random
أخبار ساخنة

لماذا كل هذا التعقيد؟ : عن حقيقة بسيطة غاية في التعقيد!


في البداية… دعني أعترف لك أن المقال قد يبدو مفككًا للوهلة الأولى، أو لعله متداخل المواضيع ونقاط المناقشة. لكنه ليس كذلك في الحقيقة، فهناك رابط واحد يعقد تلك النقاط في النهاية. لذا وجب التنويه قبل أن أبدأ المقال.

رغم زعم الانسان الدائم بأنه قد وصل إلى مراحل متقدمة في فهم العديد من الحقائق المذهلة في هذه الحياة، عن طريق أبحاثه العلمية المستمرة في شتى أنواع العلوم. إلا أنه يجد نفسه دومًا واقعًا في فخ الحقيقة التي يرفض البعض أو الكثير الخضوع لها، وهي أننا مهما ارتقينا بالعلم والمعرفة يظل دومًا هناك شيئًا خفيّا لا نعرفه. وكأنها لعبة لا تنتهي من لعبة عرائس الماتريوشكا الروسية، كلما فتحنا صندوقًا لدمية وجدنا نموذجًا أصغر داخلها، فكلما توصّلنا إلى اكتشاف معلومة جديدة وجدناها تقودنا إلى مجهول جديد!
على مدى العقود الطويلة التي سبقتنا وصل الإنسان بعلمه إلى نتائج مدهشة في شتى المجالات، فما زادته اكتشافاته إلا غوصًا في تلك المجالات كل منها على حده، فأصبح العلم الواحد ينقسم إلى علوم عدّة، وتلك العلوم تنقسم بدورها إلى أقسام مُتخصصة، وهكذا أصبحنا في عصر التخصصات التي لا تنتهي.

من بين العلوم التي مازالت غامضة على الانسان، يأتي علم نفس الأمراض في أول الصف، والمقصود به هو الدراسة العلمية للاضطرابات النفسية، Psychopathology – وهو مصطلح يوناني مشتق من كلمتي psyche والتي تعني الروح أو العقل؛ وpathos التي تعني المرض أو المعاناة؛وlogy التي هي دراسة شيء ما. تتلخص أسباب الاضطرابات النفسية بشكل مختصر في أسباب روحية نفسية نتيجة إساءة من طرف خارجي، أو بسبب انحراف سلوكي نتيجة لخلل وراثي، أو المرور بتجارب نفسية سيئة مثل الموت والضيق الشديد، يمكن إضافة العامل الدوائي إلى هذه الأسباب بعد أن ثبت تأثير بعض الأدوية الكيميائية على إرباك العقل وتشويشه بل وتدميره. بالطبع هذا بشكل موجز جدًا لإيضاح الفكرة وليس للحصر أو كمرجع. لكن أليس من العجيب أن ينضم إلى أسباب الأمراض النفسية مثل مرض الفصام على سبيل المثال، أن يكون أحد أسبابه المحتملة بكتيرية؟




في واحدة من آخر الأبحاث العلمية الحديثة في بلجيكا وفرنسا والتي لا تزال تجاربها تُقام حتى اليوم The Flemish Gut Flora Project، يعتقد العلماء بأن مجموعة كبيرة من بكتيريا الأمعاء تؤثر بشكل كبير على الدماغ. مع العلم بأن هذه الفرضية ليست بالجديدة في الوسط العلمي، ولكنها لم تكن قد حصلت على إثباتات علمية وفقًا للشروط اللازمة. ففي مطلع القرن العشرين كان هناك من اكتشف وجود علاقة بين مرض الملنخوليا والإصابة بالإمساك الحاد وضعف الشعر وشحوب البشرة، وعندما تم إيقاف اللحم في طعامهم والإكثار من اللبن المُخمّر المليء ببكتيريا البروبايوتك Probiotic، تحسنت صحة العديد ممن خضعوا للتجربة وشفي عدد منهم تمامًا! أما اليوم فمن شبه المؤكد أن البكتريا الموجودة في أمعائنا تؤثر سلبًا أو إيجابًا في صحتنا العقلية، تستطيع أن تدفعك إلى الاكتئاب بل وقد تدفعك إلى الإنتحار! فقد توصّل العلماء إلى أن بكتيريا التكسوبلازما  مثلًا(مرض القطط) تمتلك جينات تؤثر في إفراز الدوبامين في الدماغ (مادة كيميائية تتفاعل في الدماغ لتؤثر على كثير من الأحاسيس والسلوكيات بما في ذلك الانتباه، والتوجيه وتحريك الجسم. ويؤدي الدوبامين دوراً رئيسياً في الإحساس بالمتعة والسعادة والإدمان) أي تستطيع هذه البكتيريا أن تؤثر في سلوك الانسان! أيضًا… لاحظ الأطباء بأن نسبة حاملي الطفيليات بين المصابين بالفصام مثلًا هي تقريبًا الضعف عن غير المصابين بالمرض. يمكن للتوكسوبلازما أن تؤثر فينا عن طريق الخوف والرائحة والمراكز السلوكية في الدماغ، لذلك فإن هناك احتمالية عالية للتعرض لحادث أو الانتحار أو للإصابة بالفصام. مازالت هذه الإطروحات في مجال التجربة والشك ولم يتم برهنتها علميًا بعد. وقد تتأكد هذه الإطروحات بشكل كامل بعد الانتهاء من التجربة التي تم ذكرها أعلاه.

