هذه عبارة تردّدت في عقلي كثيراً في الفترة الأخيرة، حياتي اليومية أصبحت مليئة بالتفاصيل، بل الكثير من التفاصيل. الكثير إلى الدرجة التي لا تكفي إلى التفكّر فيها وترتيبها في العقل للتعامل معها بشكل سليم. أعتقد أنني لست وحدي الذي أرى الأحداث جداً متلاحقة، والتي تبدأ منذ أن نفتح عيوننا لاستقبال يوم جديد؛ سرعة فائقة للانتهاء من الإفطار أو الاستعداد للذهاب إلى العمل أو إيقاظ وتوصيل الأطفال إلى المدرسة، يليها أن نكون جزءاً من تكدّس موجات من زحام سيارات تناضل من أجل الوصول إلى وجهاتها المختلفة، بعدها تبدأ ساعات طويلة من صراع يومي طويل في العمل، تنتهي بتأجيل الكثير من المشاكل إلى اليوم التالي لعدم سماح أوقات العمل الرسمية أو الإضافية بحلّها، أو لعدم استطاعة عقولنا على تحمّل المزيد منها، لنعود في موجات أخرى من زحام يحمل الأمل في الوصول إلى المنزل كي نلتقط بعضًا من أنفاسنا، لنجد أنه لم يكن سوى حلم بعيد المنال!
نستوعب ذلك عندما نعرف أنه ينتظرنا واجبات تنتظر الإنجاز؛ شراء احتياجات المنزل، أو مذاكرة للأطفال، أو مشاهدة فيلماً في التلفاز اكتشفت مؤخرًا أنك قمت بتأجيل مشاهدته مع زوجتك منذ ثلاثة أشهر في انتظار متسع من الوقت بسمح بمشاهدته!، أو نتذكّر أن علينا اللحاق بعمل إضافي مسائي نحاول به أن نُسدّ به عجزنا في اللحاق بتطلّعاتنا التي لا تنتهي.
في الساعات القليلة المتبقية من آخر اليوم نقع في النوم دون إرادة منا -غالباً – بعد محاولات بائسة في القيام بأي عمل نشعر به ببعض من الخصوصية؛ مثل قراءة كتاب أو قضاء وقت للعب مع أطفالنا – إن كانوا مستيقظين – أو قضاء وقت هادئ لسماع الموسيقى، هذا إن لم نكن نُضيّع هذا الوقت في الترتيب لأحداث اليوم التالي.
يحتاج الانسان الطبيعي أن يخرج من هذه الدائرة قليلاً، أن يريح عقله المكدود كي يستطيع تحليل الأحداث والمواقف من حوله، ويستطيع ترتيب أولويات حياته لضمان استقرار نفسي يتيح له مواجهة صعوبات الحياة. في الحقيقة أنه بالرغم من كل التفاصيل التي تملأ يومنا نستطيع أن نجد معها بعض الوقت كي نفعل ذلك، لكن ذلك لم يعد أمراً متاحاً للأسف في السنوات الأخيرة، وخاصة في السنة الأخيرة بالنسبة لي.
لماذا؟ هناك إجابة واحدة… وسائل التواصل الإجتماعي.
تعدّدت مسميات برامجها أو مواقعها لكن الاتهام واحد… التشتّت. تنبيهات متواصلة تمنعك من التركيز في كل ما تقوم به أياً كان، سواء كنت تعمل أو تتحدث مع شخص ما أو تأكل أو تقود سيارتك أو حتى تقوم بالتصوير. تخرجك هذه التنبيهات عن تركيزك، وقد تنسى ما كنت تقوم به في الأساس لتنشغل بأشياء أخرى جديدة. مع استمرار تدفّق التنبيهات والمعلومات إلى هاتفك ومتابعتك لها، تفقد تدريجياً مساحات من وقتك، تتسلل هذه التنبيهات إلى حياتك في صمت، لتملأ فراغات بسيطة لديك بازدياد مضطرد، حتى تبدأ في الاستيلاء على أوقاتك الأساسية. حينها تبدأ في الإدراك مُتأخراً أنك لا تملك الوقت الكافي لالتقاط أنفاسك.
تلاحظ تأخرك على جميع مواعيدك، تتأثر علاقاتك بالآخرين حينما لا تتفاعل معهم بشكل مناسب لانشغالك بأشخاص افتراضيين؛ تنخدع بوجودهم حولك فيزيائياً. تتقلص علاقاتك بالعالم الواقعي؛ زوجتك وأطفالك وأصدقائك. لا تنتبه إلى تباعد علاقتك الروحية معهم. يتضائل الوقت الذي تقضيه في الاستمتاع بهواياتك بعد أن تُصدقّ بأنها مجرد أوقات فارغ ليست مهمة لك.
