random
أخبار ساخنة

مراجعة كتاب ”الحافة المُطلّة على العالم“ - أحمد الحقيل




لا بأس أن يبدو كل شيء مُبتذلًا في هذه الحياة. كلمة السر ”أنت“. أنت المُتغيّر الوحيد في المعادلة. وأنت فقط سبب استمرار كل شيء بالنسبة لك! 


انجذاب


عندما بدأت قراءة هذا الكتاب لم أكن أعرف تحديدًا عمّا يحويه بشكل قاطع. كنت أظن أنه رواية أو مجموعة قصصية، بنيت هذا الظن على ما كُتب في الغُلاف الخلفي للكتاب. شدّتني النُبذة وأثارتني صورة الغُلاف الأمامي. ربما كان الغموض هو ما دفعني لقراءته، خاصة وأنا لم أقرأ للكاتب أحمد الحُقيل من قبل. وكما هو الحال مع كل كتاب أو كاتب جديد بالنسبة لي. أبدأ القراءة بين احتمالات الرضى والدهشة وخيبة الأمل. 


العشرة بالمئة الأولى من أي كتاب هي مؤشر مهم لي، نادرًا ما يخيب. هي بوصلتي لمعرفة اتجاه دفّة رضاي في بحر الحروف الذي أخوض فيه مع كل رحلة قراءة. ليست سببًا كفايًا لأتوقف عن القراءة بكل تأكيد. لكن هي كافية لي كي أوازن توقعاتي كي لا تصطدم في النهاية بما أقرأ. 


لم أتعدّ نسبة الواحد في المئة من الكتاب (ثلاث صفحات على أقصى تقدير) لتنحرف البوصلة إلى علامة الخطر ”انتبه. احتمال اكتشاف نصّ مختلف ومُميّز“. ولأنني لم أعد غرًّا كي أقع في شَرَك البدايات. فقد تركت نفسي لتيار قلم أحمد الحُقيل مُمنيًا النفس أن يأخذني معه إلى أبعد مما أتوقعه. وبعد أن انتهت قصته الأولى كان المؤشر قد ثَبَت بشكل نهائي على علامة التميّز. ومنذ تلك اللحظة تركت عالمي خلفي. وتحررت من مخاوفي. ومضيت مع أحمد الحقيل إلى حافته وأنا أعرف أنني قد تركت نفسي إلى يدٍ أمينة! 






هجين


الكتاب هو مزيج بين السيرة الذاتية والقصص القصيرة، أو كما وصفها الكتاب ”قصص قصيرة هجينة“. وأنا -للأمانة- لم أفهم المقصود بهذا المزج إلا عند بداية القصة الثانية. يُقسّم أحمد الحقيل الكتاب إلى قسمين متوازيين. قسم يسرد فيه فصولًا عن سيرته الذاتية، وقسم موازٍ بنفس عدد الفصول، لقصص قصيرة متنوعة. كل فصل من السيرة الذاتية يليه قصة قصيرة تُعبّر عنه. لكن المشكلة التي أوقعني فيها هذا الأسلوب هي أنني صرت مثل الثعلب (أو القرد الحكيم حسب الحكاية) في حكاية قطعة الجبن الرمزية القديمة وتقسيمها على كفّتين. كلما أنهيت فصلًا من فصول السيرة الذاتية أجدني مدفوعًا لبدء القصة التي تناقش ما فيه. وقُبيل انتهاء القصة تنازعني نفسي إلى الانتهاء سريعًا منها كي أقرأ الفصل التالي من السيرة الذاتية. وهكذا في تعاقب طمّاع بين هذا وذاك انتهى الكتاب مني على حين غفلة! 



ولسبب لا أفهم كنهه سوى أنني أتماهى مع أسلوب الكاتب أو أنني أذعن لصوت مجهول داخلي. قررت أن أكتب مراجعتي بشكل مختلف. بين صوتي أنا بشكل ذاتي وبين صوت الكاتب والكتاب! إنها فكرته على كل حال. فكرته عن التداخل بين الواقع والكتاب، وأثر كُل منهما على الآخر! 



أنا أقرأ إذن أحدهم موجود! 1


القراءة بالنسبة لي أمر أكبر من أن أستطيع شرحه. ربما دخلت إلى عالم القراءة حين طفولتي كأداة للتسلية أو لتزجية الوقت أو للتنفيس عن الخيال الشاطح في عقلي؛ الاقتناع بأن الشخصيات التي أصنعها في عقلي وأخترع أفكارهم وماضيهم وقصصهم، هو أمر لا يشي حتمًا بجنوني! ربما كان ذلك محاولة مِنّي للدفاع عن جنوني بوجود آخرين مثلي. مجانين على الورق. يُعاملون بكل احترام وترقب من قِبَل مجانين آخرين (قُرّاء)! 



الحافة


يقولون أن الحياة الحقيقية هي أن تعيش على الحافة. والمقصود بالحياة الحقيقية هي اللحظات التي تبتعد فيها عن الرتابة والروتين المتكرر. الحُب والغضب والحماس والخلوة والتأمّل، هي في حقيقتها حواف! لحظات انفصال عن المألوف. لحظات لا يُمكنها أن تستمر. ولا يمكنها أن تموت. تبقى مُعلّقة في سماء الروح كنجوم نهتدي بها عند شعورنا بالخطر. وحافة التأمل تحديدًا هي في حقيقتها عملية تقدير وتقويم. إعادة تفكيك وتركيب للواقع. حالة من البحث عن احتمالات مختلفة مُختبئة تحت ركام المتواتر والعادي والمُعتاد. يدخل الواحد فينا هذه الحالة (هذه الحافة) باختياره في بعض الأوقات، لكن في أغلب الأحيان تُفاجئه. مثلما يحدث أن تقرأ كتابًا مثل هذا الكتاب ” الحافة المُطلة على العالم“! 








أنا أقرأ إذن أحدهم موجود! 2


في نهاية الصف الأول الثانوي كنت قد أدركت يقينًا أن القراءة هي رافد مهم للارتقاء بالثقافة والحصول على المعلومة التي تُميّز الإنسان عمّن حوله. كان ذلك قبل انتشار أجهزة الكومبيوتر الشخصي (قبل خمس سنوات من بداية الإنترنت -للأفراد- في المنطقة العربية). كان سؤال التفوق (اختياري) في اختبار ما لا أذكره الآن، لعلّه اختبار مادة الفيزياء ( مادة الطبيعة هو اسمها العربي الذي أميل إليه) - ”ماذا يحدث لو توقفت الشمس عن الدوران؟“ - علمت لاحقًا أن المُدرّس انبهر بإجابتي النموذجية التي كانت أعمق مما يعرفه هو شخصيًا. كان حظي السعيد قد ساقني إلى قراءة قصة عن هذا الأمر تحديدًا مع إشارة وشرح لما جاء في مرجع علمي عن هذا الأمر باستفاضة. قرأتها قبل الامتحان بيومين. وكانت النتيجة انتقالي إلى زُمرة المتفوقين في المدرسة. 




المُطِلَّة


انزلقت إلى أول صفحات الكتاب بسرعة بالغة. ربما ابتلعني الحزن المُنساب في الحروف. أو ربما أعاد لي بعض الذكريات. والعودة إلى الذكريات مهما كانت حزينة أو سعيدة، فلا بُد أن تُدخلك في حالة من الشجن. من الاستسلام. من الإذعان, من التأمل والتفكّر. تُشعرك بعجزك عن التغيير. تدفعك للتساؤل عن أسباب اتخاذك قراراتك ومحاولة تخيّل احتمالات مختلفة بتغيير القرار الذي اتخذته حينذاك. لكن الأصعب هو أنك تجد نفسك حائرًا… لا تشعر بشيء مُحدد! لا تفهم جوهر ما يعتمل في روحك. تجد مشاعرك حيادية. لا حزن… لا فرح… تحسّ بعبرات قريبة… تلمس انجذاب مؤنِس. تدور حولك وفيك كل المشاعر والأحاسيس مُجتمعة. لكنك لا تقع في براثن أحدها. أنت على الحافّة تمامًا. تطلّ على نفسك. أنت في برزخ زرعك فيه أحمد الحقيل. هذا هو الأصعب الذي صنعه الكاتب. يستخدم أسلوبه السحري في إحالتك إلى عالمك الذي يشبه عالمه في كثير من الأشياء. يخاتلك بأسراره لتكتشف أنها أسرارك أنت مع تغيير بسيط لأسماء الأشخاص/المدن/الأداوت. 


تكفي الصورة في الصفحة 12 أن ترميك بلا رجعة قريبة؛ إلى ماضيك دون حتى أن يكتب الكاتب كلمة واحدة! 