قد تبدو فكرة أن الميكروبات والبكتيريا تستطيع التأثير على سلوكنا وعقولنا فكرة سخيفة، إلا أننا قد نراجع حساباتنا إن علمنا أن الخلايا البشرية في جسم الانسان تمثل 10% فقط من مجموع الخلايا الحيّة، بينما تمثل البكتيريا والميكروبات نسبة 90%!




تمثل البكتيريا عالمًا متكاملًأ يعيش فينا، أو بالأحرى نحن عوالم أو مستعمرات متنقلة لهذه الميكروبات، لكن هذا ليس شيئًا سيئًا كما يبدو. بل أن حياتنا لا يمكن لها أن تكون إلا بوجود هذه البكتيريا والميكروبات كضمانة أساسية لنا للحياة وسط عالمنا المليء ببلايين الجراثيم. فالبكتيريا التي تمثل 90% من خلايانا هي المسؤولة عن تدريب جهازنا المناعي وإعدادنا كي نكون أكثر قدرة على الصمود في هذا العالم.

عرف الانسان ذلك بشكل قاسٍ من خلال تجاربه الحياتية في الماضي، فمثلًا كان هناك بعض الجنوب -أمريكيين اللذين تصادف وضع زوجاتهم لحملهم وولدوا في القطب الجنوبي أثناء رحلاتهم، مات أطفالهم بوقت قليل فور مغادرتهم القطب الجنوبي في طريق عودتهم لبلادهم الأصلية. فالقطب الجنوبي بارد جدًا وخال من الجراثيم إلى حد أن الرضيع المولود هناك لا يتلقى البكتيريا الضرورية لتكوين جهاز مناعي مناسب. كانت الحرارة العادية والبكتيريا التي واجهها المواليد بعد مغادرة المنطقة القطبية الجنوبية كافية لقتلهم.
تجربة مثل هذه تجعلنا نفهم أهمية وجود البكتيريا لأجسامنا، ولعل هذا يجعلنا ندرك خطورة استخدام المعقمات في حياتنا بشكل مكثف أقرب للهوس، كمحاولة لقتل خوفنا من البكتيريا الضارة جاهلين بأن البكتيريا المفيدة ستموت معها، وأن ذلك سيضعف جهازنا المناعي بنهاية الأمر.