عقلك مكدود… ضغوطات غير مسبوقة بسبب عدم وجود وقت كافٍ لمعالجة مشاكلك الأساسية في ظل هجوم تنبيهات التواصل الإجتماعي، التي انضم إليها مجموعات من العمل ومجموعات أولياء أمور الدراسة، لتعم الفوضى داخل عقلك، وكأنها مستشفى للمجانين دون رقابة أطباء. أنت مطالب دوماً باتخاذ قرارات مهمة بشكل دوري، لكن عقلك لا يستطيع التعامل معها وإيجاد الحلول بشكل سريع، فتشعر بأن كل شيء يتكدّس داخل عقلك دون أن يستطيع الخروج. ويصبح عقلك يعمل بشكل متواصل دون أي راحة على مدار ساعات اليقظة دون أي هدنة؛ اللهم إلا بعض الدقائق أثناء الصلاة، إن تم أداؤها بشكل صحيح!
أنا وصلت إلى هذه المرحلة… ملأني الضيق وانتابني إحساسًا بالاختناق الشديد رغم أنني كنت أتنفّس بشكل طبيعي! وشعرت كلما حاولت التفكير في أمر ما؛ بشيء يشبه التيار الكهربي يسري في عقلي ويُحذّرني من مغبّة التفكير. وبدا لي أن ذلك يفوق قدرتي على التحمّل.
وكجزيرة وجدتها وسط بحر متلاطم؛ وجدت الحل والذي كان في العزلة الفورية.
قررت الخروج عن عالمي وترك جميع ما أنا متعلق به، أو بالأحرى عالق معه. بدأت إجازة إجبارية لمدة يومين في أحد المنتجعات؛ عزمت معها على عدم استخدام الهاتف إطلاقاً أو آلات التصوير أو تذكّر أي شيء يخص عالمي وحياتي اليومية أو حتى التفكير بأي شيء يتعلق بالماضي أو المستقبل. فقط قررت أن أعيش أحداث اليوم كما تحدث بشكل غير مُرتّب من قِبَلي. أستيقظ دون مُنبّه، أتناول الإفطار بكل هدوء، أسير على الأقدام إلى أقرب مطعم عندما أجوع، أذهب إلى البحر، أتأمّل الجبال… السماء الزرقاء… الهواء العليل… أظل هكذا حتى ينتهي اليوم.
في اليوم التالي مباشرة بزغ داخلي شعور بالتوازن النفسي، و بدأت أرى نفسي فيمن حولي ممن يمسكون هواتفهم وكيف تضيع أوقاتهم مثلما كانت أوقاتي تضيع. يجلسون في الطاولات أمامي يتناولون الطعام وهم يتبسمون أو يعبسون لأجهزتهم المحمولة، يمر الوقت وهم لا يتبادلون سوى كلمات قليلة، ويأكلون دون النظر إلى أطباقهم.
أرى مثلهم على الشاطئ يضيعون نصف وقتهم في تصوير بعضهم البعض و مشاركة صورهم على مواقع التواصل الإجتماعي. حتى أثناء فترات استرخائهم يقضون أغلب الوقت مع هواتفهم دون النظر إلى المشاهد الخلابة التي يقومون بتصويرها. رأيت نفسي في بعض أفعالهم، وأدركت أنني شاهدتهم الآن بشكل مُختلف؛ كوني تحررت من هذا الأسر مؤقتاً، فنحن لن نستطيع أن نرى عمق مشاكلنا إلا إن رأيناها من الخارج… حينها فقط نستطيع أن نُميّز كل شيء.
دفعني ذلك إلى التفكير في أهمية التأمّل والذي يلزمه العزلة؛ كونها مدخل أساسي- مهما اختلفت مُدّتها- لتوفير قدر عالٍ من القدرة على التأمّل. لطالما أخبرنا التاريخ عن أهمية ذلك دون أن ندري أو دون أن ننتبه أو لعلّنا قد تغافلنا عن ذلك.
في جميع الأديان السماوية، وحتى في المعتقدات الأخرى، كان دوماً الانعزال عن العالم والتأمّل شيء هام جداً لتصفية العقل وتحفيزه على التعمّق في التفكير والتدبّر. كما أنه أسلوب للصفاء الروحي والذهني يقود إلى استقرار نفسي عميق يتسلّح به الانسان ضد متغيرات الحياة وتقلّباتها وصراعها الدائم وحروبها القبيحة.
كان موسى وإبراهيم ومحمد عليهم السلام جميعاً، ينعزلون عن العالم تارة على الجبل أو في الصحراء أو في الغار. بينما كان الصوفييون يجدون اتصالهم بالله في عزلتهم .. وكان من معتقدات البوذيون أن الوصول إلى التنوير يحدث بالتأمّل.
هذا التوافق لا يعني إلا أن هناك اتفاق ضمني على أن التأمّل هو الطريق الصحيح لإعادة اكتشاف هويّتنا البشرية واستعادة حيوية إنسانيتنا.
جّرب…
- تأمّل السماء وزُرقتها وانسجام أصوات الطيور من حولك.
- تأمّل البحر… ارتدي نظارة الغوص وانظر إلى العالم الأزرق، ارنوا ببصرك إلى درجات اللون الأزرق المُتباينة التي يصعب تمييزها، وإلى الأسماك المختلفة الألوان والأحجام والأشكال والتي تكاد تقسم أنها مرسومة وليست حقيقية، وكأنك وسط صورة يملؤها السكون وتجبرك على الهدوء.
- تأمّل الحدائق وجمال ورودها وتنوّع ألوانها وزقزقة عصافيرها ورفرفة فراشاتها. أنصت إلى خرير الماء المُنساب من حولك. دعه يتسلل إلى روحك وقلبك قبل أذنيك.
- تأمّل بطريقتك. قُم بتفصيل طريقة تناسبك فأنت فقط من تعرف مفاتيح روحك.
بعد انتهاء اليومين، لم أشعر بالحزن لانقضائهما سريعاً مثلما أخبرني العديد من أصدقائي كونها إجازة صغيرة جداً لن تفلح في جعلي أشعر بالاسترخاء، إلا أنني على العكس تماماً كنت قد حققت هدفي، وخرجت كإنسان جديد.
أدركت بعض الحقائق الصغيرة التي وإن كانت واضحة أمامي دوماً إلا أنني كنت قد فقدت بوصلة معانيها في خضم الحياة:
- أن الصلاة في حد ذاتها هي نوع هام من التأمّل إن قمنا بأدائها بصورة صحيحة، وفطنت إلى حكمتها بأن جعلها الله وسيلة يومية للتخلص من ضغوط الحياة من حولنا. وأنها وسيلة لراحة النفس أكثر من أن تكون فرضاً إجبارياً.
- غالباً ما نختار أن نستمتع بالإجازة في رحلات مستمرة من الإثارة والمتعة، ويأتي ذلك دوماً على حساب راحتنا، لنشعر في انتهائها بالمقولة الشهيرة… إن الإجازة تحتاج إلى إجازة كي نرتاح من مشقتها.
- لا تهمل أبداً في حاجتك إلى العزلة أو إلى التأمّل أو الانفصال عن روتين الحياة اليومية، ولا تنتقص من قدرتها على جعلك إنسان أفضل.
- ليس شرطاً أن تكون العزلة في سفر بعيد، قد تكون فقط في الابتعاد عن أسلوب الحياة ولو ليوم واحد دون أي التزامات.
- العزلة لا تُقاس بالوقت، وإنما تُقاس بالوصول إلى حالة الصفاء الذهني والروحي.
- العزلة هي منفذ الروح إلى السعادة
ليس معنى تجربتي أنني لن أعود إلى استخدام هاتفي أو الانغماس في تنبيهات الهاتف ورجوعي إلى حالي السابق، فذلك شئنا أم أبينا أصبح من أساسيات الحياة بشكل أو بآخر. لكنني أدركت بأن أرواحنا وعقولنا تحتاج من حين لآخر إلى إعادة ضبط، أو بأننا نحتاج إلى معايرة طريقة حياتنا بين الفينة والفينة من أجل العثور على طريقة تحقق التوازن المفقود في حياتنا، ذلك لأننا نتعامل مع الحياة بأسلوب لا يناسب متطلبات العصر المتغيّرة أو بأسلوب لا يتناسب قدراتنا نحن.
إن استقرارنا النفسي لا يؤثر فقط على حياتنا الشخصية كأفراد، بل ينعكس ذلك على من يعيشون جوارنا ومن يشاركوننا هذه الحياة.
قد لا يكفي الوقت لكل شيء، لكن أولويتنا هي سلامتنا النفسية، فهي فقط ما سيجعلنا قادرين على العيش باستقرار يضمن استمرارنا في هذه الحياة.