أنا أقرأ إذن أحدهم موجود! 3



كلما تقدّمت في العُمر أدركت أن القراءة قد تخطّت كل أهدافها المعروفة لتصبح جزءًا من تركيبي الشخصي! خلوة تفتح مسام العقل للتفكّر والتأمل. تجربة مجانية لتختبر مئات السيناريوهات التي لم تعشها ولن تجرؤ على عيش بعضها. تنفيس عن غضب أو تعاسة أو انفعال زائد. التماس لحقيقة أو لوصف مشاعر مختلفة لا يُصرّح بها الناس في حياتهم، مشاعر تجاه أهلهم أو تجاه أبنائهم أو تجاه خالقهم. أثناء القراءة أنت تقرأ الحقيقة وليس الخيال كما يُروِّج البعض. تقرأ التوق الحقيقي إلى احتمال الحدوث وليس الحدث الواقع تحت وطأة ضغط المجتمع. 



عَلَى


تبقى نزعة الكتابة لُغزًا عصيًا على الإنسان. هناك مئات التفسيرات والتي هي أغلبها صحيحة مثل: حاجة إلى التنفيس. علاج للروح، نزعة إلى التباهي، إحساس بالتفوق، أمل في الخلود. لكن كل تلك التفسيرات خاضعة لعامل واحد مهم: الإرادة. أن يكون الفعل ذاته من اختيار الإنسان. أن تكون هناك النيّة ثم الإصرار على الكتابة. 

لكن الكتابة الحقيقية في الواقع هي الناتجة عن الرغبة المُلِّحّة العنيفة التي تعتمل في داخل المرء، فيشعر حينها أنه ممسوس بالكتابة. عندما يحاول تجاهل الحاجة إلى الكتابة، لكنه يبقى مُعذَّبًا بآلاف الكلمات التوّاقة لانفجار مهيب، ولا سبيل لخلاصه سوى بإطلاق سراح كل الحروف المسجونة داخله. 

هكذا تقرأ أحمد الحقيل، أو بالأحرى هكذا تقرأ الصوت الداخلي لأحمد الحقيل. هذا الصوت الذي يُعذّبنا أو يُحفزنا أو يثنينا كل يوم من وعن كل شيء تقريبًا. 


يندفع أحمد بالكتابة عن آلاف الأشياء. عن أفكاره. وآماله. وتردده، وعجزه، وجنونه. عن ذكرياته وقراراته وأسبابه وقوته وضعفه وحماسه واستسلامه. عن الذي كانه، وعن الذي كان من الممكن أن يكونه! عن الماضي وعن النُسخ الأخرى من أحمد الحُقيل التي لم يُسمح لها أن تعيش في عالمنا، فعاشت بين القصص، كاحتمالات حيّة في عوالم موازية يراها القارئ -وربما الكاتب- بشكل لم يحلم به إروين شرودنجر مع قطته الشهيرة! 






أنا أقرأ إذن أحدهم موجود! 4


عندما صرت كاتبًا، اصطدمت بالواقع. التصريح عن أفكارك أمر غاية في الصعوبة. فما بالك لو كانت الأفكار مختلفة أو غريبة عن المجتمع الذي تعيش فيه. لهذا بدأت في تقدير الكُتّاب الذين يجدوا الجُرأة الكافية لمشاركة القُراء بما يعتمل في نفوسهم. وشعرت بالامتنان لأولئك الكُتّاب الذين يُضَحّون بكثير من خصوصيتهم في سبيل أن يمنحوا الفرصة لآخرين بأن يشعروا بأنهم أُناس طبيعيون وأن هناك من هم مثلهم يعيشون في هذا العالم. بأن يهدوا أُكسيرًا من الشجاعة لمن ينتظر شرارة صغيرة من أجل أن يندفع إلى الكتابة بلا خوف. 



العالم


لا شكّ أن فصول السيرة الذاتية للكاتب قد أضفت على القصص القصيرة في الكتاب طابعًا شخصيًا. بالإضافة إلى أن هذه الطريقة قد جعلت القارئ يحاول ربط المعاني الظاهرة والخفية في الفصول مع أحداث القصص المختلفة. 