images.jpg
مثال آخر يوضح أهمية البكتيريا النافعة. في الماضي واجه مصنعي الحليب المُجفف المخصص للأمهات غير القادرين على إرضاع أطفالهن مشكلة، وهي أنه على الرغم من حرصهم على وجود نفس المواد الموجودة في حليب الثدي في منتجهم، إلا أن الأطفال الرُضّع الذين تم إرضاعهم الحليب المجفف قد عانوا من الإسهال أكثر مما يجب، مما يعرضهم لخطورة الجفاف والذي يُعتبر في أعمارهم مميت. وبعد الكثير من الأبحاث اكتشفوا العنصر المفقود في الحليب المجفف، وذلك بعد أن تمت الاستفادة بأبحاث عالم الأحياء الروسي إيليا ميتشنيكوف الحائز على جائزة نوبل في الطب عام 1908. العنصر المفقود كان البكتيريا! نعم إنها بكتيريا المُلبّنات والتي تحلل السكر الموجود بالحليب “اللاكتوز”، وتنتج حمضًا لبنيّا (حمض اللبن)، وهذه البكتيريا تعيش على الحلمة التي تدر الحليب أي أنها ليست داخل الثدي! (تعيش هذه البكتيريا أيضًا في قناة الولادة ويتلقاها الأطفال المولودين ولادة طبيعية وتظل تتطور في أمعائهم منذ أولى لحظات الولادة). لاحقًا… قام عالم ياباني بتجربة استخدام بكتيريا ملبّنة لصنع لبن خاص، وعندما تم إطعام الأطفال هذا اللبن يوميًا تراجعت حالات الإسهال تدريجيًا ليتم إضافتها لاحقًأ في حليب الأطفال المجفف بشكل موسّع.
إذن نحن نستطيع الآن أن نشعر ببعض الراحة، وأن يقل شعورنا بالخوف من البكتيريا، والتي عرفنا أنها تمثل أغلب تكويننا. إننا في الحقيقة نشعر تجاهها بالامتنان. في الواقع يجب أن ندرك أنه لا يوجد شيء ضار بشكل كامل إلا في حالات خاصة، لكن كل ضار له نفع ما، ولعلّ أفضل النفع هو تدريب جهازنا المناعي لمقاومته لاحقًأ.



لكن السؤال التالي هو، لماذا تحدث لنا العديد من المشاكل سواء الهضمية أو النفسية الناتجة عن البكتيريا إن كانت تقدّم لنا هذا النفع العظيم؟ للإجابة على السؤال يجب أن نفهم أن هناك ملايين العوامل المؤثرة التي تعيش من حولنا والتي تؤثر في أجسادنا، لكن أحد أكثر العوامل جوهرية -رغم أنه الأبسط الذي نقوم نحن به- هو “الطعام”. فنوعية الطعام الذي نتناوله يؤثر بشكل جوهري في طبيعة المزيج البكتيري بداخل أمعاء كل منا، لهذا فإن الطعام الصحي ليس غرضه فقط الحصول على جسم رشيق، بل الحصول على صحة جيّدة. قد لا تعرف أن شريحة من البرجر المعالجة بزيوت مهدرجة أو مضاف إليها كميات عالية من الصوديوم المعالج كفيلة بأن تدمر البكتيريا النافعة داخلك. صحيح أن الجسم البشري يستطيع التعامل والتأقلم مع المواد الضارة، لكنها ستكون على حساب مشاكل أخرى قد لا نرغب فيها، مثل حدوث أخطاء في تركيب بعض الجينات عند انتقال المواد الضارة عبر الأوعية الدموية، لتشكل أولى خطوات أمراض الحساسية وضعف المناعة والتي تجعل الجهاز المناعي يهاجم خلايا الجسم. بالطبع ليس فقط الطعام هو الذي يؤثر في ذلك. بل والنظافة أيضًا، كل هذه العوامل تؤثر في إخلال حالة التوازن بين نسبة البكتيريا الضارة والنافعة في أجسادنا.

إن حالة التوازن الموجود في أصغر جزء من النواة المُشكّلة للخلية إلى أكبر كوكب موجود بالمجرّة التي نعيش فيها لهو شيء مُبهر حقاً. والمدهش أن تكون نقطة التوازن الموجودة في كل انسان ثابتة في الخطوط العامة إلا أنها شديدة الخصوصية لكل انسان على حده.



