف الأساسي ليس في مساعدة الناس في تلك المواقف فحسب، فهناك مئات المواقف
التي أشرت إليها في بداية حديثي، والتي تعتبر كارثية لحياة الفرد الواحد، مثل
حالات الفقد أو الإرهاب أو الاعتداء أو حتى الانفصال، بالإضافة إلى حالات الرهاب
ونوبات الذعر Panic
attacks وحالات القلق Anxiety
التي قد تحيل حياة الشخص إلى جحيم.
إن الهدف الحقيقي لمثل هذه الدورة هو خلق الوعي لدى الأشخاص العاديين، كي
يستطيعوا تقديم المساعدة بشكل فعّال لمن يواجهون لحظات عصيبة في حياتهم، بل قد
تكون هي أسوأ لحظات حياتهم بالفعل.
الصحة العقلية هي من
أكثر الأشياء صعوبة سواء في التكهّن باعتلالها أو في كيفية معالجتها. لكن مجرد
معرفتنا بوجود أفراد من حولنا يستطيعون تقديم المساعدة في حال وقوع حادث لنا،
يجعلنا ذلك نشعر بشيء من الأمل في أننا نستطيع معًا أن نجتاز مثل تلك المحن إن
حدثت لا قدر الله.
ملحوظة1:
قمت بتسجيل الحلقة صوتيَا على قناتي “عندما أقرأ” على موقع يوتيوب Youtube وعلى موقع ساوند كلاود Soundcloud، وتستطيعون الاستماع لها من خلال الروابط التالية: