هل من الممكن أن يكون الحُزن مُولّدًا للسعادة؟
هناك مشاعر عديدة في هذه الدنيا يشترك فيها
البشر مهما اختلفوا، مشاعر مثل الحب والكراهية، والخوف والطمأنينة، الرحمة
والقسوة، والسعادة والحُزن. حالات نفسيّة تسكن أرواحهم وتُشكّل سلوكهم، لا
يستطيعون الفرار منها شاءوا أم أبوا، الغني
منهم والفقير، القوي فيهم والضعيف. فقط تنحصر محاولاتهم في التحكّم في درجة
مقاومتها أو تعزيز الإحساس بها، لكنها بالرغم من محاولاتهم تظل تُباغتهم
بلا تفسيرات منطقية في كثير من الأحيان، وتؤثّر عليهم في كل أوقاتهم حتى
وإن أظهروا عكس ذلك.
الحُزن هو واحد من هذه المشاعر، تُعرّفه
اللغة بأنه كل ما يُضيق الصدر، ويُعرّفه علم النفس بأنه الألم النفسي
الناشئ عن ضيق شديد، ويصوّره الأدب بأنه ظلام القلب. تتباين أسبابه بين فقد
وشجن وحنين وإهانة وفشل وخيبة وخيانة وعدم تحقيق الذات، وفي كثير من
الأحيان يكون بلا سبب! هو حالة ظرفية مؤقتة، تبدأ بإنكار السبب وتنتهي
بقبوله. لندرك أنه بالنهاية شيء أساسي في حياتنا، بل شيء جوهري ليستمر
إحساسنا بكل شيء جميل!
يفقد كل شيء معناه لدى الانسان إن
استمرت حياته على وتيرة ثابتة دون أي تغيير، فالحياة أصلها الحركة، والسكون
يعني الموت أو أنه الطريق الذي يؤدي إليه. كلما تحرّك الانسان كلّما صار
أكثر قدرة على الحياة، ولأن الانسان ليس مجرد آلة مُتحركة، بل هو بالأساس
روح، فإن حركة الروح هي المشاعر والأحاسيس، وما موت الضمير ووأد المشاعر
إلا احتضار لهذه الروح. والمشاعر التي يحيا بها البشر كثيرة منها السامية
كالسعادة والنشوة والحُب والإيمان والتعاطف، ومنها السيء مثل الكُره والحقد
والرغبة في الانتقام وحُب الذات. وبين هذه وتلك تنشأ منطقة رمادية بينهما
سببها الخوف من فقدان السعادة. منطقة تشمل مشاعر التوتّر والقلق والحُزن
والهَمّ. هي منطقة انتقالية شديدة الأهمية، فالإنسان كائن ملول بطبعه، يألف
الشيء ويعتاده فينطفئ شغفه به، لهذا فهو يحتاج دوماً إلى كسر شعوره بالملل
تجاهه. إن الحُزن هو الحالة التي تتغيّر فيها حالة الانسان لتنخفض
معنوياته بشدة ويفقد معها الإحساس بلذة العيش، بل قد يدفعه في بعض الأحيان
إلى الرغبة في التخلص من حياته، لتقترب روحه من الخمود. حينها تدفعه غريزة
البقاء إلى الحركة، فتنبض روحه ببريق واهن، تزداد قوته مع أية خطوات عملية
لإعادة ترتيب مفاهيمه وأولوياته داخل عقله، ليبدأ في الإحساس مرة بأخرى
بعودة شهيّته للحياة.
إن كان المرض يزيد مناعة الجسم ضد أخطار مُستقبلية، فلم لا يكون الحُزن هو ما يزيد مناعة الروح ضد تقلّبات نفسية لاحقة؟
تكرار هذه التقلّبات والمنحنيات، تخلق
داخله احتمالات مختلفة للسعادة، صحيح أنها قد لا تكون بنفس بساطتها كما كان
يشعر بها سابقًا، إلا أنها على الأقل تكون بها من البهجة ما يدفعه
للاستمرار.
لكن هل من الممكن أن يكون الحُزن مُولّدًا للسعادة؟
يدفعنا هذا السؤال إلى التفكير عن
مفهوم السعادة. وبعيداً عن تعريف الفلاسفة والمُفكّرين، فإن السعادة مهما
تعدّدت صورها فهي بالنهاية إما أن تكون في لذة المدارك الحسيّة أو أن تكمن
في نشوة المشاعر الروحيّة، ورغم أن لكل شخص تركيبة خاصة بسعادته تخلط بين
الشعورين بمقادير مختلفة، إلا أن صورها غالباً مُشتركة ذات قوالب ثابتة
بشكل ما. أما الحُزن فهو حالة خاصة تتشكّل حسب تجربة كل انسان على حده،
فتتباين ردود الأفعال بشدة، ما بين إيذاء للنفس وازدرائها أو إيذاء للغير
والانتقام منه، وبين الكبت والتصريح، وبين الصمود والانهيار، تفاصيل كثيرة
تؤدي إلى ولادة انسان جديد أو انتحاره! ولا أجد وصفاً أفضل من وصف الأديب
الكونت ليو تولستوي في مقدمة روايته آنا كارنينا “كل الأسر السعيدة
متشابهة، أما الأسر التعيسة فلكل منها قصتها المختلفة، وتعاستها الخاصة
المميزة.”
إن الحُزن سلاح خطير ذو حدين، فهو قد
يُحوّل الانسان إلى مسخ، وقد يصنع منه بطلًا، ويتوقّف ذلك على كيفية
التعامل معه. إن أغلب البشر قد دأبوا على تجاهل تجارب الآخرين، معتبرين
أنفسهم حالة خاصة لا يشبههم فيها أحد، ورغم أنهم يقعون في نفس الأخطاء. إلا
أنه ولحُسن الحظ فإن التعامل مع الحُزن والتغلّب عليه -رغم تعدّد صوره-
يحتاج إلى عاملين أساسين، الأول هو الاعتراف وقبول أسباب الحُزن، والثاني
هو التنفيس عن حالة الاحتقان الداخلي.
الحُزن هو محاولة للبحث عن نقاط قوة تزيد
من قدرة احتمال الصدمات المستمرة في الحياة. لهذا فمعظم الأبطال ذاقوا
مرارة الفشل، وأعظم المُنتصرين خسروا جولة من معركة، وكل المخترعين مرّوا
بمراحل إحباط مع تجاربهم الأول، أما أعظم الأدباء فهم من كتبوا حزنهم على
الورق!
فعلى عكس معظم من يحاول الخروج من حالة
الحُزن التي تمر به عن طريق الانشغال بالعمل أو بالتمارين الرياضية أو
بالسفر أو بتغيير نمط حياته أو حتى بالوقوع في علاقة عاطفية جديدة، فإن
الأدباء يُوظّفون حزنهم نفسه في بناء أنفسهم من جديد!
الأدباء لديهم قدرة مُبهرة ليس في كتابة
الحُزن فقط بل في إظهاره بشكل خلّاب، ليتحوّل إلى حزن جميل! إنهم يخرجون
الألم من صدورهم لينثروه في حروف برّاقة بأشكال مختلفة، لنقرأه في بيت شعر
أو نعيش معه في رواية، فنستعذب حزنهم ونتعاطف مع ألمهم وتبقى حروفهم
الساحرة مُرتبطة بأرواحنا لفترة طويلة.
من غرائب الحياة أن حزن الآخرين يدفعنا إلى التعاطف معهم، بينما تُحرّضنا سعادتهم على الحسد!
إن الحُزن هو بداية لتجربة أفضل عمقاً
وأكثر قدرة على الصمود، وسط حياة متلاطمة الأحداث هوجاء التقلّبات. هو وقت
مُستقطع وسط صخب العالم لمراجعة النفس. هو فترة نقاهة يحتاجها كل انسان
بشكل مستمر في جميع مراحل عمره. هو رحلة لاكتشاف أماكن مجهولة في خريطة
النفس، ومحاولة لتلمّس طرقًا جديدة للسعادة.
إن كُنّا نحتاج إلى بعض الجنون في حياتنا
لأن الحياة العاقلة مملة كما قال فريدريك نيتشه، فنحن بالتأكيد نحتاج إلى
كثير من الحُزن في حياتنا فقط لكي نستطيع لاحقاً أن نشعر بالسعادة!
تنبيه: الحُزن المقصود في المقال وهو الضيق الشديد المؤقّت، يختلف عن الحَزَن والذي هو مُقيم في نفس الانسان، لا يموت ولا يبلى.
أحمد فؤاد