إن التوازن في تعريفه الشامل هو الحالة التي تخلق نوعاً من الاستقرار. لذا يلزم التوازن مقدار محدد من بضعة مكونات أو على الأقل بين مكونين اثنين.
نظرة متمعنة في نقطة التوازن تجعلنا ندرك مدى تعقيد ربط النقاط التالية معًا:
  • إن أصغر مركب في الحياة حسب معرفتنا هو نواة الذرة، والتي هي عبارة عن سحابة من الشحنات السالبة (الإلكترونات) تدور حول شحنات موجبة (بروتونات) ونيترونات متعادلة الشحنة! أعداد البروتونات والإلكترونات هي التي تُشكّل ما يُسمّى بالعدد الذري والتي بدورها تشكّل الجزيء ثم المادة.
  • ببساطة شديدة كل مادة موجودة على سطح الأرض هي عبارة عن مادة مكونة من ذرات، تختلف المواد كليًّا بمجرد تغير عدد الإلكترونات أو البروتونات أي بتغير عددها الذري. مثلًا يتكوّن الماء من ذرتين من الهيدروجين مع ذرة من الأوكسجين، لكن عند فصل العناصر باستخدام تيار كهربي يتحول الماء من الحالة السائلة إلى مكونات أخرى في حالة غازية!
  • نستطيع أن نتخيّل أن الذهب مثلًا أو الحرير أو الرمال أو الصخر أو خلايا الانسان هي في الأساس ذات مكونات واحدة، فقط تتغير حالتها حسب العدد الذري لمكوناتها وعدد المواد المندمجة معًا.
  • أي أن كل مادة مهما صغرت لها مقدار ما من عدد المواد والجزيئات والذرات، في الحقيقة باختلافهم تختلف المادة كليا، وتصبح مادة أخرى، أي أن لكل مادة نقطة توازن تسمح لها بالاستقرار على حالتها.
  • جنس الانسان يتحدد من عدد من الكروموسومات وباختلاف نوعها وعددها يختلف جنسه.
  • جسم الانسان… يتكون من قدر محدد من البكتيريا النافعة والضارة، تتآلف مع خلاياه البشرية لتمنحه القدرة على الحياة.
  • تعمل أعضاء الإنسان وأجهزته الداخلية بقدر محدد ونظام ثابت دون أي تغيير، على سبيل المثال لا الحصر عدد دقات القلب أو عدد كرات الدم البيضاء أو الحمراء أو معدل أيض ما أو معدل إفرازات الغدة الدرقية. أي اختلال في هذا المقدار يحدث اختلالًا في الصحة العامة أو قد يتسبب في إنهاء حياة الانسان.



عندما نخرج عن مجال عدستنا المُكبّرة التي رأينا فيها جسم الانسان، إلى عالمه الخارجي، نكتشف أن التوازن الموجود في جسم الانسان يتناغم بشكل مُبهر مع التوازن المحيط به، فالتوازن البيئي على سبيل المثال عجيب جدًا، يكفي أن نعرف مثلًا أن القضاء على أية حشرات مزعجة بشكل كامل أو أي نوع واحد من الحيوانات أو النباتات، يُغيّر في طبيعة المكان الذي حدث فيه هذا التغيير، فيحدث خللًا يؤثر على الانسان نفسه. أو قد يؤثر قطع الأشجار وتجريف الأرض، ورمي المخلفات بالبحار أو انتاج مواد تصنيعية مضرة بالبيئة في المصانع الضخمة والانبعاثات الإشعاعية، إلى عدد من التحولات الجذرية للغلاف الجوي مثل ثقب طبقة الأوزون، واختلاف درجات الحرارة الحاد نتيجة للاحتباس الحراري والذي دفع الدول العظمى إلى محاولة التصدي لخطورة نتائجه. فالتوازن البيئي ليس إلا مجموعة من التفاعل المستمر بين جميع مكونات النظام البيئي نفسه والذي يُعرّف بأنه التفاعل المنظم والمستمر بين عناصر البيئة الحية وغير الحية. عناصر حية منتجة كالكائنات الحية النباتية والتي تصنع غذائها بنفسها من عناصر غير حية، وعناصر حية مستهلكة كالحيوانات العشبية واللاحمة والإنسان، المحللات وهي التي تقوم بتحليل المواد العضوية إلى مواد يسهل امتصاصها وتتضمن البكتيريا والفطريات. دائرة مترابطة بشكل صارم محدد بمقادير ثابتة، يؤدي أي اختلاف في عناصرها إلى اختلال متراكم قد يدمر التوازن العام، بما في ذلك توازن الانسان ذاته.