لكن جميع القصص بلا استثناء يجمع بينها عاملًا مشتركًا ألا وهو الشجن. تستطيع أن تلمس الحُزن المُنساب من الحروف. المشاعر الجارفة والأحاسيس المتضاربة. الاعتقادات المخفيّة بعناية عن الناس، والأفكار التي تُجاري ”تُسَلِّك“ بها الشخصيات أمورها مع من حولهم. 


لطيفة ومها - إبراهيم ونورة والدُب - علي وعذبة - سعود ووالدته - سعد وصالح وعايض - عبد العزيز وابنه وحفيده وحصّة. كل فرد وكل شخص وكل حكّي به طبقات عديدة متداخلة ومُعقدة، بعضها متضارب متنافر وبعضها وثيق الصلة. تمامًا -برمزية بارعة للكاتب- كدُرج جدّته المليء بأشياء مختلفة متنوعة متنافرة لكنها تبني حكايات حقيقية. 


ومع كل قصة نقرأها نجد جُزءًا من أنفسنا. ربما جُزءًا نعرفه وربما نسيناه وربما أخفيناه، بل وربما فات علينا أننا أخفيناه! نقرأ عن النوستالجيا والذكريات المُعتّقة في ذاكرتنا. عن السيارات والأغاني والزواج والأبناء والأهل والقُرى القديمة، والمدينة التي تتغيّر لمُدن جديدة تحاول القضاء على ماضيها في ذاكرتنا. نقرأ عن الرياض والدمام والشرقية والخفجي. نقرأ عن السعودية وتفاصيل متناثرة على ستار الزمن، لا يراها سوى من يتدبّر أو يتذكّر. 


وتأتي قصة ”حياة“ لتكون مِسْك ختام الكتاب. قصة مُعبّرة رغم أنها معروفة ومُكررة. وكيف لا وأنت لا بُد أنك كُنت فيها بشكل أو بآخر! 


اقتباسات





البيوت المهجورة، خصوصًا تلك التي تعرفها جيدًا إما بالعيش وإما بالمعاشرة، من أكثر المناظر إرباكاً للنفس. وكأنك تسير بين جثث هامدة، حيث كل شيء موجود كما كان، ولكن لا شيء موجود. استعارة مبتذلة للجسد والروح.

في الدور الثاني غرفةُ جدته، وفي زاويتها أدراجٌ ما زالت على حالها، لم تُلمس.

أدراجها استعارة أخرى مبتذلةٌ ولكن مثاليةٌ للحياة: تحوي كل شيء تقريبًا، ولكنها متداخلة ومتشابكة ومنزوعة السردية والمنطقية والسببية وتكتسب شرعيةً وجودها من فكرة بسيطة ترافقها هزَّةُ كتفٍ خفيفة: "ممكن نحتاجه"

عندما تجلس مع شخص، فأنت لا تجلس مع هذا الشخص الماثل في تلك اللحظة، ولكنك تجلس معه وهو يحمل كل اللحظات التي عاشها. هذا أهم ما يمكن أن تتعلمه عن الحياة، وعن التعامل مع البشر: الإنسان سياق. ولا أحد، كائنًا من كان، يستطيع أن يخبِّئ هذا السياق

يخبئ الإنسان في كلامه أكثر مما يُظهر

الإنسان سياق. لا يهمُّ إن كنت فلاحًا أو أميرًا أو وزيرًا أو موظفًا على المرتبة السادسة، أنت ستأتي بكلِّك ولا تستطيع أن تأتي ببعضك.



التقييم النهائي



كل فكرة قيلت من قبل. كل ما سيُكتب كُتب سابقًا. وربما كل ما نعيد تدويره من أفكار وكلمات ومشاعر هي أمور مبتذلة. لكن الروح التي تسكن الكلمات والحروف هي التي تمنح الحياة والألق والسبب للاستمرار والتجدّد. حينها فقط نفهم لماذا أنه لا بأس أن يبدو كل شيء مُبتذلًا في هذه الحياة. كلمة السر ”أنت“. أنت المُتغيّر الوحيد في المعادلة. وأنت فقط سبب استمرار كل شيء بالنسبة لك! 


تقييمي للكتاب 5 نجوم ⭐️⭐️⭐️⭐️⭐️


 معيار التقييم:

  • نجمة = لم يعجبني
  • نجمتان = مقبول
  • 3 نجوم = أعجبني
  • 4 نجوم = أعجبني بشدة
  • 5 نجوم = استثنائي


أحمد فؤاد
18 تشرين الأول - أكتوبر 2025



google-playkhamsatmostaqltradent