إن من أجمل المشاعر المُبهجة في النفس،
هي التي تنتابنا عند استراجعنا للذكريات السعيدة من فترة الطفولة. ولعلّ
أمتع ذكريات طفولتنا هي أوقات الاحتفالات وبشكل أكثر تحديدًا الاحتفالات
التراثية الشعبية “الفولكلور*”. تحمل تلك الاحتفالات دومًا بريقًا ساحرًا
في عيون الكبار والصغار، بأجوائها الجذّابة، وفعّالياتها الخلّابة.
نتسائل كثيرًا بعدما تمر بنا السنون؛ عن سبب انبهارنا الدائم بها، وعن
مصدر السعادة التي تملأنا عندما نتذكر تلك الاحتفالات. قد لا نجد إجابة
مُحدّدة، فلكل منّا أسبابه للسعادة، لكنني أظن أن مشاركة عدد كبير من الناس
في فعّالياتها، و وتجمهر المتفرجين أيضًا يبث نوعًا من الطاقة المُبهرة
التي تأسرنا ولا نستطيع أمامها إلا أن نقف مفتونين. وكأنه إغواء لذيذ لا
نستطيع مقاومته.
من أجمل احتفالات الفولكلور التراثية التي عاصرتها في طفولتي هو احتفال له من الخصوصية أنه كان يُقام حصرًا في مدينتي فقط.**
إنه احتفال حرق اللنبي!***
عند نقطة تلاقي البحر الأبيض المتوسط بقناة السويس، تقع مدينتي -الجميلة دائمًا- بورسيعد، والتي تنفرد بعادة داومت على إحيائها بشكل سنوي تزامنًا مع احتفالات شم النسيم (احتفال القدماء المصريين بالربيع). وهي عادة حرق دمية / دُمى، حيث يقوم الكبار والصغار بصناعتها باستخدام القش والأقمشة القديمة ويتم حرقها في فعّاليات صاخبة وبعض الأهازيج والقصائد والأشعار. كان ذلك يتم عند كل شارع تقريبًا، وكأحد أولئك الأطفال كنت مبهورًا بتلك الاحتفالية رغم عدم إدراكي لمعناها ولا غايتها، لكن ذلك لم يمنعني من المشاركة في الحدث. نجتمع كأطفال تحت قيادة إخوة بعضنا الأكبر سنًّا، ونتشارك في صناعة دُمية بحجم رجل بالغ، تحيك إحدى الأمهات هيكل قماشي فارغ للدمية، كي نملأه بالقش والأقمشة، ثم نقوم بإلباسه ملابس قديمه من قميص وبنطال وأحيانًا جاكيت، وكلمسة أخيرة يقوم بعضنا برسم ملامح الوجه. عندما يحل الليل نجوب الشوارع الجانبية رافعين الدمية، مُرددين بعض الأغنيات التي لا أذكرها الآن، قبل أن نعود في النهاية إلى شارعنا كي نحرقها في مكان واضح، حيث تتابعنا عيون الجيران وهم يهتفون بأصوات لا تزال بقاياها تتردد في أذني.
بعد أن يقوم كل قاطني كل شارع بحرق دُميتهم
الخاصة، نذهب لمشاهدة فعاليات احترافية، ويحرص الآباء على اصطحاب أطفالهم
كي يشاهدوا تلك الفعاليات التي تمتد حتى الصباح. فتكون هناك منصة خشبية
عليها عروض مسرحية أبطالها دُمى مًصممة بشكل احترافي، تنتهي بمحاكمة صورية
على خشبة المسرح قبل أن يتم حرق الدُمى كمشهد ختامي للعرض.
وسط ألسنة اللهب التي ينعكس لمعانها على
عيني، ظل سؤالًا واحدًا ظل يتردد في عقلي… من هذا “اللنبي” الذي يحرقه كل
أهل مدينتي بهذه الحماسة؟
هو إدموند هنري هاينمان ألنبي، ضابط بريطاني برتبة مارشال والمُلقّب بالثور الدموي، وكان من أحد أنجح القادة البريطانيين، واشترك في الحرب العالمية الأولى والثانية. تم إسناد قيادة القوة التجريدية المصرية له، للإستيلاء على سوريا وفلطسين في عام 1917 و1918، وقد دعم جهود لورانس العرب، وانتصر في معركة غزة الثالثة على العثمانيين، وأسقط مدينة القدس بعد طردهم منها، وذلك بعد مرور شهر واحد من تنصيب أرثر بلفور وزارة الخارجية البريطانية، والذي أعطى فور تسلّمه المنصب وثيقة مكتوبة باسم الحكومة البريطانية للورد ليونيل روتشيلد يتعهّد فيه بإنشاء وطن قومي في فلسطين لليهود، واشتهرت الوثيقة باسم “وعد بلفور”.
دخول اللورد إدموند ألنبي إلى القدس من باب الخليل مشيًا على الأقدام، بعد فرض سيطرة بريطانيا على المدينة
في يوم 25 من أذار مارس 1919، تم تنصيبه
مندوبًا ساميًا بريطانيًا في مصر، بعد خليفته السير وينجت الذي فشل في
السيطرة على الثورة التي قامت في مصر على أثر اعتقال ونفي سعد زغلول إلى
مالطا، بسبب دفاعه ومحاولة إبطال الحماية البريطانية على مصر بعد انتهاء
الحرب العالمية الأولى، والتي عُرفت بثورة 1919.
قام ألنبي بجرائم ضد المواطنين وحرق الكثير
من القرى بشكل وحشي، لترهيب الجميع وإجبارهم على التوقف عن تعطيل المصالح
البريطانية في مصر. انتهى عمله رسميًا بعد استقالته للتقاعد، وعاد إلى وطنه
في حزيران يونيو عام 1925، بعد أن غادر من ميناء بورسعيد.
فور مغادرته الميناء قام أهالي بورسعيد
بالاحتفال بتخلّصهم من ذلك المندوب القاسي، ونفّسوا عن غضبهم ذلك بصنع دمية
كتبوا عليها اسمه وقاموا بحرقها، لتصبح عادة سنوية داوم عليها أهل بورسعيد
حتى يومنا… أي قرابة المائة عام.
ولأن دُمية الألنبي كانت رمزًا للطغيان،
فقد تغيّرت أسماء الدًمى لاحقًا وبشكل مُستمر لتشمل أسماء عديدة، لعلّ
أشهرها آريل شارون، وبنيامين نتنياهو، رؤوساء وزراء الكيان الصهيوني
المُسمى بدولة إسرائيل.
جانب من طقوس احتفالات عصرية لحرق الدُمى
لا تزال مراسم احتفالات حرق الدُمى
“الألنبي” المميزة تُقام حتى اليوم، وذلك في فعاليات كبيرة على منصات خشبية
تُقام عليها أدوارًا مسرحية تحكي قصصًا تاريخية عن بورسعيد، أو عن قصص
الظلم والطغيان والحث على مقاومتهم، أو عن سلبيات المجتمع والنماذج السيئة
منه، كاحتفال شعبي فلكلوري أصيل. بينما توقفت أغلب احتفالات الحرائق التي
كانت تُقام عند كل شارع، بعد أن منعتها السلطات الحكومية لدواعي الأمن
والسلامة، بسب تمديد أنابيب الغاز الطبيعي إلى منازل المدينة.
لا تزال تلك الذكريات مُفعمة بالحياة
داخلي، أشعر بالقش لا يزال يملأ ملابسي، ورائحة الأخشاب المحترقة تزكم
أنفي. يملأني الشجن ولا يتبقي معي سوى بهجة من ذكريات مُتبقية، تدفعني إلى
الكتابة عن هوية مدينتي المميزة، سواء في جمالها وسحرها أو في تقاليدها
وعاداتها واحتفالاتها الرمزية البسيطة، كي ندرك أنه كم من الجميل أن نكون
مختلفين ثقافيّا وسط عالم يصارع كي يكون قرية صغيرة بثقافة واحدة.
*فلكلور: تراث شعبي؛ مجموع التقاليد الشعبيّة والعادات الخاصة بثقافة بلد ما وحضارته. المصدر: معجم اللغة العربية المعاصرة.
** نشأ الاحتفال في مدينة بورسعيد، ومؤخّرًا انتقل الاحتفال لمدن القناة (الإسماعيلية – السويس) لكن بشكل أقل صخبًا.
*** اللنبي: أصلها الألنبي، وتم التخفيف بحذف الهمزة لتسهيل النطق.
مصادر تاريخية:
دراسات في ثورة 1919 – د. حسين مؤنس – دار المعارف
أيام لها تاريخ – أحمد بهاء الدين – الهيئة المصرية العامة للكتاب
الموسوعة البريطانية – الجزء الثامن