إن ابتعدنا بشكل أكبر إلى عالم الفضاء، نجد أن هذا العالم أيضًا له قوانينه الثابتة، والتي لا تختلف كثيرًا عن قوانين التوازن البيئي على الأرض في فكرته الأساسية… فكرة التوازن.
فمن أمثلة التوازن في الفضاء؛ المسافات بين الكواكب والنجوم، وكمية الطاقة المنبعثة من حرارتها. حيث يؤدي أي تغيير في المسافات بينها إلى تغيير محقق في بقية المكونات. يكفي أن ندرك أن تغيير بسيط في المسافة بين الأرض والقمر على سبيل المثال كفيل بأن يتسبب في طوفان يدمر الأرض كلها، وهكذا الشمس إن ازدادت المسافة بينها وبين الأرض لهلك الكوكب في جليد أبدي.
عندما نجمع هذه النقاط بعضها ببعض، ندرك أن التوازن ما هو إلا نظام دقيق ومتكامل يعكس نظام الكون كله. قانون واحد يخضع له كل شيء مهما عظم حجمه، ومهما تناهى في صغره. إن تغيير في توازن في أبعد مكان في الفضاء قد يؤدي إلى موت حشرة صغيرة على سطح الأرض. توازن كوني مترابط جدًا بشكل يثير الذهول، ولا عجب في الأمر لأن أصل كل شيء في هذا الكون الفسيح هو أصل مشترك… الذرة.
حسنًأ… قبل أن أكمل المقال، دعني أقتبس بعض من آيات الله تعالى في كتابه الكريم القرآن

” اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ۖ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ (8)” سورة الرعد

“إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)” سورة القمر

“وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ (19)” سورة الحجر

“وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ (21)” سورة الحجر

سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ “عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)” سورة فُصّلت

إن تأمّلنا الآيات السابقة، وربطنا تأملنا هذا بالنقاط التي أشرت لها في المقال، نسنطيع أن نستنتج أن كل الاكتشافات العلمية التي يحققها الانسان، لا تقوده إلا إلى حقيقة واحدة، أن الكون له قانون واحد، نشأة واحدة. إن الاكتشافات التي مازلنا حتى اليوم نكتشفها داخل أجسامنا والتي لا يزال الكثير منها مجهول، توضّح لنا كم أن أجسامنا شديدة التعقيد، تعمل أغلب أعضاءها بشكل لا إرادي دون أي تدخل منا. ورغم هذا القدر الكبير من التعقيد، إلا أن قليل جدًا من البشر من يهتم بهذا، بل أن أغلبهم يعيشون حياتهم -بحكم العادة- غير منشغلين بتقدير أجسادهم، رغم إدراكهم مدى عظمة خلقتها.

لأوقات كثيرة ألح عليّ سؤال بحثت عن إجابته طويلًا… “لماذا؟”… لماذا هذا التعقيد الشديد في أجسادنا وأعضائه الداخلية والبكتيريا المُشكّلة لنا؟ لماذا هذا الاهتمام الشديد بخلق جمال للطبيعة وتنوّع نباتاتها وحيواناتها؟ لماذا الإصرار على إبداع عالم من الروعة في البحار والمحيطات التي أغلب مخلوقاتها الحية لا تعيش إلا في ظلمات أعماقها؟ لماذا هذا الإبهار في اصطفاف الكواكب والنجوم والنظام الشمسي والمجرّات؟ لماذا كل هذا إن كنا لا ندرك معظمه أو لا قد لا نستفيد من وجوده – حسب إدراكنا- أبدًا.
لم أجد سوى إجابة واحدة… إنه الإعجاز

إنه إعجاز الخالق، التحدّي الذي يجعلنا على دراية دائمًا بمقدارنا -كمخلوقات- وبمدى ضآلة قدرتنا مقارنة بعظمة قدرة الله. مهما بلغت بنا درجة الكبر والخيلاء، نظرة واحدة داخل جسمنا أو نظرة ميكروسكوبية أو تيليسكوبية تجعلنا نشعر بالعجز التام أمام قدرة الله تعالى.

إن الانسان إذا جهل عظمة الله تعالى، لم يُقدّر الله حق قدره، وانتابه الكبر بغرور العلم، وملأ عقله ظنون القوة المطلقة، فيعزي لنفسه المقدرة على ما لا يستطيع أن يقدر عليه. ولهذا فقد أبدع الله في كل خلقه ليجعل في كل منه آية، تُذكّره دومًا بحجمه الحقيقي، ومن أجل أن يوقن بأن ليس كمثل الله شيء.

إن الإنسان مولع دوماً بالبحث عن إجابات لتساؤلات تملؤه منذ أن خُلِق. فإن وجدها شعر بلذة الإدراك، قبل أن يعي أنه كلما ازدادت معرفته اتسعت حدود تساؤلاته. تُسكره نشوة العلم فيعيد صياغة معظم ما قد وصل إليه أسلافه، وكأنه يحاول الهرب من حقيقة أنه مجرد مخلوق مُتقن الخَلق، وسط كون فسيح لا يكاد يُذكَر فيه لضآلته.
google-playkhamsatmostaqltradent